التفكير الآني والاستراتيجي

 

شبكة النبأ: يؤكد المعنيون أن التفكير الاستراتيجي هو الذي نقل المجتمعات الى حيز التقدم، من خلال الابتكار الدائم وتنمية روح الابداع، ونبذ الفكر السطحي او الآني، فقد استطاع (Henry Minzberg) في عام(1994م) أن يضع مفهوم التفكير الاستراتيجي في إطار أكاديمي واضح، وحدد غاياته وأبعاده ووضع حدوده مع المصطلحات الأخرى. فقد أشار الى أن التفكير الاستراتيجي هو طريق خاص للتفكير، يهتم بمعالجة البصيرة، وينجم عنه منظور متكامل للمنظمة، من خلال عملية تركيبية ناجمة عن حسن توظيف الحدس والإبداع في رسم التوجهات الإستراتيجية.

إذاً يعتمد التفكير الإستراتيجي على الابتكار وتقديم أفكار جديدة يصعب على المنافسين تقليدها إلا بتكلفة عالية أو بعد وقت كبير، ومعظم الأفكار الجديدة في مجال الإدارة ظهرت في مناخ ديمقراطي يسمح باشتراك أكبر عدد من الأفراد مع إعطائهم أكبر قدر من الحرية المنظمة في التعبير عن آرائهم وعدم فرض أية قيود على الاقتراحات والأفكار المقدمة منهم، بل يتم تقييمها في مرحلة لاحقة لتقديمها لضمان وجود أكبر قدر ممكن من الأفكار والمقترحات البناءة، فكثير من الأفكار الخلاقة بدأت بأفكار كان من الصعب تصديقها.

أما التفكير الآني غالبا ما ينحصر بالفائدة الذاتية السريعة، أي عندما يضيق أفق التفكير وينحصر بالذات من حيث الفائدة، وبالآنية من حيث البعد أو الزمن، لذلك تبقى الفوائد والنتائج المتوخاة من التفكر الآني، ذات طابع فردي، فضلا عن كونها تفتقر لسعة الأفق والذهاب بعيدا في حياض المستقبل، وهذه سمة التفكير الاستراتيجي الذي يتميز بسعة الآفاق، وتعدد الابعاد، بالاضافة الى تميزه بالفائدة ذات الطابع الجمعي أو الكلي.

يتضح الآن أن ثمة بونا شاسعا بين هذين النوعين من التفكير، أحدهما فردي منحسر ضيق الافق، والآخر جمعي كلي ينحو الى البناء الاستراتيجي، لهذا تتميز المجتمعات المتقدمة بكونها تنحو وتفضل النوع الثاني من التفكير، على الرغم كمن انها تحترم الفردية، ولا تقزّم الرأي أو الفكر الفردي، بل تطلق العنان للفرد كي يبدع ويطور قدراته ومواهبة، بل تحثه على ذلك وتوفر له المجالات والظروف التي تساعده على استثمار طاقاته المتنوعة الكامنة والظاهرة، بمعنى اوضح عندما تفضّل الدول المتطورة طريقة البناء الجمعي الاستراتيجي، فإنها لا تقف امام توجهات وتطلعات الفرد في تفكيره وابداعه، انما تدعمه في تحقيق ذلك.

في المجتمعات المتأخرة يحدث تناقض غريب في هذا الجانب، فهي على الرغم من كونها ذات طابع فكري ينحو الى الفردية ويفضل الذات، من خلال التفكير الآني الذي لا ينظر الى المستقبل، ولا يتعامل مع الافق البعيد، ولكنها في الوقت نفسه تقمع الفرد وتقصيه، وبهذا يتحول الانسان في المجتمعات المتأخرة الى كائن مهمش وفاشل لسببين اساسين، الاول أن تفكيره آني سطحي يفتقر للعمق ولا يذهب بعيدا في آفاق المستقبل، اما السبب الثاني فيتمثل بحالات الاقصاء التي يتعرض لها، لاسيما الاقصاء الحكومي الذي يهمّش مواطنيه، باستثناء الذين يصطفون الى جانب السلطة من اجل المصالح الآنية، وهم فئة لا تشكل نسبة كبيرة من المجتمع.

وهكذا يكون الفشل حليف المجتمعات التي يطبع تفكيرها الافق المحدود، على العكس تماما من المجتمعات التي تتعامل فكريا مع الآفاق المفتوحة، وهذا بطبيعة الحال يتبع منظومة الفكر السائدة في المجتمع، وثقافته، ومقوماته الاخرى (منظومة القيم والاخلاق والاعراف) فضلا عن المنهج السياسي ونظام السلطة وتداولها، فعندما يتراجع دور المفكر والمثقف والقائد ورجل الدين والنخب الاخرى، في ترسيخ التفكير الاستراتيجي، عند ذاك يتحول المجتمع بأغلبية أفراده الى التفكير السطحي الآني، وهنا ستكون سمة التفكير المصلحي الآني هي السائدة، ويغيب دور الابتكار والابداع، ويبقى الفرد والمجتمع في حالة تراجع فكري وانتاجي متواصل، لأن الفردي يسعى الى فائدة سريعة وينسى المستقبل وأهمية بناء الركائز السليمة التي يُبنى عليها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 22/آيار/2013 - 11/رجب/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م