القوة... المفهوم الصحيح

أمير المؤمنين(عليه السلام) منهجاً

موقع الإمام الشيرازي

إن "استخدام القوة المفرطة" أو ما يعرف عند البعض بـ"الإرهاب"، بمختلف دوافعه (جهاد - مقاومة)، وقع معظمه ضد الشيعة، وقد تبنته تنظيمات تعرّف نفسها بأنها "تنظيمات إسلامية"، وتملك هذه التنظيمات جهازاً إعلامياً ضخماً، (تنظيمياً وتطوعياً ومتعاطفاً)، يؤكد هذا الإعلام أن التنظيمات التي تقوم بالعمليات الإرهابية، هي "تنظيمات إسلامية" تتبنى فقهاً معروفاً بعدائه المفرط للشيعة، ومن أسس هذا الفقه التكفيري، الاقتصار في تلقي أحكام الدين، أصوله وفروعه، على القرآن والسنة - بحسب ما يزعمون - وإن من أساسياته إطلاق لفظ (الصحابة) على كل من رأى رسول الله(صلى الله عليه وآله) ولو ساعة من النهار، حتى وإن كان طفلاً دون البلوغ، فإن نقل هذا الطفل حديثاً عن النبي(صلى الله عليه وآله)، حتى ولو كان منفرداً بهذا النقل دون غيره، وصح سنده إلى هذا الصحابي الذي كان طفلاً في حياته(صلى الله عليه وآله)، وجب اتباعه فيه وتصديقه.

 وعليه، فإنه لتقييم شرعية أو عدم شرعية "جهاد" هذه التنظيمات "الإسلامية" الذي تمارسه اليوم في العراق وسوريا وباكستان ودول أخرى في العالم، ينبغي عرض أعمالها على سيرة أحد صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله). والإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) أحد عظماء هؤلاء الصحابة بالاتفاق، هو أحد من عليه يجتمع المسلمون جميعاً، فقد تربى عند رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وزوجه ابنته(عليها السلام)، وقد تكاثرت فيه الأحاديث الشريفة التي ذكرت مناقبه العظيمة، وأعطاه(صلى الله عليه وآله) اللّواء في مواطن كثيرة، سيّما يوم خيبر، وقد قال(صلى الله عليه وآله): (وقال: لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كراراً غير فرار). وأخبر(صلى الله عليه وآله) أن الفتح يكون على يده (كما في الصحيحين)، وحمل يومئذ باب حصنها على ظهره حـــتّى صعد المســـلمون عليه ففتحوها، وفي ذلك قال علامة المعتزلة ابن أبي الحديد في قصيدته العينية: (يا قالع الباب الذي عن هزه .. عجزت أكف أربعون وأربع).

وفي البدء لابد من تأكيد جانب من القواعد العامة التي وضعها رسول الله(صلى الله عليه وآله) للحرب، والتي يمكن تلخيصها بما ورد في الأثر: فقد قال (صلى الله عليه وآله): (لا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة..). وروي أنه: (ما بيّت رسول الله عدواً قط).. أي لم يأخذ(صلى الله عليه وآله) عدوه أبداً على حين غفلة، ولم يشن هجوماً على عدو له ليلاً. وروي أنه: (نهى رسول الله(صلى الله عليه وآله) أن يلقى السم في بلاد المشركين). وهذه إشارة إلى تحريم استخدام أسلحة الدمار الشامل.

إذن: يقول(صلى الله عليه وآله): (لا تغلوا). وهذا نهي عن السرقة، وعن كل الرذائل في الحرب، يقول المرجع الشيرازي(دام ظله): (الرذيلة لا تنقلب إلى فضيلة، هذا هو منطق الإسلام، وسياسته الإنسانية حتى في الحرب، فالغاية لا تبرر الوسيلة أبداً).

ويقول(صلى الله عليه وآله): (لا تمثلوا). وهذا نهي عن الانتقام من رجال الخصم المصروعين، سواء قبل لفظهم أنفاسهم أو بعده. وهو ما توصل إليه المشرعون الدوليون في القرن الماضي، حيث أقروا تحريم العبث بالجثث، وشرعوا ضرورة دفنها في مقابر يعلن عنها، كما فعله رسول الله(صلى الله عليه وآله) بقتلى أعدائه في معركة بدر مثلاً.

ويقول(صلى الله عليه وآله): (لا تغدروا). وهذا نهي عن قتال الخصم قبل دعوته وإنذاره، فلم يباغت(ص) عدواً له، ليتلافى أية حرب. وتأسيساً على مبدأ عدم الغدر كان الالتزام بالعهود التي تقطع للعدو. وبعد ما يقارب أربعة عشر قرناً توصلت أوروبا إلى ذلك، واقترحت هولندا أن يوجه الإنذار قبل أربعة وعشرين ساعة على الأقل من بدء العمليات العسكرية، ولكن من يطبق ذلك فعلاً!.

ويقول(صلى الله عليه وآله): (لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة). لأن هؤلاء جميعاً من غير المحاربين، ولم يستيقظ العالم إلا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث طرحت هذه المسألة، وكرس اتفاق جنيف بتاريخ 12/ آب/ 1949م، لحماية المدنيين في زمن الحرب، ولكن هل طبق أو يطبق هذا المبدأ فعلاً من قبل الدول المتحاربة؟

ونهى(صلى الله عليه وآله) عن إلقاء السم في بلاد العدو، وهذا يعني عدم جواز استعمال أسلحة الدمار الشامل، لكي لا يتم القتل الجماعي للناس. ولم يتم اتفاق حول هذا الأمر إلا في 16/ كانون الأول/ 1971م، دون أن تلغى كلياً مسألة استخدام الأسلحة النووية.

إن أصل الجهاد في الإسلام هو للحفاظ على الحياة سليمة نقية خالية من مظاهر الفساد والانحراف والتسلط والاستعباد، ولذا فلا يعقل أن يستخدم في الجهاد (الغدر، التمثيل بالجثث، القتل الجماعي..إلخ) التي تعتبر نمطاً من الفساد والإفساد، فإن الأصل في الإسلام هو السلام، وما الحرب إلا استثناء، وإن الخيار الأول للإسلام هو العمل على التغيير والإصلاح بالوسائل السلمية، وحينما تفشل كل الجهود والمحاولات في هذا الإطار، فـ(آخر الدواء الكي)، يقول الإمام الشيرازي(قده): (إن الإسلام الذي جاء به رسول الإنسانية(صلى الله عليه وآله)، وقدّمه ذلك التقدّم الملحوظ، حمل بين طيّاته عدّة قوانين مهمّة، عملت على نشره في شتّى أرجاء العالم الأكبر، ومن أشهر هذه القوانين المهمّة التي كان لها دور طائل في تقدّم المسلمين ونجاحهم في مختلف الميادين هو قانون اللين واللاّعنف، الذي أكدت عليه الآيات المباركة، فضلاً عن الأحاديث الشريفة الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام)). ويقول(قده): (إن الإسلام هو دين السلم وشعاره السلام، فبعد أن كان الجاهليون مولعين بالحروب وسفك الدماء، جاء الإسلام وأخذ يدعوهم إلى السلم والوئام ونبذ الحروب والمشاحنات التي لا ينجم عنها سوى الدمار والفساد). ويقول المرجع الشيرازي(دام ظله): (إن الإنسانية والعدل وتعميم الخير والصالح العام هي الأسس المتينة الثابتة لكل تصرفات الإسلام حتى في حالة الحرب، مما لم نجد له في التاريخ مثيلاً، لا تاريخنا المعاصر، عصر الحروب والتدمير ولا تاريخ العالم الماضي، ولا تاريخ أي مذهب أو دين آخر).

كان الحكام في السابق يتصرفون على أنهم المالكون لأرواح الناس، فكان لا يمنعهم مانع من قتلهم أو التضحية بأرواحهم بإرادتهم الخاصة، ولكن الرسالات الإلهية أتت لتضع حداً لهذا الحق المزعوم، فإن الله(عزوجل) هو رب البشر، لا الملوك والأباطرة ولا الحكام والأمراء والسلاطين، فقد جاء في القرآن الكريم قوله(عزوجل): ((وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ)). وقوله ((وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً)). وقوله(عز وجل): ((مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنّمَا أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً)). والنفس هنا، هي أي نفس بغض النظر عن كونها مؤمنة أم غير مؤمنة، المهم ألا تكون قد قتلت نفساً غيرها بغير نفس أو فساد في الأرض.

 وقد أكد رسول الله(صلى الله عليه وآله) حرمة دم المؤمن بشكل خاص ودم الإنسان بشكل عام، وهذا ما تقيد به أمير المؤمنين(عليه السلام) وأمر عماله بذلك. ففي عهده إلى مالك الأشتر عندما ولاه مصر، يقول له: (إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شيء أدعى لنقمة، ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة، من سفك الدماء بغير حقها والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا فيه من الدماء يوم القيامة , فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام , فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله، ولا عذر لك عند الله وعندي في قتل العمد، لأن فيه قود البدن). وهذا مبدأ التزم به الإمام علي(عليه السلام) حتى مع أعدائه، فعلى الرغم من تحرك الخوارج ضده وتكفيرهم له، كان يقول لهم (أي للخوارج): (لا نبدؤكم بحرب حتى تبدؤونا به). ولم يكن أمير المؤمنين(عليه السلام) يتحرز من سفك دماء المسلمين فحسب، بل حتى غير المسلمين من أهل الذمة وغيرهم، فقد أوصى مالك الأشتر بالرحمة بالناس مسلمهم وذميهم بقوله(عليه السلام): (ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان، إما أخ لك في الدين و إما نظير لك في الخلق).

قوة العدل

ابتلي الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(سلام الله عليه) بأشخاص ذوي نفسيات وضيعة تردّ وتتطاول عليه، وهو الحاكم الأعلى الذي بايعته الأمة قاطبة، ناهيك عن كونه منصّباً من قِبل رسول الله(صلى الله عليه وآله) وبأمر من العلي القدير، فكان(سلام الله عليه) يجيبهم ويترك لهم حرية الاعتقاد والتعبير. وكان زنديق يُسمى بـ(ابن الكواء) يردّ على أمير المؤمنين(سلام الله عليه) حتى وإن كان على المنبر، ومع ذلك تركه(سلام الله عليه) وشأنه يعيش بسلام، ولم يتعرض له بسوء.

ويروى أن أمير المؤمنين(سلام الله عليه) خرج ذات ليلة من مسجد الكوفة، وقد مضى ربع الليل، وكان معه كميل بن زياد، وفي طريقهما طرق مسامعهما صوت حزين لرجل يتلو قوله(عزوجل): ((أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون...)). فاستحسن كميل حال الرجل من غير أن يقول شيئاً، فالتفت إليه(ع)، وقال: (يا كميل لا تعجبك طنطنة الرجل، إنه من أهل النار، وسأنبئك فيما بعد). ومضى حين من الزمن، وقد آل أمر الخوارج إلى مقاتلة أمير المؤمنين(سلام الله عليه) في النهروان، التفت(سلام الله عليه) إلى كميل والسيف في يده يقطر دماً ورؤوس الخوارج على الأرض، فوضع رأس السيف على أحد الرؤوس، وقال يا كميل ((أمّنْ هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً)). وكان رأس ذلك الرجل.

إن حكومة أمير المؤمنين(سلام الله عليه) ضمنت للمعارضة حرية لم تصلها أكثر البلدان حرية اليوم، فقد استوعبت حتى الزنادقة ما لم تتآمر وترفع السيف، وذكر في كتب الحديث أن أمير المؤمنين(سلام الله عليه) هدده بعض الخوارج بالقتل، فتركه وشأنه. لكن حينما تجمع "المعارضون" عسكرياً في النهروان لتهديد الأمن العام، وكانوا قد قتلوا عدداً من المدنيين غدراً، نهض(سلام الله عليه) ليقهر أعداء الدولة والمجتمع، فقتل الجيش العلوي - في بضع ساعات - ما يقارب عشرة آلاف من التكفيريين، بعد أن صمت آذانهم وصدأت قلوبهم عن الاستماع لمواعظ سيد البلاغة وإمام الكلام، الذي قال فيه سيد الأنبياء(صلى الله عليه وآله): (علي مع الحق، والحق مع علي، يدور معه حيثما دار).

مانشيت:

* يذكر الإمام الشيرازي(قده) في كتابه (فضائل آل الرسول(عليهم السلام)): (قال ابن عباس وأنس وزيد بن أرقم وسلمان الفارسي وجماعة: إن علي بن أبي طالب أوّل من أسلم، ونقل بعضهم الإجماع عليه، ونقل أبو يعلى عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: بُعث رسول الله(صلى الله عليه وآله) يوم الاثنين وأسلمت يوم الثلاثاء. وأخرج ابن سعد، عن الحسن بن زيد قال: لم يعبد الأوثان قطّ لصغره (بل لعصمته)، ومن ثم يقال فيه: كرّم الله وجهه. وهو(عليه السلام) أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأخو رسول الله(صلى الله عليه وآله) بالمؤاخاة، وصهره على فاطمة سيّدة نساء العالمين(عليه السلام)، وأحد من جمع القرآن وعرضه على رسول الله(صلى الله عليه وآله). ولمّا هاجر النبي(صلى الله عليه وآله) إلى المدينة أمره أن يقيم بعده بمكّة أيّاماً حتّى يؤدّي عنه أمانته والودائع والوصايا التي كانت عند النبي(صلى الله عليه وآله) ثم يلحقه بأهله، وذلك بعد أن أمره بالمبيت على فراشه، فرضي(عليه السلام) أن يقي بنفسه رسول الله(صلى الله عليه وآله) ووطّن نفسه على الموت، فنزل فيه(ع): (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، والله رؤوف بالعباد)، وشهد مع النبي(ص) سائر المشاهد إلاّ تبوك، فإنه(صلى الله عليه وآله) استخلفه على المدينة وقال له حينئذ: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى»).

* إن "استخدام القوة المفرطة" أو ما يعرف بـ"الإرهاب" اليوم أصبح يأخذ المساحة الأوسع في تغطية معظم وسائل الإعلام، فقد استباحت تنظيمات مسلحة (قتلاً وتدميراً) كل الأمكنة، وكل الأزمنة، فلا حرمة لإنسان ولا مسجد، كما لا حرمة لأشهر حرم، إذ ليس لتلك التنظيمات حدود، فلا حدود في القتل، ولا حدود للقسوة في القتل، فعادة ما يتعرض الضحايا إلى أبشع أنواع التعذيب، ثم يجري تفريغ كامل القوة العنيفة على الرأس، سواء أكان ذبحاً بسيف أو سكين، أو قطعاً بالمنشار الكهربائي، أو تحطيماً بالرمي من البنايات العالية، وأحياناً - كما يجري في سوريا الآن - يحرق الرأس بعد قطعه ثم يعلق على أعمدة الكهرباء، وأيضاً شاع قتل مجموعة من الناس في وقت واحد، من خلال تفجير السيارات الملغمة أو الأجساد المفخخة، هذا فضلاً عن أعمال اغتصاب النساء، ونهب الأموال، وتدمير الممتلكات الخاصة والعامة.

* أجوبة المسائل الشرعية العدد (188) لشهر رجب الأصب  لسنة 1434 هـ / إعداد لجنة الاستفتاء في مكتب الإمام الشيرازي

http://alshirazi.com/rflo/ajowbeh/ajowbeh.htm

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 23/آيار/2013 - 12/رجب/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م