شبكة النبأ: من المعروف للجميع، أن
أشكال الاستعمار لا تنحصر بالاحتلال العسكري ومظاهر القوة فحسب، إنما
هناك أشكال وأساليب اخرى، تجعل من الدول المتأخرة قابلة للاستعمار
وخاضعة لارادة الدول الكبرى، ومنها على سبيل المثال، الاستعمار
(الاقتصادي والثقافي) وسواهما، لذلك عندما نتحدث عن موضوعة التحرير،
ربما يعترض علينا احدهم، فيقول، لقد انتهى زمن الاحتلال منذ نصف قرن او
اكثر، وهو يقصد بذلك الاحتلال بالقوة العسكرية، أما الاستعمار بأشكاله
الاخرى لاسيما الاقتصادي والثقافي، فهو قائم الى الان، وموجود فعلا،
وهو قادر على التحكم بدول ذات حكومة وسيادة واخضاعها للمستعمِر، من
خلال جعلها تابعة اقتصاديا وثقافيا للدولة المستعمِرة، لذا تكون معظم
الدول الضعيفة والغنية في الموارد والمواد الاولية، تحت نير الاستعمار،
وغالبا ما تكون هذه الدول المتأخرة، واقعة تحت نير كلا الشكلين.
لذلك عندما نتحدث عن ثقافة التحرير الآن، فإننا نعي تماما ان الواقع
الاسلامي يمر بهذه المحنة، الامر الذي يتطلب وعيا فكريا وسياسيا
وثقافيا مضاعفا لمواجهة الاهداف الاستعمارية، وذلك من اجل تحقيق
التحرير الكامل من كل اشكال الاستعمار المتعارف عليها.
الوعي الفكري المبكر
لقد وعى عدد من المفكرين والمصلحين هذه المحنة مبكرا، فدعوا الى
الخلاص من المستعمِر وقدموا الافكار المناسبة في هذا المجال، كما نلاحظ
ذلك في طروحات وافكار ومؤلفات، الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد
محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، لاسيما في كتابه الموسوم بـ (ثقافة
التحرير)، فقد اكد سماحته في المقدمة قائلا عن هذا الكتاب: إنه (كتاب
كتبته للإشارة إلى الأسس التي يُبنى عليها التحرّر عن نير الغرب والشرق
عبر الاستقلال الثقافي، الذي هو مقدمة للاستقلال السياسي والعسكري
والاقتصادي والاجتماعي وغيرها).
وقد ألقى الامام الشيرازي مسؤولية ما تتعرض له بلاد المسلمين من
تبعية واستعمار غير مباشر في الظرف الراهن، على المسلمين أنفسهم
وتقصيرهم في هذا المجال، وذلك من خلال تقاعسهم، وكسلهم وتراجعهم في عدم
وضع ورسم وتنفيذ الخطوات اللازمة، من اجل اللحاق بالركب العالمي
المتقدم، إذ نقرأ قول الامام الشيرازي في هذا الخصوص بكتابه نفسه: (إن
المسلمين بعد طولِ نيامٍ دام ما لا يقل عن قرنين حيث رأوا بأمّ أعينهم
تقدّم الغرب المادي كان منطقهم العملي ــ وإن لم يكن منطقهم الفكري ــ
ناموا ولا تستيقظوا- وما فاز إلاّ النُوَّم- وعدم وضع الخطوات الجادة
لأجل أن يكونوا في مصاف الغرب).
وقد كانت هناك جهود نضالية تحررية أدت الى القيام بمحاولات جادة من
اجل التحرر والسير في طريق التقدم، إذ أكد الامام الشيرازي في كتابه
المذكور نفسه، على هذه الجهود المتمثلة بثورات وانتفاضات قوية ضد
الاستعمار من اجل التحرر، سجلها التاريخ بحروف من نور، لذا يقول سماحة
الامام في هذا الجانب: (لقد ظهرت بوادر الوعي شيئاً فشيئاً في المسلمين،
وذلك منذ قرن بالرجوع إلى الاستقلال عن الخارج، والشورى ونبذ الاستبداد
في الداخل، وما حركات النهضة في العراق وإيران ومصر وباكستان
وأفغانستان وتركيا وسوريا وفلسطين والمغرب العربي الإسلامي، وإندونيسيا
وأفريقيا، وأخيراً في الأجزاء الإسلامية من روسيا وغيرها إلاّ أدلة على
ذلك).
الارهاب الداخلي والخارجي
إن التخلف السياسي والاقتصادي لا يأتي من فراغ، بل ثمة اسباب تقف
وراءه حتما، فالمستعمر له اساليبه في اضعاف الدول الاخرى حتى يمكنه
السيطرة عليها وسلب خيراتها، ومن هذه الاساليب إبعاد المجتمع الاسلامي
عن الوعي والثقافة والتعليم وما شابه، ومن ثم ظهور بؤر التطرف نتيجة
الجهل، ثم ظهور الارهاب، والسعي للسيطرة على الحكم بالقوة الغاشمة (الانقلابات
العسكرية)، وهي سياسة (القوي يأكل الضعيف)، علما أن المستعمرين يدعمون
هذه السياسة من اجل زيادة ضعف المسلمين وتناحرهم لكي تسهل السيطرة
عليهم وعلى خيراتهم وثرواتهم.
يقول الامام الشيرازي في كتابه هذا: (إذا كان هناك إرهاب داخلي كما
هو المشاهد في أكثر بلاد الإسلام، أو خارجي كما في أكثر حكومات
الانقلابات العسكرية ونحوها، فإن الحكم يكون بيد من يتمكن من أخذ
السلاح بيده والغالب هم من غير الصالحين، أو بيد من ينتخبه المستعمرون
وهم من العملاء الذين لا يرون للصلاح وزناً.. إنما همّهم الإذلال و
الإفقار للشعب، وجعل بلاد المسلمين بقرةَ حلوبٍ للأجانب).
وهكذا يكون الارهاب والسيطرة على السلطة بعيدا عن الدستور والتداول
السلمي، سببا في إفقار الشعب وإذلاله، وسلب ثرواته، من خلال سيطرة
المستعمر على مقدراته حتى لو تم ذلك بصورة غير مباشرة، أي من خلال
تبعية الحكام للمستعمِر، لذلك يبقى الحل في التحرير الكامل من سيطرة
الاستعمار السياسية والاقتصادية والثقافية، من خلال نشر منهج الشورى في
العمل السياسي، وانتخاب القادة الذين تنطبق عليهم شروط قيادة دفة الحكم
وادارة شؤون الناس بعدل وانصاف، ولا يمكن أن يتحقق هذا الشرط المصيري،
إلا من خلال بث الوعي السياسي السليم ومضاعفة التخطيط الاقتصادي
السليم، لبناء دولة المؤسسات القادرة على حماية الجميع.
لذا يقول الامام الشيرازي بهذا الخصوص: (لا يخفى أن الإتيان
بالأشخاص الصالحين لا يكون إلاّ عبر الوعي و الاقتصاد السليم إذ لولا
الوعي لصفّق الجماهير لكل من يأتي إلى الحكم، كما هو المشاهد في أكثر
بلاد الإسلام، ولولا الاقتصاد السليم لكان الاحتياج إلى الغرب ونحوه،
والمحتاج لا نصيب له من الحكم).
لذلك يبقى اسلوب الاستعمار واضحا ومعروفا لدى الجميع، وما على
القادة المخلصين إلا التصدي لهذا الاسلوب بقوة وإرادة و وعي، وهو اسلوب
خلق الازمات وصناعة بؤر الارهاب والتطرف، حتى لا يستقر المجتمع ولا يجد
فرصة للتطور، بل يبقى مشغولا بمعالجة الازمات، أما المستعمِر فيكون
مشغولا بأمرين، الاول هو التخطيط والتنفيذ لادامة الازمات والارهاب،
والثاني سرقة وسلب ثروات الشعوب المتأخرة.
لهذا نبّهنا الامام الشيرازي في كتابه (ثقافة التحرير)، الى أن: (من
أهم وسائل المستعمرين في بلاد الإسلام ــ بل في كل العالم الثالث ــ
الإرهاب والأزمات، وذلك لإشغال الناس بالتوافه عن التفكير في مصيرهم
الأسود وحاضرهم البائس). |