منذ قرون، أعلن باكون ان على العلم ان يبدأ بالشك اذا أراد الوصول
الى اليقين، وهو تناقض لا زال يخلق مزيداً من الالتباس حول باكون وحول
العلم كذلك.
يُطلق عادة على الفريق المتحفظ تجاه العلم الحديث اسم الشكّاك لأنهم
يرفضون الانصياع للافكار المسّلم بها. ولكن الشك كطريقة هو ليس مجرد حل
للخلاف. هو يفترض الخطأ واللاعصمة كخاصية اساسية يقوم عليها العلم.
هذا المأزق طُرح لأول مرة من قبل فرنسيس باكون في عمله الفلسفي (The
Novum Organum) عام 1620 معتمداً اساساً على عمله السابق (Advancement
of Learning) عام 1605. هو أعلن بان الاشياء العظيمة هي ممكنة فقط عن
طريق العلم شريطة التخلي جانباً عن جميع العقائد والطرق القديمة. ما
أثار باكون هو ذلك المزيج من الايمان غير المنتج والإشكالات التي لم
تُحل حول النظرية الاساسية للعلم بالرغم من ذلك الكم الكبير من
المعلومات والافكار المتراكمة عبر القرون. كانت لدى باكون افكاراً حول
سبل علاج هذه الاشكالية، الا انه أعتقد ايضا بعدم وجود علاج كامل لأن
العقل الانساني ذاته فيه من العيوب والنواقص ما يجعله غير قادر على
الرؤية الحقيقية. واليوم، عندما يدّعي الناس ان العلماء هم ليسوا
كائنات شبيهة بالله، وان الفكر مقيد بالعواطف والثقافات، وان اللغة لا
تطابق تماماً الحقيقة الطبيعية، فهم انما يكررون افتراضات باكون.
كان القرن السابع عشر بمثابة العصر الذهبي للعلوم. وعندما بدأ باكون
بدراسة هذه المسألة، كان التحقيق متواصلاً لكنه ليس مثمراً بما يكفي.
علم الكون كان سهلاً ومتاحاً، النظام التعليمي القديم ذو العناصر
الاربعة لم يضع مساراً محدداً للاكتشافات الجديدة، الكيمياويون كانوا
في خلاف حول القوانين الاساسية للكيمياء. حين تمكن المبدع ويليم جلبرت
1540 – 1603 من انجاز المعرفة بالمغناطيسية، اندفع بحماس كبير في
التوسع الاسطوري والغيبي لاكتشافاته. وسواء كان التأكيد على العقل او
المنطق، على الارتباطات الرمزية والبداهة، ام على التجارب اليدوية، فان
جميع حقول الدراسة النشطة لم تُفضِ الى الكثير من النتائج الصلبة بما
يكفي للبناء فوقها.
ولكن من جهة اخرى كان هناك تقدماً تطبيقياً في مجالات الملاحة
والهندسة والفلك. لم يكن هناك نقصاً في التجريبية، لكنها لم تأت ضمن
اطار واسع من النظريات العلمية. هذه المعارف اتجهت بعيداً في الخضوع
لما يسميه باكون اصنام العقل Idols of the mind لأنها أبعدت الانسان عن
التحقق من الطبيعة المخلوقة دينياً. يقول باكون : لم يحصل ابداً اي "
اتحاد وثيق وخالص بين.... التجريبي والعقلي.
مأزق باكون
يرى باكون ان التفكير الجيد هو نوع من المفارقة. العقل هو فعال جداً،
ليس فقط في الشعور والتصور، وانما في التفكير ايضا. التركيز على فكرة
معينة، تعقبها مضامين فكرية، ثم الانتقال الى المطابق لها من الافكار،
بعدها يأتي القفز الى الاستنتاجات ومن ثم خلق نظام صارم من العقائد.
هذه القوة قد تكون مفيدة لو ضُبطت بشكل مناسب، ولكنها تتجاهل الملاحظة
المباشرة للطبيعة. الانسان طبقا لباكون، لا يمتلك حدساً راقيا عن تركيب
الكون – ربط مباشر بمقاصد الخالق- كما اعتقد العديد من المفكرين بذلك
لاحقا. هو يجب ان يترك افعال الطبيعة في المستقبل الخارج عن السيطرة
لتكون تلك الافعال هي الحكم على سلامة النظرية. التكهنات الاولية يجب
ان تنبثق من تجربة ذات صياغة جيدة، وهذا بدوره يجب ان يولّد حكماً حسياً
عن نتيجة التجربة. ومع ان باكون لم يفكر بالاختبار المزدوج العمى (حيث
لا القائم بالتجربة ولا موضوع التجربة يعلمان بالمظاهر الحاسمة لها
خوفاً من التحيز)، الا انه رأى ان هذه المراحل يجب ان تتم بطريقة تتميز
فيها كل مرحلة عن الاخرى.
اطلق باكون على نواقص الانسان بـ "اصنام القبيلة". حتى اذكى العقول
يقفز الى التعميم، يلاحظ الاحداث مثيرةً اكثر مما هو مألوف، ويبحث عن
بيانات داعمة اكثر من الامثلة المضادة. هم يلتصقون بسرعة في ما يظهر
امامهم من نماذج ويتوقفون عندها.
"اصنام الكهف" هو تعبير عن حماسة ونواقص الافراد. فيها يطبقون
افكاراً وعلاجات مفضلة على كل شيء يشبهون بذلك الدواء السحري.
"اصنام السوق" كانت عبارة عن نواقص اللّغة الشائعة، الملائمة للحياة
اليومية، لكنها لا تصف الطبيعة بدقة. مفردات مثل "مادة"، "ثقيل" "كثيف"
كلها عبارات غامضة. يجب ان تكون هناك كلمات جديدة تشير الى الظاهرة
الملموسة فيزيائياً.
في تطويره هذه الافكار، طرح باكون نقداً مدمراً يمكنه القضاء على اي
علم. ولكنه رفض الشك الجامد، الشائع في ذلك الوقت، الشك في امكانية
وجود تقدم واضح في اي نظرية انسانية حول الطبيعة. هو يذكر ان البعض
يثير الشكوك كما يفعل المحامون دائماً دون ان يكون لديهم اي هدف بحل
القضايا. هم ربما يصنعون "يأساً متعمداً ومصطنعاً" في تعلم اي شيء جديد،
ذلك لكي يحصل اعتقاد بصواب وكمال افكارهم.
"عندما اُحبط العقل البشري مرة في العثور على الحقيقة، بدأت
اهتماماته بجميع الاشياء تصاب بالوهن والخمول، وبالتالي يميل الانسان
نحو المناظرات والمحادثات السارة ويتنقل كما كان من قبل من موضوع الى
آخر... في شكل من التحقيق المتجول الذي لا يقود الى اي شيء".
يصور باكون وبجدارة التردد الرخو للعقل الذي يبدو في الظاهر كما لو
انه "ذو اهمية حاسمة". واليوم يواجه العديد من الاكاديميين حالة
الاضطراب حول مفهوم البحث عن الحقيقة، يبحثون بشكل رئيسي في تهافت
العبقرية، في مسعى لإثبات ان مختلف اشكال التفوق المفترض هي في الواقع
(وليس في الحقيقة) ليست الا زيفا شنيعاً. فاذا كان النقاش العام هو
مجرد تسلية وان فضح الافكار هو مجرد ارتداد اوتوماتيكي عفوي لا يتضمن
اي دافع للعثور على الافكار الجوهرية، نكون نحن فقط مقلدين لمن انتقدهم
باكون، الذين لا يسعون في دراساتهم اكثر من ان تتطابق مع أعراف محددة
للجماعة. اراد باكون من الناس ان يعالجوا القضايا الكبيرة ويكافحوا بما
يكفي لتحقيق مطالبهم.
يسعى باكون لتحليل العادات السيئة للعقل والكشف عن الطرق العقيمة
المستعملة حتى الآن في العلوم. كلا العقل والعلوم غير موثوق بهما، مع
ذلك، يمكن للطريقة الفكرية السليمة لتصحيح العقل ـ النظر من مختلف
الزوايا للشيء الصحيح، ان تُصلح اخطائنا بما يكفي للوصول الى نظريات
موثوقة. وهذا من حيث الجوهر ثبتت صحته.
طريقة باكون في معالجة الاخطاء
لم يقدم باكون علاجاً - مخالفاً بذلك معظم الثوريين، وانما هو يعرض
اسلوباً من الضبط والتوازن. اولاً ان الاهتمام المتعمد للمفكر يجب ان
يتجه الى اي مأزق. ثانياً، ان نواقص المحقق سيتم تجاوزها بإشراك مختلف
المحققين. واخيراً، ان دافع صنع النظرية ذاته يجب تحدّيه بالاختبارات
التجريبية لكل افتراض واستنتاج. تفكير المحقق سوف يتأثر هو ايضا. ما
يوصف بنظرية او بمصطلح علمي يتم في ظل ادراك المحقق ان الاختبار
التجريبي النهائي سيتم مستقبلاً.(وبالعكس، الفكرة المشكوك فيها علميا
تتأثر باقتناع المحقق بعدم امكانية تطبيق اختبار صارم).
رسالة باكون (ان العقل خاطئ، ويمكنه فعل الغرائب) هي رسالة احيانا
يُساء فهمها ويتم تجاهلها وربما تُنقل بصورة ملتبسة. ومع ذلك تبقى تلك
الرسالة هي جوهر مهمة الباحث المشكك.
رأى باكون ان الاصنام الثلاثة للعقل تخلق نظاماً عقائدياً كاملاً،
نُسجت وشائجه بقوة، ودافع عن نفسه بعنف، واقيمت له ركائز آمنة وهو ما
جعل من الصعب ازاحته. الصنف الرابع لباكون هو "اصنام المسرح" ويشير الى
عرض لتفاهة مثل هذا النظام، وحيث يدمج معه الاصناف الاخرى. لم يتخيل
باكون ما يحمله المستقبل من تقدّم في مجال الفيزياء الرياضية، ولم يعرف
بالضبط ما ستكون عليه ملامح النظرية القوية. ولذا هو فكّر بعمومية
مفرطة في البحث عن نماذج جادة بشأن التباس الظاهرة، مما جعل افكاره
ملائمة لتنمو ولتصبح علما. كان يأمل ايضا ان تخضع الاخلاق والسياسة
لأفكاره. ولكن مسألة خلق علم للمجتمع سيدفع الناس للسعي الى قوانين
كونية وقياسات دقيقة (لشيء ما) والى اعطاء سمو عالي للنظام. ومباشرةً
بعد وفاة باكون، حاول توماس هوبز ايجاد مثل هذا العلم بما معه من مبادئ
ميكانيكية مبسطة في اسلوب الفيزياء. ولكن مثل هذه الجهود يجب اولاً ان
تكون "علمية" وذلك بالانتباه لتحذيرات باكون من الانحراف الوهمي عن
الحقائق والتمسك بافتراضات ومصطلحات لا تقود الى اي فكرة جديدة قابلة
للاختبار. باكون ربما جعلنا نُمضي وقتا طويلا في "المبادئ الوسطية"
المؤقتة. المبدعون امثال فرويد الذين كانوا متلهفين ليجعلوا افكارهم
علماً، كانوا امام خطر اعتبار اي آلية مقبولة كمبدأ كوني. تحفظات باكون
بشأن افتراض الاتساقية، مع انها اسيء تقديرها في الفيزياء الا انها
اكثر ملائمةً في دراسة الطبيعة الانسانية.
ان اهمية باكون تكمن في الالحاح علينا لمسائلة الانظمة والانماط
البلاغية للعديد من المفكرين المحدثين، من هيجل وماركس الى فرويد و
دريدا وفوكلت ولاسان. ان طرح الاسئلة بخصوص "الصلة الملائمة" هي
بالتأكيد مهارة فكرية جوهرية. التمكن من هذه المهارة قد يحتاج الى صراع
طويل مع واحد او اكثر من الانظمة المراوغة التي اُهملت اخيراً.
الاسكندر هيرزين في القرن التاسع عشر في روسيا، اكتشف ان لباكون في New
Organum راديكالية اكثر دقة مما لدى جناح اليسار الهيجلي في ذلك الوقت.
هذا النقد المثالي الليبرالي لليمين واليسار المتشدد كانت له صلة مدهشة
بافكار باكون.
قوبلت افكار باكون لاحقاً بالاهتمام والتجاهل على حد سواء. تأكيده
ان النظرية في تفاعل مستمر مع التجربة كان جوهريا للعلم وهو ما افترضهُ
ايضا غاليلو وكبلر ونيوتن. غير ان تطور الفيزياء الرياضية التي بدت
منطوية على حماية ذاتية من الخطأ، شجع على اعادة الثقة بالعقل وحده.
تأثير ديكارت اعطى ايضا سلطة للعقل الرياضي واعاد التأكيد على التوق
القديم لبداهة اليقين مقابل التصور الباكوني عن البحث الملتوي المعقد
والمشكك بذاته.
في عام 1660 كان انصار الطرق التجريبية في انكلترا يأملون ان توفر
الدراسة المباشرة للطبيعة ملاذاً من الجدل الثيولوجي وما تبعه من مآسي
الحرب الاهلية. حديث باكون عن المرايا الساحرة واصنام العقل تركت
طابعها الكالفيني على اولئك المتلهفين لربط الدين بالنور الساطع للعقل.
حتى روبرت بويل القريب جداً من طريقة باكون اراد من الدين والعلم ان
يحمي كل منهما الاخر ضمن "ثيولوجيا طبيعية". غير ان باكون اعتبر
الافتراضات العلمية المشتقة من الدين كـ"توقعات للطبيعة" تقف حائلاً
دون الاكتشافات الصائبة. هو رفض بالذات محاولة استعمال كتاب التكوين
Genesis كسلطة للعلم. ولكن مع حلول القرن الثامن عشر(ذروة الثيولوجيا
الطبيعية) نُسي ذلك تماماً واصبح بمقدور الجيولوجي الاهتمام بباكون
لأنه نظر في الدليل الفيزيائي، رغم ان هدفه كان الدفاع عن التفسيرات
الواردة في التكوين.
ان الاسئلة الفلسفية الكبرى هي ثمرة الصراع مع المشكلة الانسانية.
فاذا كان انصارها ينسحبون الى الظلامية، فهم عادة يفشلون ويرفضون
الاعتراف بها. عندما اعلن خروشوف (كان باكونياً آنذاك) ان "لا شيوعية
بدون دقيق"، اعتبرهُ خبراء الماركسية اللينينية في موسكو مهرجاً. غير
ان اهتمامه الشديد بالجوع كان جزءاً من السعي نحو الحقيقة التي جعلته
يتحدث بصوت عال عن ستالين ويعترف علناً بجنون الحرب النووية.
ما سمي "بالمنفعة" او "البرجماتية" يمكن ان تأخذ عدة اشكال. وليم
جيمس اعترف بالقيمة التطبيقية للأفكار (الفضفاضة)غير المؤكدة. اما جورج
اويل اوضح عام 1984 النتائج الكارثية اليومية للعيش بوسائل الكذب.
بالنسبة الى باكون، يرى ان الممارسة اثبتت قيمة الافكار، لكنه ايضا
(كما اويل) بيّن فشل الافكار الزائفة.
........................................................
The Magazine for Science and Reason،عدد نوفمبر
2000. |