إنْ كان لتراب حافر فرس جبرئيل عليه
السلام ذلك الأثر الخارق الذي سبب الخوار في العجل الجسد، وإذا كان
لريح ثوب يوسف عليه السلام وقميصه الذي ارتد أبوه بصيراً بسببه تلك
الآثار، فكيف لا تكون للأماكن المقدسة في البقيع الآثار العظيمة.
الإمام الشيرازي(قده)
تسعون عاماً مرت على (فاجعة البقيع) ومازالت الأضرحة النبوية مهدمة
يحيطها غرباء أجلاف، بل كثير من القبور من بعد تلك الفاجعة نالها الهدم
والتخريب. تسعون عاماً انضوت على (مصيبة البقيع) وهي على حالها، بل
أضيفت إليها فاجعة أخرى حصلت في سامراء وأتبعتها أخرى. تسعون عاماً مضت
على (مأساة البقيع) ومنذ سنتين ومحاولات متواصلة لضرب ضريح السيدة
الحوراء زينب سلام الله عليها. تسعون عاماً قضت على (جريمة البقيع)
والشيعة يعيشون الذكرى، ويكتفون باستذكار المأساة ولعن الذين قاموا بها،
ويحذرون من وقوع أخرى.
تسعون عاماً انصرمت على جرح البقيع وما زالت سيوف التكفيريين تذبح
الشيعة وتتأبط شراً بمراقد أئمتهم. يقول الإمام المجدد السيد محمد
الحسيني الشيرازي أعلى الله مقامه: (إن بقاء القبور المباركة مهدمة
دليل على أنه لازال السيف بيد الهادمين إلى الآن)... وما الاعتداء
الإجرامي الذي قامت به عصابية تكفيرية – قبل أيام - على قبر الصحابي
الجليل الشهيد حجر بن عدي الكندي رضوان الله تعالى عليه، إلا ما يدل
على أن (السيف لازال بيد الهدامين)، وفي الوقت نفسه، فإن جريمة نبش قبر
الصحابي حجر الشهيد، تجدد ذكرى الثامن من شوال، تلك الصفحة السوداء
التي أكملت صفحة ومهدت لأخرى، والتي خطت حروفها الدامية شرذمة تكفيرية
دفعتها نزعة متوحشة من وسط الصحراء لتهدم أضرحة أئمة من أهل البيت سلام
الله عليهم، حيث هجمت عصابات وهابية في العام 1922م لتعيث هدماً وخراباً
في (البقيع) الذي يضم أضرحة أولاد الرسول الأعظم صلوات الله عليهم:
المجتبى الحسن، والسجاد علي، والباقر محمد، والصادق جعفر سلام الله
عليهم، لتعود مرة أخرى في العام 1926م وتقطع رؤوس عدد غفير من الشيعة
بسيوف غادرة في مناطق الأحساء، وقد سبقت ذلك أعمال إجرامية عديدة، منها
ما جرى في سنة 1802م، حيث اجتاحت عصابة تكفيرية مدينة كربلاء المقدسة،
وانتهكت حرمة ضريح سيد الشهداء سلام الله عليه، بعد أن سلبت وقتلت مئات
الأبرياء، وصولاً إلى تعرّض مرقد الإمامين العسكريين سلام الله عليهما
في شهر يونيو/2007 لهجوم هدمت بسببه منائره، بعد حوالي 16 شهراً من
تفجير قبته الذهبية في 22 شباط/ 2006.
لا يخفى أن أعداء الإسلام لا يألون جهداً في طمس فضائل أهل البيت
سلام الله عليهم، ومحو كل ما يمت لهم بصلة، لكن وبعد أن عجزوا عن ذلك،
عمدوا إلى هدم آثار أضرحة الأئمة الطاهرين سلام الله عليهم أو تفجيرها
أو حرقها أو إغراقها أو إخفائها، فهدموا قبر سيد الشهداء الإمام الحسين
سلام الله عليه وقبور أئمة البقيع مرات عدة، وأحرقوا حرم الإمامين
الكاظمين سلام الله عليهما، ودار الإمام الصادق سلام الله عليه وضريح
الإمامين العسكريين سلام الله عليهما، وقصفوا بالمدفعية قبة أبي الفضل
العباس سلام الله عليه، وقتلوا زوارهم ومثلوا بهم، في وقائع يندى لها
جبين الإنسانية، ولكن ((يأْبى اللّهُ إِلا أَن يُتِمَّ نُورَهُ))، فرغم
كل تلك الأعمال الشريرة لا تزداد مدرسة أهل البيت سلام الله عليهم
وتراثهم إلا علـواً وانتشـاراً.
في إطار البحث العلمي لمسألة جواز بناء تلك الأضرحة، قدم جمع كبير
من علماء الشيعة والسنة الأدلة القاطعة على شرعية إعمار تلك الأضرحة
واستحباب زيارتها وحرمة الاعتداء على تلك المشاهد التي يقدسها الملايين
في العالم، يقول الإمام المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي رضوان الله
تعالى عليه: (ابتدئ الدفن في جنة البقيع في عهد النبي الأعظم صلى الله
عليه وآله، وأحياناً كان الرسول صلى الله عليه وآله بنفسه يعلّم على
قبر المدفون بعلامة، ثم بنيت قباب وأضرحة على جملة من القبور من قبل
المؤمنين وبأمر من العلماء، كما كان البناء على قبور الأولياء معتاداً
منذ ذلك الزمان، فكانت عشرات منها في المدينة المنورة ومكة المكرمة
وحولهما). ويقول الفقيه السعيد آية الله السيد محمد رضا الشيرازي قدس
سره: (إن من الجفاء للنبي الأعظم وأهل بيته صلوات الله عليهم أن تمر
ذكرى هدم أضرحة البقيع المقدسة – في الثامن شوال من كل عام - دون أن
نتوقف عندها ونذكّر بها وبالمسؤولية الملقاة على عاتق المسلمين في هذا
المجال، فهدم هذه المراقد المطهرة جريمة بكل المقاييس، وهي جريمة تحمل
طابع التناقض مع ذاتها أولاً، ومع القيم الدينية ثانياً، ومع الحالة
الحضارية ثالثاً، ومع واقع الأمة الإسلامية وتاريخها رابعاً. فإذا كان
هدم القبور واجباً شرعياً، فلماذا هدم بعضها دون بعضها الآخر؟! وإذا
كانت الأبنية عليها بدعة وحراماً شرعاً، فلماذا نرى مرقد النبي الأعظم
صلى الله عليه وآله، ما يزال مشيّداً ولم يؤمر بهدمه إلى الآن؟ ولا نظن
القوم يعملون بالتقية في هذا المجال، لأنهم ينكرونها، ويقولون إنه لا
تقية إلا مع الكفار؟ أم تراهم يكفّرون كل المسلمين، وليس ذلك ببعيد
عنهم!).
إن التيار التكفيري - ومنذ مئات السنين - يشن حرباً لا هوادة فيها
على عقيدة أهل البيت سلام الله عليهم وأتباعها، ولم تزد دعوات التهدئة
والتعقل التكفيريين إلا ظلماً ورعونة وإجراماً! فقد سدت تلك العصابة
نوافذ البحث والحوار، فهي لا تؤمن إلا بما تراه، وفي هذا الواقع الدموي
المأزوم يجب البحث عن حل يحفظ الأمة – وخاصة في أيامنا هذه - من مزالق
فتنة سوداء، وأخطار حروب طائفية تراق فيها دماء أبرياء، حل يسد الفراغ
الحادث في وعي عموم الأمة والذي من خلاله تتسرب الأفكار المتطرفة
والإجرامية، يقول الامام الشيرازي أعلى الله درجاته: (إن الذين هدموا
بقاع البقيع وسائر البقاع المباركة لم يفعلوها إلا بالسيف من دون أي
منطق عقلائي، وهذا خلاف سيرة جميع الأنبياء والمرسلين والأئمة
الصالحين). ومن عوامل إنقاذ الأمة، نشر مبادئ السلام والبر والمحبة
التي أمر بها الإسلام، يقول المرجع الشيرازي دام ظله: (الإسلام دين
السلم والسلام، ويعمل على نشر الأمن والأمان في العالم، ويسعى إلى
إطفاء نائرة الحرب، وإخماد لهيبها، وانتزاع فتيلها من بين الناس
باجتثاث العوامل الداعية للحرب، وزرع العوامل المشجعة على المحبة
والوئام، وعلى الصلح والصفاء، وعلى تجنب الحرب، وتفضيل الهدنة وإن كان
العدو يدعو إليها مخادعة. وإن الإسلام يحرّم العنف والإرهاب، والغدر
والاغتيال، ويحارب كل ما يؤدي إلى الذعر والخوف، والرعب والاضطراب في
الناس الآمنين).
بالإضافة إلى العمليات الإجرامية التي طالت المراقد والمقامات
المقدسة، فإن مآسي الشيعة عمرها عقود طويلة دامية بتفاصيلها، كالحة
بظلمها، مريعة بوحشيتها، وإن المدنيين الشيعة في عدة دول، وخاصة في
العراق وسوريا وباكستان وأفغانستان، كانوا منذ زمن - ومازالوا -
يتعرضون إلى اعتداءات إجرامية تمثلت في الخطف والذبح والتهجير،
واستهداف تجمعاتهم المدنية في الأسواق العامة والمناطق السكنية،
وخصوصاً حشود زوار المراقد المقدسة، فضلاً عن الاستهداف السياسي
والثقافي والحياتي لشيعة البحرين المنسيين (عربياً وإسلامياً ودولياً)،
وأيضاً، شيعة السعودية والإمارات ومصر وتونس والمغرب وأندونيسيا وبلاد
أفريقية. وبموازاة تلك الجرائم الإنسانية المريعة، فإن المجتمع الدولي
ما زال يقف بعيداً عن مسؤولياته الإنسانية في وقف نزيف دماء المدنيين
الشيعة في أنحاء العالم، في الوقت الذي دفع الشيعة ملايين من الضحايا،
ما بين قتيل وجريح ومعتقل ومهمّش ومهجّر، ورغم كل هذا الركام الإنساني
الدامي، فإن الفتك الجسدي والمعنوي الواقع على الشيعة متواصل، وليس
هناك ما يشير إلى بداية نهاية هذا السفر المتخم بآلامه ومعاناته
وتضحياته، وهو ما يدل على أن هناك عملية إبادة جماعية للشيعة في العالم
لذلك:
1- إن الإقرار بمظلومية الشيعة (ثقافياً) من خلال إدخال مفردة
(معاداة التشيع / Anti-Shiism) في القواميس اللغوية لدول الغرب، وتأكيد
دراسات دولية أن أكثر ضحايا الإرهاب في العالم بين عامي 2002 و2011
كانوا من شيعة العراق وباكستان وأفغانستان، يستوجب على المجتمع الدولي
أن يتعامل (تشريعياً وإجرائياً) مع الجرائم ضد الشيعة بأنها (جرائم ضد
الإنسانية وجرائم إبادة جماعية)، وذلك للوقوف أمام هذه الجرائم التي قد
يؤدي استمرارها إلى (عواقب غير محمودة)، تتمثل في شعور المستهدفين
بضرورة البحث عن (حلول أخرى) توفر لهم الحماية التي افتقدوها منذ سنوات
طويلة دامية.
2- لكي لا يكون هدم قبر الصحابي حجر بن عدي الكندي مجرد خبر عابر،
ولكي لا تكون بيانات التنديد بنبش قبر هذا الشهيد الخالد عملاً شكلياً،
لابد من العمل على عقد (تجمعات) الرفض (العملي أو الإيجابي)، سواء
أكانت تجمعات (واقعية) من خلال إقامة مؤتمرات حقوقية وقانونية وثقافية،
أو تجمعات (افتراضية) من خلال مراسلة الهيئات والمؤسسات والمنظمات
الدولية عبر الشبكة العنكبوتية (الانترنيت)، وذلك للشروع بخطة عملية
لحماية المراقد والمقامات المقدسة، والسعي إلى إعمار المهدوم منها،
فهذا أوان التغيير، وما ضاع حق وراءه مطالب.
http://alshirazi.com |