العالم الاسلامي... بين منطق التكفير وخطاب التنوير

 

شبكة النبأ: ذات مرة؛ سمع أمير المؤمنين عليه السلام، رجلاً يشتم قنبر، وقد رام الأخير أن يرد عليه، فناداه أمير المؤمنين عليه: مهلاً يا قنبر...! دع شاتمك مُهاناً ترضي الرحمن وتسخط الشيطان وتعاقب عدوك، فوالذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، مأ أرضى المؤمن ربه بغير الحلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت، ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه..

وبينا كان أتباع أمير المؤمنين متخندقين أمام أهل الشام في حرب صفين، سمع صوتاً من معسكره يسبون الطرف المقابل، فقال: "إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين.. ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر..". (بحار الأنوار /ج 32- ص561)

في حرب الأفكار والثقافات، تشكل هذه الإضاءات وغيرها كثير من أئمة الهدى عليهم السلام، دلالة كبيرة على امتلاكنا أدوات ووسائل لطرح ما هو أصح وأفضل وأقرب الى الحق، كما نعرف إفلاس الطرف المقابل، ليس اليوم، إنما منذ البداية، فالتكفير والتسقيط والتضليل، كانت من أدوات معاوية في حربه مع أمير المؤمنين عليه السلام، والتاريخ لم يحتفظ له بخطبه او حديث ألقاه على مسامع أهل الشام، فيه العلم والمعرفة والمفاهيم الاخلاقية والانسانية، وهذا ما جعل أهل الشام يستغربون استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام في محراب الصلاة، وقد دُسّ في أذهانهم أنه لا يصلي.. واليوم ربما يوجد ملايين ممن يدينون بالإسلام ويعتقدون أن الشيعة كفّار، متأثرين بفتاوى أنصاف  العلماء لديهم، أو بمن لديهم هاجس الانتشار الشيعي في العالم الاسلامي.

إن التشيّع؛ بل الإسلام الأصيل الذي مثله أمير المؤمنين عليه السلام، من بعد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، لم يصل الينا بهذه التكاملية في المنظومة الفكرية والعلمية الباهرة، لولا لغة المنطق والحوار والمحاججة التي وقفت أمام لغة الأمويين والعباسيين وغيرهم ممن بذلوا الاموال وحشدوا الفتاوى لمنع هذا الشعاع من الانتشار. وإلا اذا كان الرد بالمثل، لما عرفت الاجيال والشعوب طيلة القرون الماضية، علي بن أبي طالب والأئمة من بعده عليهم السلام، ولما عرف المسيحيون أمير المؤمنين على أنه أبو العدالة والإنسانية، ولما عرفه أدباء ومفكرون وكتاب من أهل السنة، فكتبوا وبحثوا وفسروا في هذه الشخصية العظيمة، مثال ذلك؛ الشيخ محمد عبدة الذي بدأ طريقه لتفسير "نهج البلاغة" بتصفح عابر لهذا الكتاب الكريم.. ولما كتب عبد الفتاح عبد المقصود كتابه الشهير "علي بن أبي طالب" في تسعة أجزاء، صدر في أربع مجلدات.. وغيرها كثير من المواقف المشرفة التي هي بالحقيقة انتصار لمنطق الحوار، ولغة الاخلاق التي طالما أوصانا بها أهل البيت عليهم السلام.

ورب قائل يحاجج، بأننا في حالة مواجهة محتدمة مع التكفيريين، وقد ابتعدنا كثيراً عن الخمسينات والستينات في القرن الماضي، حيث كانت الاجواء مشحونة سياسياً وليس عقائدياً وطائفياً كما هو الحال في الوقت الحاضر، وهذا ما يجعل المسؤولية أكبر في الفرز بين الهمّ السياسي والهم الديني والعقائدي، وأن تكون السياسة وسيلة لإيصال الفكرة والعقيدة الحقّة الى الآخرين، لا أن تقود هي العقائد وتقولبها بما تقتضي المصالح الآنية، وهذا تحديداً ما تفعله أنظمة حكم في بلادنا الاسلامية، فهي تشعل فتيل الازمات والمواجهات الطائفية من خلال قنوات فضائية وخطباء يتمظهرون بلباس الدين، لا من أجل المحاججة والحوار، إنما للمشاركة في المحاولات الرامية لتحجيم الوجود الشيعي في العالم الاسلامي، وإفراغ مسألة (الظلامات) التي يتعرض لها الشيعة من محتواها. وقد بدأوا هذا المسعى في العراق، ويحاولوا تجربته في لبنان وسوريا وسائر البلاد الاسلامية.

هنا يكون الاستحقاق في تقوية جبهة التبليغ والإرشاد عبر وسائل الإعلام، ومن خلال انتشار المبلغين والعلماء، وايضاً انتشار الكتب والمؤلفات، فالبناء الذي يتمكن من مقاومة العواصف والهزات الارضية، هو الذي يقوم على أساس متين وعميق في الأرض. وحتى لا نجانب الحقيقة، فان التشيع يواجه صعوبات وتحديات خطيرة في هذا المسعى تحديداً، بسبب قلّة الامكانات المادية قياساً بما تلمكه أنظمة سياسية من مليارات الدولارات والدعم الدولي، وابتاع نهج "الغاية تبرر الوسيلة". وسبب آخر لدينا يتمثل في فقدان البرنامج الواضح والمتكامل، رغم امتلاكنا للمنهج المتكامل والمضيء المستقى من الثقلين؛ "الكتاب والعترة". ولا أعتقد من الصعب مواجهة تلكم التحديات، اذا توفرت الإرادة الحقيقية والهمّة العالية.

ففي لقاء جمع سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي – حفظه الله- بوفد من طلبة العلوم الدينية من دولة "جزر القمر"، شدد سماحته على ضرورة التبليغ للدين ومذهب اهل البيت عليهم السلام وتخطي الصعوبات والتحديات في هذا الطريق. وأكد لهم بالقول: "إنّ إسلام أهل البيت صلوات الله عليهم، إسلام جميل، وهو الإسلام الحقيقي الذي طبّقه وعمل به رسول الله صلى الله عليه وآله، والإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، فعليكم أن تعرّفوه للبشرية.."، وبين سماحته ثلاث خطوات أساس في عملية التبليغ:

الأولى؛ عرض الإسلام الحقيقي للناس، وما يحمل من فكر وعقائد وأحكام وأخلاق وعبر، بمعنى أن الإسلام الحقيقي، هو الذي يمتلك كل شيء، وهو الكفيل بإنقاد الناس من أزماتهم ومعاناتهم.

الثانية؛ المحاسبة الذاتية التي من شأنها ان تساعد على نجاح مهمة التبليغ وتجسير العلاقات مع افراد المجتمع.

الثالثة: الاهتمام بشريحة الشباب، وتشجيعهم على الدراسة الدينية، ليصبحوا من العلماء، ويخدموا المجتمع بالتشيّع، فالتشيّع – يقول سماحة المرجع الشيرازي- هو خدمة للعالم بأسره.

وإذا اتفقنا على أحقية ومنطقية التشيّع، وأن لا مشكلة منهجية لدينا، فان المشاكل الفنية تهون وتُذل أمام مشاريع لإقامة الندوات والملتقيات، وتشييد المكتبات وتنشيط الخطاب الديني عبر وسائل الاتصال الحديثة. ولن يكون بوسع أحد الوقوف أمام هكذا مشاريع و أعمال في أي مكان، نعم؛ الذي حول دون تحقق ذلك؛ التشكيك في النجاح، واليأس من تأخر النتائج والثمار، وغيرها من الامور التي من شأنها ان تتأثر سريعاً بأي هبّة ريح تكفيرية او محاولات استفزازية هنا وهناك.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 11/آيار/2013 - 30/جمادى الآخرة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م