شبكة النبأ: عبر قرون متعاقبة بذل
المفكرون والمصلحون والفلاسفة، كثرا من الجهود الفكرية التي تساعد
الامم والشعوب على بناء الحاضر، ومنه يتم الانطلاق نحو بناء المستقبل،
على أن يكون التخطيط السليم والتنفيذ الدقيق اسلوبا مزدوجا، يزاوج بين
الفكر والعمل، لتحقيق هذا الهدف الأسمى كونه يتعلق بحياة الاجيال
القادمة، ولا ينحصر بمن يعيش الآن فوق المعمورة.
وفي الغالب تنقسم الاهداف الى نوعين من حيث النوع والكم، فهناك
اهداف صغيرة (مرحلية أو آنية)، وهناك اهداف كبيرة او استراتجية، ولا
يمكن للانسان ان يتخلى او يتجاوز هذين النوعين من الاهداف، كما انه لا
يستطيع تفضيل الصغير الآني على حساب الهدف الاكبر ويصح العكس ايضا، لأن
الاهداف الصغيرة والكبيرة كلاهما يشترك في صنع حياة الانسان، ولكن هناك
أولويات أو أسبقيات، إذ لابد للانسان او الجماعة أن تقدم الهدف الكبير
على الصغير، ولا يصح اهماله في أي حال من الاحوال.
يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي
(رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (فقه المستقبل)، في هذا
المجال: (ورد عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام: - إعمل لدنياك كأنك
تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً-، وفي هذا الحديث الشريف دعوة
صريحة للإنسان بأن يسمو ويرتفع دائماً، ويؤثر الأهداف الكبيرة على
الأهداف الصغيرة).
برنامج لصناعة المستقبل
من الواضح أن المستقبل وبناءه على الوجه الامثل، يشكل هدفا أساسيا
للمفكرين المصلحين، لذلك يسعى هؤلاء عبر الوسائل المتاحة لديهم، كي
يقدموا الرشد لعامة الناس، ولقادة المجتمع السياسيين بخاصة، كونهم صناع
القرار تشريعا وتنفيذا، وعليهم عدم اهمال الهدف الاسمى متمثلا في بناء
المستقبل، كما أنهم مطالبون بعدم اهمال الاهداف المرحلية السريعة أو
الآنية، تلك التي نطلق عليها تسمية الاهداف الصغيرة.
لذا يقول الامام الشيرازي جول هذا الموضوع: (هذا لا يعني ـ بالضرورة
ـ إهمال الأهداف الصغيرة، بل القيام بها والعمل على تحقيقها، على أن لا
تكون لها الأولوية. وإذا تنازع الهدفان ـ ومورد التنازع ناشئ من
محدودية عمر الإنسان ومحدودية طاقاته وما أشبه ـ فإن عليه أن يقدم
الأهداف الكبيرة على الأهداف الصغيرة).
ولكن ينبغي أن لا يكون البناء عشوائيا فوضويا، بل لابد أن يكون هناك
تخطيط مسبق، ووضع برنامج واضح المعالم والخطوات، تتبنى وضعه شخصيات
ولجان متخصصة وكفاءات يشار لها بالبنان، كون القضية تتعلق بمصير أمة أو
شعب، وتخص ابناءه حاضرا ومستقبلا، وهذا يتطلب حضورا قويا لارادة البناء
المتكاملة، مع البرنامج الدقيق الذي يضمن تحقيقا أفضل لهذا البناء، على
أن لا تهمل الاهداف الصغيرة مثلما ينبغي الاهتمام بالاهداف الكبيرة.
لذلك يؤكد الامام الشيرازي على أن الاهداف الكبيرة: (تتجلّى في
حاجات المستقبل الواسعة، بينما تظهر الأهداف الصغيرة في حاجات الإنسان
المؤقتة؛ وصناعة المستقبل تتم عبر البرنامج الذي يضعه الإنسان لتحقيق
أهدافه الكبيرة. من هنا كان لزاماً على الإنسان أن يكون على استعداد
تام لاستقبال الغد والتأثير فيه، والتكيّف معهُ فيما لا يمكن تغييره،
وربطه بالحاضر والماضي حتى لا ينقطع المستقبل عن الماضي والحاضر).
وقد رصد الامام الشيرازي حركة العالم لاسيما المتقدم، ونزوعه الشديد
نحو التطور واهتمامه الكبير والواسع في قضية بناء المستقبل، وطالب
سماحته منذ وقت طويل، المعنيين وأولي الامر بأهمية وحتمية الاهتمام
بمواكبة العصر، فضلا عن الشروع بوضع الخطوات الكفيلة لبناء المستقبل.
يقول الامام الشيرازي في هذا الصدد: (عالمنا اليوم يشهد حركة قوية
وسريعة نحو المستقبل في كافة أوجه الحياة، وهذه الحركة توجب تغيراً
شديداً، فيجب أن نكيِّف أنفسنا مع هذا التغيير حتى نمتلك ناصية
المستقبل، خصوصاً إذا كان مضمون المستقبل مختلف جذرياً عن حاضرنا).
القرارات الصائبة
من البديهي أن عمليات البناء، تخطيطا وتنفيذا، تحتاج الى قرارات
صائبة، وهو أمر يُعنى به صناع القرار، المشرعون والجهات التنفيذية،
لذلك يتطلب الامر كفاءة عالية وتخصص في طبيعة العمل، او المشروع او
الهداف المراد تحقيقه، لكي تتم عملية متواصلة لمواكبة الحاضر
والمستقبل، لذا يؤكد الامام الشيرازي في كتابه (فقة المستقبل) على أن:
(مواكبة المستقبل تتمّ: عبر رصد الاحتمالات، والتخطيط السليم،
والقرارات الصائبة التي يتّخذها روّاد الأمة وعلماؤها في مختلف
الاختصاصات، في الهندسة والطب والزراعة والصناعة حتى يأتي البناء
متكاملاً من حيث تكوينه).
ولاشك في أن المعنيين ببناء المستقبل، هم الذين يتصدرون الآخرين،
سعيا ومواكبة دقيقة ومتواصلة، فضلا عن دقة البرمجة المسبقة، لكي يتم
تحاشي الاخطاء والمنزلقات التي تعيق الهدف الاسمى في بناء أجمل وأفضل
وأكثر ضمانا لمستقبل الاجيال القادمة، لكن علينا أن نتوقع تفاوتا
وتبيانا في درجة حساسية المعنيين بالمواكبة والبناء، فهناك من لا يعبأ
كما يجب بقضية المستقبل، أو منهم لايعي خطورة هذا البناء ومدى إسهامه
في استقرار الشعب وتطوره، لهذا ينبّهنا الامام الشيرازي قائلا في هذا
الجانب: (ليس المعنيون بالمستقبل ـ وهم كل الناس ـ حسّاسين للغد، لكن
على هؤلاء الذين يتطلّعون للمستقبل ويعملون من أجله، أن يصبحوا قوة
فاعلة في وسط المجتمع، تحركهم دائماً باتجاه المستقبل المشرق. فهؤلاء
يصنعونه من خلال رؤيتهم الثاقبة لما سيجري في الغد، ومن خلال دفعهم
المتواصل للأمة بهذا الاتجاه).
وثمة جوانب وامور مهمة ينبغي معرفتها مسبقا، تتعلق بأبعاد المستقبل،
فالانسان الذي يعجز عن قراءة المستقبل وفهم كل ما يتعلق به، سوف يفشل
في عملية البناء، لهذا يتطلب الامر معرفة واضحة لكل ما يتعلق بشؤون
المستقبل، حتى تكون الرؤية واضحة، وتحقيق الهدف يحقق درجة عالية من
ضمان التنفيذ الصحيح.
لذا يؤكد الامام الشيرازي في كتابه هذا، على المعنيين الذين يتصدون
لقيادة المجتمع، قائلا للجميع: (ينبغي معرفة المستقبل بكل أبعاده
وأجزائه وجزئياته، فبدون المعرفة لا يستطيع الإنسان أن يحسن التخطيط
للمستقبل، وبدون حسن التخطيط لا يملك الإنسان حلولاً له، وربّما أوجب
المستقبل سقوطه). |