المتتبع عن كثب للحراك السياسي والدبلوماسي المتصل بالأزمة السورية
والمحيط بها، يلحظ من دون عناء، أوسع واعقد عملية "خلط للمصطلحات"،
تجعل قراءة المشهد وفهم مواقف الأطراف والأفرقاء من الأزمة، عملية
بالغة الدقة والصعوبة، وإليكم بعض الأمثلة لتوضيح ما نقول:
حين تقول واشنطن أو غيرها، أن "الحل السياسي" ما زال هو الطريق
الأمثل للخروج من الاستعصاء السوري.. فهل يعني ذلك استبعاد الخيارات
العسكرية، أم أن الحل السياسي يحتمل أشكالاً من "الجراحة العسكرية"..
حل سياسي بوجود الأسد أم على أنقاض نظامه.. هل يبقى النظام ويُستثنى
رأسه ورئيسه؟.. الإجابة على هذه الأسئلة والتساؤلات قد تستنفذ جميع فرص
"الحل السياسي" وتكلف الشعب السوري، عشرات ألوف القتلى وأضعافهم من
الجرحى والمشردين.
وحين تقول واشنطن ودول أخرى عديدة، أنها ليست بوارد "التدخل العسكري"
في سوريا، وأنها لن ترسل جندياً واحداً داخل الحدود السورية.. هل يعني
ذلك أن هذه الأطراف لن تتدخل بوسائل أخرى، حربية كذلك، ولكن من دون
التورط بحرب برية مباشرة.. هل فرض منطقة حظر طيران، مستبعد في مثل هذه
الحالة.. هل يمنع هذا القول عدم تنفيذ ضربات جوية على طريقة يوغسلافية
السابقة؟.. هل يمنع هذا الحديث تسليح وتدريب وتهريب مقاتلين وأسلحة
وذخائر.. هل يعني هذا أن الدول "المتمنعة" لن تدعم دولاً أخرى أكثر
حماساً للتدخل المباشر لكي تقوم بالدور نيابة عنها؟.
حين تقول واشنطن أنها ستفعل ما بوسعها لدفع الأسد لـ"تغيير حساباته"،
يذهب المراقبون في شتى الاتجاهات والاستخلاصات.. "تغيير الأسد" أم "تغيير
حساباته".. تغيير حساباته للقبول بعملية سياسية انتقالية جدية، أم
للقبول بالتنحي؟.. هل تبدأ عملية "تغيير الحسابات" بالتنحي أم تنتهي
إليه؟
وحين تقرع واشنطن وبعض العواصم مختلف نواقيس الخطر جراء تصاعد نفوذ
"النصرة" والسلفية الجهادية" و"القاعدة" في سوريا.. هل يعني ذلك أنها
يمكن أن تخفف قبضتها على النظام، أو أن تكف عن محاصرته ومطاردته.. هل
يعني ذلك أنها ستغذ الخطى باتجاه حلول سياسية تبقي الدولة السورية
بمختلف مؤسساتها الأمنية والعسكرية... أم أنها ستبقي على شعار "تغيير
النظام" و"تغيير الحسابات"، وتبحث عن وسائل وأساليب جديدة، لمواجهة "خطر
الجهادية المتفاقم في سوريا ومنها".. كيف تميز هذه الأطراف بين "خطر
أمني" تشكله "القاعدة" وأخواتها، و"خطر عسكري" يشكل النظام، الأول
تكتيكي والثاني استراتيجي بارتباطاته الإقليمية الممتدة من طهران إلى
النبطية"؟.. ولمن الأولوية التي ستُعطى في مواجهة هذين الخطرين؟.
وحين تتحدث كثير من الأطراف عن "وحدة سوريا أرضاَ وشعباً ومجتمعاً
ومؤسسات"، هل يمنع ذلك من استمرار اللعب على "المكونات" بل والعمل على
صياغة "فيدرالية طوائف وأقوام في سوريا" على الطريقة العراقية؟.. كيف
نفسر السعي الأوروبي لشراء النفط من كورد سوريا على غرار ما تفعل تركيا
مع كردستان العراق.. بم نفسر موجة المؤتمرات الأخيرة في لندن وباريس
للأقليات في سوريا؟.. بم نتحدث عن محاولات توسيع الائتلاف الوطني بضم
ممثلين عن الأقليات، وربما على طريقة مجلس الحكم الانتقالي الذي حكم
العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، ونظام المحاصصة الطائفية والمذهبية
الذي استند إليه؟.. ماذا تعني "الوحدة الوطنية" فيما الجهود تبذل بقوة
لزيادة تدخل مسعود البرزاني وسمير جعجع ووليد جنبلاط، في لعبة الطوائف
والمكونات والأقليات في سوريا؟.
وحين يتباكى الجميع من دون استثناء على مستقبل الحرية والديمقراطية
وحقوق الإنسان في سوريا، فهل يعني ذلك أن داعمي المعارضة هم جميعاً
أحفاد "الثقافة والتقاليد الأنجلو ساكسونية" الراسخة في قضايا الحرية
والديمقراطية؟.. ولماذا يجري "تلزيم" الملف السوري، لانظمة قمعية سلفية
ووهابية معادية للحرية والديمقراطية عقائدياً؟.. لماذا يجري تسليم
البلاد على طبق من فضة لقوى وتيارات، أقل ما يقال في وصفها، هو ما قاله
بشارة الراعي (البطريريك) لفرنسوا أولاند: بعض محاربي الأسد أسوأ منه؟.
وحين يجري البحث و"النكش" بالإبرة والدبوس عن "ضحايا الهجمات
الكيماوية" التي شنها النظام على شعبه، في موقعتين أو ثلاثة مواقع،
وأودت بحياة بضعة عشرات من السوريين كما يقال.. هل يعني ذلك أن قتل 70
ألف سوري بأسلحة غير كيماوية "مجاز شرعاً" أو "ذبحاً حلالاً" على حد
تعبير أحد المعلقين، فيما مصرع بضعة عشرات بالسلاح الكيماوي (على فرض
حصول هذه الواقعة/ الوقائع)، هو خط أحمر، يستدعي حشد الجيوش واستنفار
الحلفاء ونشر الجنود والمعدات الحديثة والتحضير لضربات جوية ومناطق حظر
طيران.. أية مسخرة هذه؟.
وحين تقوم الدنيا ولا تقعد، ضد تدخل "حزب الله" في الشؤون السورية
الداخلية، وترتفع المطالبات بالحفاظ على وحدة سوريا وسيادتها، ويطالب
القاصي والداني بسحب الحزب لـجحافله" المقاتلة في لبنان.. هل يعني ذلك
ذروة غير مسبوقة في الغيرة على سيادة سوريا، وترك شؤونها الداخلية
للسوريين.. ماذا عن 40 ألف "مجاهد" أجنبي يقاتلون إلى جانب المعارضة،
أو بالأحرى إلى جانب "النصرة" وفقاً لتقديرات الإبراهيمي، وثمة من يرفع
العدد إلى 60 ألف أو يهبط به إلى 30 ألف.. هؤلاء "مقاتلو حرية" جاءوا
استجابة لنداء الظواهري والنفير الجهادي العام، أما مقاتلي حزب الله،
فهم طلائع "ولاية الفقيه" المتقدمة، والتعبير عن الطموح الذي لا يقف
عند حد، لاستيلاد "الهلال الشيعي" وإنقاذه من التشظي والانهيار... ماذا
عن مشروع "الخلافة الإسلامية" أو "الدولة الإسلامية" العابرتين لحدود
السيادة الوطنية والقومية.
أما حكاية "النأي بالنفس" فتلكم الطامة الكبرى.. من ينأى بنفسه عن
من وعن ماذا؟.. النأي بالنفس، لا يمنع التدريب والتسليح والتهريب لهذا
الفريق أو ذاك.. النأي بالنفس يعني أن تتخذ موقفاً متوازنا من تدخل كل
الأفرقاء في الأزمة السورية ميدانياً.. النأي بالنفس، هي الانخراط
بالنفس في أعمق دهاليز الأزمة السورية، ولكن من بوابتي النظام
والمعارضة كما هي قصة لبنان مع "النأي بالنفس".
لم يعد الركون إلى المصطلحات الفضفاضة والضبابية أمراً ممكناً،
أولاً لأنها لم تعد ببساطة كافية للتعرف على مواقف الأطراف ومواقعهم..
وثانياً، لأن الحكمة القديمة قالت: أنظروا إلى ما فعلت يداه، ولا
تنظروا إلى الدمع في عينيه.. أليس هذا هو واقع الحال في سوريا.. ولنا
بحث آخر في مسألة "ضبط المصطلحات" التي ينهض عليها الخطاب الرسمي
السوري، فقد طال المقال واستطال.
* مركز القدس للدراسات السياسية |