الإنسان هو أعظم المخلوقات وارقاها من جميع الجوانب ولذلك نرى ان
الدراسات والبحوث والتجارب التي اجريت عليه لاتعد ولاتحصى. انقسمت
العلوم الى علمية وانسانية تبعا لمساسها بهذا المخلوق العظيم، وحتى
الإنسانية منها تعددت وفقا للمدخل او الحيثية التي تتناول الإنسان من
خلالها، فالاقتصاد مثلا يدرس جانب المال والملكية والسوق واهم الوسائل
التي تساعد في رقي الحالة الاقتصادية والمعاشية للانسان، وكذلك القانون
والسياسة يدرس الإنسان بتحديد حقوقه وواجباته و فن إدارة الإنسان وهو
في دولة ومجتمع متكامل الأنظمة، وكذلك الاجتماع يدرس الإنسان ولكن في
وسط اجتماعي يؤثر فيه ويتأثر به. إلا إن القسم الاكبر والادق كان لعلم
النفس بجميع مدارسه وفروعه القديمة والحديثة وهو الذي يدرس مظاهر
السلوك الإنساني وتفسيره وضبطه والتنبؤ فيه.
والأشد عجبا أن نرى تعدد وجهات النظر في داخل المدرسة الواحدة من
مدارس علم النفس فضلا عن الاختلاف بين تلك المدارس نفسها، فها هي
المدرسة السلوكية التي تعد بداية المنهجية العلمية والموضوعية في دراسة
السلوك الإنساني تنبري لتعطينا تفسيرا لما نراه من سلوكنا وسلوك
الآخرين، إذ فسرت لنا ذلك على أساس المثير والاستجابة بطريقة آلية كما
ذكر العالم الروسي (ايفان بافلوف) فيما اسماه الاقتران الشرطي، ولكن
على الرغم من الأهمية العلمية والعملية لهذا القانون لا يمكن أن يكون
السلوك بهذه الميكانيكية المجردة عن رغبات وميول الفرد، ولذلك جاء مبدأ
المحاولة والخطأ وقانون الأثر لـ(ثورندايك) إذ يذكر بخصوص الأثر أن
الاستجابة تميل إلى إن تتكرر أو لا تتكرر تبعا للأثر الذي تخلفه في نفس
الإنسان هل هو اثر سار أم ضار، وذكر إن التعلم (تعديل السلوك) يحدث
نتيجة بزيادة المحاولات و نقصان الخطأ، وقد أردفت المدرسة السلوكية
وجهة نظرها هذه بقانون التعزيز الذي جاء به (سكنر) إذ أن الاستجابة
تتركز وتزداد وفقا لمبدأ التعزيز.
وبدأ بعد ذلك السؤال الذي كان فلسفياً (كيف تحصل المعرفة لدى
الإنسان) بما يسمى (نظرية المعرفة) يتدخل في علم النفس الذي أصبح
مستقلا عن الفلسفة، وانبثقت من ذلك المدرسة المعرفية التي فسرت السلوك
الإنساني على ضوء العمليات العقلية التي يجريها الإنسان أو التي تجري
في ذهن الإنسان كالإحساس والانتباه والإدراك والتفكير والذاكرة والذكاء
وغيرها عند مواجهة مثير معين من البيئة الخارجية أو الداخلية، فالسلوك
الذي نراه ليس جاء بصورة آلية وميكانيكية فحسب بل يمر بهذه العمليات
العقلية حتى يتشكل بالشكل الذي نراه، وهم بذلك أعادوا الأمل إلى
الوراثة التي أهملتها المدرسة السلوكية أن يظهر تأثيرها على السلوك
الإنساني. ولكن ضعف الإيمان بهذه التجزئة للسلوك الإنساني منحت الفرصة
لظهور تيارات جديدة في هذا التخصص حيث برزت المدرسة الجشطالتية التي
قامت اساساً على الإدراك الكلي وأكدت أن أساس السلوك هو الإدراك، وان
الإنسان يدرك الأشياء إدراكا كليا وليس متجزئ ووضعت بذلك مبدأ (إن الكل
لا يساوي الأجزاء) وهكذا نتناول الأشياء من حولنا وندركها ونستجيب لها.
ومن بعد ذلك ظهرت مدرسة التحليل النفسي للعالم النمساوي الشهير "سيجموند
فرويد" الذي يعد أكثر علماء النفس شهرة وجرأة في طرحه لقضايا ربما كانت
محرمة في طرحها، إذ أكد إن السلوك الإنساني ليس وليد اللحظة فحسب بل له
جذور تعود إلى الطفولة التي تكونت فيها معظم شخصية الفرد وما الشخصية
إلا نتيجة تراكم الخبرات من عقد وتجارب مر بها خلال حياته تم خزنها في
العقل اللاواعي "اللاشعور"الذي يمثل الجزء المخفي والأعظم من الشخصية
وهذا المخزون يلقي بظلاله على العقل الواعي"الشعور" الذي يعد سيد
الموقف، وقد شبه الشخصية الإنسانية بجبل الجليد الذي يظهر لنا منه جزء
قليل والجزء الأعظم منه تحت الماء. وقد فسر معظم انواع السلوك خصوصا
المنحرفة منها على أنها تعود إلى عقد أو معاناة مر بها الفرد في بداية
حياته خصوصا مراحل الطفولة منها.
عدت هذه المدرسة تشاؤمية ومقيدة للإنسان ضمن المراحل الأولى من
حياته وكان الفرد يسير الى مستقبله المحدد والشخصية التي ستكون شخصيته
اضطرارا وهذا لا ينسجم مع الطبيعة الإنسانية، فظهرت مدارس أخرى تناولت
الجوانب النفسية من منظار أخر ومن اشهر هؤلاء روجرز صاحب نظرية (العلاج
المتمركز حول المسترشد) وماسلو صاحب النظرية الإنسانية الذي أكد على
(هرم الحاجات) وبهذه الرؤية التي أحيت طموح الإنسان وأعادت له الأمل في
التعديل والتغيير وأكدت على زرع الثقة وتنميتها داخل الفرد التي هي
أساس تحقيق الذات وبناء الشخصية وصناعة الواقع الجديد.
لكن على الرغم مما سبق ذكره ومن اشتقاق لعلوم وميادين جديدة في علم
النفس يبقى السؤال قائما من هو الإنسان؟! ولماذا تشظت هذه المدارس في
دراسته وتنوعت؟
يحق لنا القول ان نسمي كل ذلك محاولات اجتهادية لفهم الإنسان..
ويبقى الإنسان هو اللغز الأعظم ودراسة إنسانية الإنسان هي الأهم ولنا
مباحث أخرى في دراسة الإنسان.
وتحسب انك جرم صغير..... وفيك انطوى العالم الأكبر
*جامعة واسط - كلية التربية-العلوم النفسية
التربوية
|