عجوزان من الغرب الأمريكي، رجل وامرأة، من ريف كاليفورنيا، لم تكن
لهما أي علاقة بالعلوم والفنون والآداب والمعارف، فقد كانت اهتماماتهما
منصبة على زراعة القمح ورعاية الأبقار وتربية الدواجن لكنهما شيدا
بفطرتهما صرحا أكاديميا عملاقا، غرسا بذرته بنواياهما الصادقة، أسسا
ركائزه بأموالهم الخاصة، وعززوه بالقواعد العلمية الرصينة، فازدهرت
بذور الخير، وجادت بثمارها منذ أكثر من قرن حتى صارت في يومنا هذا من
الواجهات العلمية المرموقة التي يشاد بها في المحافل الدولية..
سنلخص هنا حكايتهما الطريفة، ونقارن ما أنجزاه بمفردهما مع ما فشلنا
نحن كلنا في تحقيقه منذ قرون..
بدأت فصول هذه الحكاية عام 1884 في محطة قطارات مدينة بوسطن، حيث
وصل المحطة رجل وزوجته كانا يرتديان ملابس ريفية متواضعة، ارتدت المرأة
ثوباُ قطنياُ بسيطاً، وارتدى زوجها بزة كحلية صنعها بنفسه، غادرا
المحطة على عجل، وتوجها مباشرة إلى جامعة (هارفارد) قاصدين مكتب رئيس
الجامعة، فقابلا سكرتيرته المتعجرفة. طلبا منها مقابلته من دون أن يكون
لهما موعدا مسبقاُ، لم تكترث السكرتيرة لوجودهما، ورأت أنهما غير
جديرين بمقابلة رئيس الجامعة، فأخبرتهما بأنه مشغول جداً، ولن يستطيع
استقبالهما في وقت قريب، وبدلا من أن ينصرفا، أجابتها السيدة الريفية
بثقة تامة: ((سوف ننتظره حتى ينتهي من أعماله كلها))، وظل الاثنان
ينتظران لساعات طويلة، من دون أن تظهر عليهما علامات الملل والاستياء،
فأهملتهما السكرتيرة على أمل أن يفقدا الحماس البادي على وجهيهما
وينصرفا، ولكن هيهات فقد حضر الزوجان لأمر هام، ولن ينسحبا من المكتب
إلا بعد لقاء رئيس جامعة هارفارد..
ومع انقضاء الوقت وإصرار الزوجين، بدأ غضب السكرتيرة يتصاعد، فقررت
مقاطعة رئيسها، ورجته أن يقابلهما لبضع دقائق لعلهما يرحلان..
هز الرئيس رأسه موافقاً بانفعال واضح، فمن هم في مركزه لا يجدون
الوقت لملاقاة الأميين والفلاحين والقرويين، لكنه وافق على مضض، وسمح
لهما بمقابلته لبضع دقائق قبيل مغادرته مكتبه..
دخل الزوجان مكتب رئيس الجامعة، قالت له السيدة القروية إنه كان
لهما ولد وحيد يدرس في هذه الجامعة لعام واحد، ثم انتقل إلى رحمة الله
بعد إصابته بالتايفوئيد، وبما انه كان سعيداً في عامه الدراسي الذي
أمضاه هنا، فقد قررا أن يتبرعا لجامعة هارفارد من أجل تخليد اسمه..
لم يتأثر الرئيس بما قالته السيدة، بل رد عليها بخشونة: ((سيدتي،
أرجو أن تفهمي، لا يمكننا أن نقيم مبنى لتخليد ذكرى الذين درسوا في
هارفارد ثم توفاهم الله اثناء الدراسة أو بعد تخرجهم، وإلا تحولت
الجامعة إلى غابة من النصب والمباني التذكارية))..
ردت عليه السيدة: ((نحن لا نرغب في إقامة تمثال لابننا، بل نريد أن
نهب مبنى يحمل اسمه في جامعة هارفارد))..
فلم يلق هذا الكلام أي صدى لدى رئيس الجامعة، كان ينظر إلى ثيابهما
القطنية بعينين غاضبتين، وقال لهما ساخراُ متهكماً: ((هل لديكما فكرة
كم يكلف بناء مثل هذا المبنى، لقد كلفتنا الجامعة ما يربو على سبعة
ونصف مليون دولار))..
ساد الصمت لبرهة ظن خلالها الرئيس أنه تخلص منهما، فاستدارت السيدة
نحو زوجها، وقالت له: ((ما دامت هذه تكلفة إنشاء الجامعة كاملة، فلماذا
لا ننشئ جامعة جديدة تحمل اسم ابننا ؟؟))..
هز الزوج رأسه موافقاً، ثم غادرا هارفارد وسط ذهول وخيبة رئيسها
المتغطرس، وعادا إلى كاليفورنيا ليباشرا بعد عام واحد فقط بتأسيس جامعة
((ستانفورد)) العريقة، التي حملت اسم عائلة ستانفورد، وخلدت ذكرى
ابنهما الذي لم يكن يساوي شيئا لرئيس جامعة هارفارد..
هذه قصة حقيقية بطلاها السيد (ليلاند ستانفورد Leland Stanford)،
والسيدة (جين ستانفورد)، تبرعا بأموالهم الخاصة لبناء هذا الصرح العلمي
العملاق تخليدا لذكرى ابنهما الوحيد (Leland Stanford Junior)، الذي
صرعه التايفوئيد في ربيعه الخامس عشر، فكان لفقدانه الأثر الكبير في
تدهور صحة والده، وفي يوم من الأيام تلقى الأب رسالة من ابنه في عالم
الرؤيا يقول فيها: ((أبتاه، لا تقل انه لم يعد هناك من تعيش من اجله،
فلديك الكثير لتعيش من اجلهم، عش من اجل الناس ومن اجل الإنسانية))،
كانت هذه الرؤيا هي الحافز الذين شجع الأب ليسخر أمواله كلها في خدمة
المجتمع الذي ينتمي إليه، فرشحه الناس ليمثلهم في مجلس الشيوخ، وكان
نصير العمال والفقراء، ومن المطالبين بتحرير العبيد من الرق الأمريكي..
فتحت جامعة ستانفورد أبوابها في الأول من تشرين الأول (أكتوبر) عام
1891 بعد ستة أعوام من التصميم والبناء الهندسي المتقن على ارض بلغت
مساحتها ثلاثة هكتارات، وكان العالم الأمريكي (David Starr Jordan) أول
رؤسائها..
ارتقت الجامعة في العصر الحديث إلى المرتبة الثانية في المعيار
العالمي منذ عام 2003 وحتى يومنا هذا، وسجلت نجاحات متواصلة لأكثر من
قرن في مسيرة الإبداع والتألق، تخرج فيها العلماء والوزراء والسفراء
والقادة في الاختصاصات النادرة، ونال طلابها ارفع الأوسمة، حصل (27)
منهم على جائزة نوبل، ابتداءً بالبروفسور (Kenneth J. Arrow) الذي نال
جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1972، وانتهاءً بالعالم (Thomas J. Sargent)
الذي نال جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2011..
كانت هذه الجامعة العريقة ثمرة صدقة جارية لرجل وظف أمواله كلها في
خدمة العلوم والفنون والآداب، فشيد أرقى الجامعات في كوكب الأرض، في
حين يتهافت أرباب الفساد هذه الأيام، من المتاجرين بالغش، في بناء
الجامعات الوهمية، ويتفننون في منح الشهادات المزيفة لمن يدفع أكثر،
حتى تكاثرت في مجتمعنا الجامعات التي يديرها الذين تظاهروا بالورع
والتقوى، ففتحوا بواباتها لتلقي الحوالات المالية السخية، وتلاعبوا
بالدراسة عن بعد في فقاعات جامعية ابتكرها أصحاب النفوس الضعيفة،
فاتخذوا من أوربا ملاذا لهم، ومن الانترنت غطاءً لفسادهم، حتى صارت
الشهادات العليا بفلسين، ومن دون ضوابط ولا روابط. ولا شروط ولا قيود..
وهذا هو الفرق بينا وبين الذين سبقونا في مسيرة الإبداع والتحدي،
فمتى يتصدق علينا جماعتنا على الطريقة الكاليفورنية التي ابتكرها
المرحوم ليلاند ستانفورد ؟؟.. |