رجال الفُتيا الجنسية والنوايا الغامضة

 

شبكة النبأ: الإنسان محبّ للتطور والتغيير نحو الأحسن من خلال اكتساب المزيد من العلوم والمعارف واكتشاف أسرار ما حوله، حتى البعيد عنه لمسافات، وما نلاحظه من سرعة التطور التقني والتقدم العلمي في شتى المجالات، يعكس هذه الرغبة الفطرية في داخل الإنسان. فاذا كانت هذه فطرة الانسان، أي إنسان.. كيف به اذا في ظل الإسلام، وهو  الدين الذي أقرّ له علماء الغرب والشرق منذ عقود بأنه أبو العلوم والمعارف. لكن قبل أن يحفز الإسلام نحو طلب العلم والمعرفة، نظّم له برنامجاً متكاملاً لحياته الشخصية بحيث ينعكس النجاح فيها على مسيرة عمله وعلاقاته مع الآخرين، وتخلق لديه الإرادة والثقة بالنفس والهدفية في الحياة. وأبرز فقرة في الحياة الشخصية للانسان؛ هي "الجنس".. هذه الغريزة التي أودعها الله تعالى في نفس ابن آدم، لتكون له عاملاً مساعداً على البناء والتقدم في الحياة. والآية الكريمة صريحة وواضحة في هذا المجال: "وخلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها". إذن؛ "لام التعليل" هنا تؤكد أن ممارسة الجنس مع المرأة وفق الضوابط والأحكام الموجودة، يوفر السكن والاستقرار النفسي للانسان، وبما أن حدود الجنس محدودة في زمان ومكان، فان استيفاء حق الانسان منها بالشكل الصحيح والمطلوب يجعله منطلقاً في رحاب العمل والانتاج والإبداع، أما اذا لم يحصل هذا، فانه سيكون حبيس الجدران الأربعة في مخيلته ونفسه، حتى تطبق على كيانه وشخصيته، ومن ثم يتحول الى انسان متأزم وفاقد للشيء ليل نهار، فكيف يكون لفاقد الشيء أن يعطي ويقدم للآخرين؟

هنا تحديداً يأتي دور عالم الدين الذي درس وتعلّم أحكام الإسلام، كما قرأ وخبر المفاهيم والقيم الاخلاقية، وهي تحمل منظومة متكاملة من التعاليم في شتى نواحي الحياة، ولعل مسألة الجنس تأتي في زاوية أو ناحية صغيرة، لأنها بالأساس غريزة موجودة وجاهزة، بحاجة فقط الى التقويم والتوجيه، فيما يفترض ان يكون الحرص والجهد على مسائل العبادات ضمن العلاقة بين الانسان وربه، ومسائل التجارة والمعاملات ضمن العلاقة بين الانسان وأخيه الإنسان، والعلاقات الزوجية والاجتماعية ومسائل القضاء، بينما نلاحظ بغير قليل من الغرابة أن الساحة الاسلامية، وفي زمن التطور التقني والعلمي السريع، تعجّ بحديث صاخب حول الجنس، أضفى عليه البعض ممن تجلببوا لباس علماء الدين، صفة "الفتوى"، وهي تخوض في وادٍ سحيق من الرغبات والميول الجنسية، ظناً من هذا البعض أنهم يحلّون مشكلة في بلادهم..!

وبنظرة خاطفة على البلاد التي تحولت الى أرض خصبة لنمو وانتشار "فتاوى الجنس"، نجد أمامنا مشاكل مزدوجة؛ أولاً: المشكلة بالأساس ليست في غريزة الجنس لدى الرجل أو المرأة، إنما في العلاقات الأسرية والاجتماعية غير المنضبطة في قانون وأحكام مستمدة من جذور نظيفة، مما أوجد ثغرات وتصدعات في هذه العلاقات، وبات الأفراد يبحثون عن البديل لسد هذه الثغرات. والأمر الآخر؛ يتعلق بالسياسات التي تتبناها أنظمة الحكم، فالتطرف الديني والتشدد بأقصى حدوده، يعده حكام السعودية – مثلاً- صمام أمان يحول دون انفجار الحالة الاجتماعية وتأثيرها على الحالة السياسية. وفي جانب آخر، يمكننا ملاحظة الحرص لدى بعض الجماعات التي تحمل صفة "الاسلامية" في بعض البلاد، على إحكام العلاقة بينها وبين أفراد المجتمع، في محاولة بائسة لسد الطرق على خيارات عديدة أمام إنسان اليوم لحل الأزمة العاطفية والمشكلة الاجتماعية بشكل عام، وتُعد مصر المثال الأبرز في هذا المجال.

من هنا فان "الفتاوى" المثيرة، من قبيل "إرضاع الكبير لنشر الحرمة"، أو "ختان الإناث"، أو "حرمة التجرّد من الملابس خلال المعاشرة الزوجية"، لها خلفيات في الثقافة الاجتماعية والأسرية وأيضاً الدينية، حيث تفتقر مجتمعاتنا الى التوجيه الى ما هو مباح ومطلوب، وما هو محظور وضار، ابتداءً من العلاقات بين الزوجين، ثم العلاقات بين افراد الأسرة الواحدة، وايضاً العلاقات الاجتماعية بشكل عام. مثال بسيط على ذلك، مسألة الخلوة بالمرأة غير المَحرم، وهو سؤال عفوي يصدر من أي موظف في شركة أو دائرة حكومية يشترك مع امرأة في غرفة واحدة، مع افتراض صعوبة العزل بين الموظفين الموظفات، فان الجواب البسيط ايضاً من مصادر الحديث، أن يترك الباب مفتوحاً وحسب، عندها لا حرج ولا مشكلة في الموضوع، بينما نلاحظ البعض يسعى لخلق مشكلة بالإصرار على غلق الأبواب، ثم إيجاد حل لهذه المشكلة، وهي بدورها تولّد مشكلة أخرى، ربما أكبر وأكثر خطورة. وهذا ما يدفع معظم "المفتين الجنسيين" إلى التراجع – على الأغلب- عن فتاواهم المثيرة بعد أن يجدوا ردود الفعل العنيفة من المجتمع.

لكن أنّا تكون المصادر الموثوقة والأصيلة للحديث الشريف قريبة من المجتمع المصري أو المجتمع الخليجي أو المجتمع المغربي وغيره..؟ لأن في بعض المكتبات مليئة بالمصادر الملوثة بالدسّ والإسرائيليات، بل حتى الإساءة الى الرسول الأكرم وأهل بيته عليهم السلام. وقد أصاب أحد الكتاب الاسلاميين، عندما عزا حملات الإساءة التي تصدر في الغرب للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، الى كثرة مصادر الحديث المسيئة أولاً، والتي يستند اليها كتاب السيناريو في أفلامهم أو مؤلفي الكتب التاريخية حول سيرة حياة النبي الأكرم، وعلاقاته الاجتماعية. ولمن يريد تصفح بعض الكتب "المعتبرة" لديهم، ليرى البون الشاسع بين أخلاق النبي وعفته وسلوكه المستمد من السماء، وبين ما يُنسب اليه ظلماً وعدواناً. لذا يجب أن نستغرب كثيراً الصرعة الجديدة في عالم "الفُتيا الجنسية"، بإجازة الزوج مضاجعة زوجته وهي ميتة..! بدعوى "مضاجعة الوداع". ربما تكون الفتوى جديدة ومثيرة وهي تنتشر على النت وعلى القنوات الفضائية، إلا انها تستند على مصدر مغمور ومركون تحت الأتربة. لنقرأ الحديث المزعوم الذي استندت عليه هذه "الفتوى": "قال البلقيني و وطء الميتة لا يوجب الحدّ على الأصح…"، والمصدر هو (الإقناع للشربيني / ج 2 / ص 638 / ط دار الفكر 1415هـ). وهذا حديث آخر ربما يؤيد ما سبق: "… وبخلاف إدخال امرأة ذكر ميت غير زوج في فرجها فلا تُحد فيما يظهر لعدم اللذة كالصبي..."!! والمصدر هو (حاشية الدسوقي / ج4 / ص 314 / ط دار الفكر).

وهناك امثلة كثيرة وعديدة عن الحالات العفوية في حياتنا الاجتماعية، يمكن معالجتها بسهولة لا تلفت النظر بتاتاً، واذا اردنا الحديث عن كل الفتاوى المثيرة، يلزمنا بحثاً مطولاً عن المشاهد المخجلة التي يتحدثون عنها، ثم يكون علينا أن نبحث عن المصدر الذي يستندون عليه.

والعجيب في الأمر حقاً؛ أن نسمع من الجماعات السلفية والوهابية التي تقف خلف هكذا أقاويل وأكاذيب، تدّعي في الوقت نفسه المشاركة في عملية التغيير الاجتماعي والثقافي والسياسي في البلاد العربية في ظل ما يسمى بالربيع العربي. فهم يخوضون الانتخابات ويشاركون في الندوات والحوارات والمطارحات الفكرية، مستفيدين من أجواء الحرية التي لم تتوفر لولا التضحيات الجسام التي قدمتها الشعوب الاسلامية أمام طغاة العصر وحكام الجور. فما الهدف والغاية التي دفعت الشعوب لأن تنتفض رغم مرور السنوات الطوال على تجرعها مرارة الديكتاتورية والتضليل..؟ سوى أن تكتسب الثقافة الأصيلة والفكر النيّر الذي ينتشلها من الضياع والحرمان على الصعيد الثقافي والعلمي، واذا وضعنا هذا الطموح الكبير في كفّة، ووضعنا المستوى الذي عليه أدعياء الدين في الكفة الأخرى لرجحت الكفّة الأولى بلا جدال، وإلا لكان هؤلاء في طليعة من يفتحون أبواب العلوم والمعارف على مصراعيها، بدلاً من فتح أبواب الإثارات الجنسية، كما لو أنهم كتاب سيناريو لأفلام الإثارة الرخيصة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 16/آيار/2013 - 5/رجب/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م