هو يفكر... اذن انا موجود

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: نتذكر جميعا طفولتنا، وكيف كان آباؤنا وامهاتنا يتدخلون في نوعية طعامنا وفي الوان ملابسنا وفي انواع لعبنا وفي كيفية هذا اللعب. كنا صغارا لاعقول لنا، وكانوا كبارا لهم العقول الراجحة.

مع ان العقل ومظاهره لاعلاقة له بعمر الانسان كما اثبتت ذلك الابحاث حول الدماغ والعقل والتفكير البشري، المهم ان هؤلاء الكبار لايبارحون حياتنا حتى بعد تقدمنا في العمر، لكننا لم نكن نفهم ذلك في تلك السنوات. تصور حتى اباؤنا وامهاتنا كان من يختار لهم ومن يفكر عنهم، تحت تسميات عديدة لهذا الاختيار ولذلك التفكير.

في المدرسة ياخذ المعلمون حصة اخرى من النيابة عنك في التفكير والتدبير، فانت لازلت قاصرا، ولم يبلغ عقلك الكمال الذي وصله اولئك المعلمون.

المعلبات التنعليمية جاهزة، وماعليك الا تناولها بغض النظر ان كان عقلك يستسيغها او قادر على هضمها او انه ينفر منها. هكذا يريد المعلمون.

في الجامعة لايختلف الامر الا قليلا، وهو القليل الذي يرفض ان يستمر في مجاميع القطيع، ويحاول الخروج منها، او هو يخرج فعلا، ولهؤلاء وغيرهم ندين بالكثير من العلوم والمعارف التي غيرت حياتنا.

كم تفاحة سقطت في احضان الاغبياء والكسالى منذ فجر الانسان وحتى تفاحة نيوتن؟ وكم رجل استحم في الحمام ونزح الماء من حواف حوض الاستحمام ولم يخرج مثل ارخميدس عاريا وهو يصرخ وجدتها؟ وكم واحد مثل انشتاين مرت امام ناظريه ارقام المعادلات والحسابات الفلكية ولم يكتشف النظرية النسبية؟

للناس جميعا ادمغة، هكذا خلقنا الله سبحانه وتعالى، ولكل دماغ بصورته المخلوق عليها المليارات من الخلايا التي تترابط مع بعضها البعض في شبكة معقدة ، حيث تتوقف جميع النشاطات الفيزيائية و العقلية على عمل و صيانة هذه الشبكة من الأعصاب المخية ، فهوايات الإنسان و عاداته مثل قضم الأظافر مثلا أو العزف على الألات الموسيقية تصبح مع مرور الوقت مدمجة في الدماغ ضمن شبكة الأعصاب النشطة و عندما يتوقف شخص عن مزاولة نشاط ما يتوقف عمل الأعصاب الدماغية الخاصة بهذا النشاط و قد تختفي تماما.

ولاعلاقة لحجم ووزن الدماغ بالقدرات العقلية للانسان، كما يقرر ذلك العلماء في فسلجة الدماغ، فهو وزنه بين 1 إلى 1.5 كيلوغرام . و يقول نفس العلماء أن نظاما بهذا التعقيد يتطلب حوالي 100 مليار خلية مرتبطة ببعضها البعض عبر ملايير المشابك العصبية. تبلغ مقاييس الخلية العصبية نحو 05و0 مليمتر. وتتجدد الخلايا العصبية بمعدل 300 مليون في الدقيقة الواحدة تستبدل كل منها خلية عصبية أخرى مستهلكة.

و يمكن لعصب واحد أن يتصل بألاف الاعصاب في وقت واحد ، وفي عصرنا الحالي لا يوجد نظام حاسوبي قريب من هذا التعقيد. واكتشف العلماء أن المخ يتكون من خلايا صغيرة تسمى الواحدة منها نيورون ، يوجد في مخ الانسان 10- 15 مليار نيورون (10,000,000,000).

اكتشف البروفيسر آنوكين العالم المتخصص في المخ أن درجة ذكاء الانسان وقوة ذاكرته لا تعتمد على عدد النيورونات في الدماغ بل على درجة التفاعل والارتباط مابين مجسات ونتوءات هذه الخلايا . فكل ارتباط او تفاعل ما بين نتوئين يشكل طريقا , وعلى عدد هذه الطرق يتوقف ذكاء الانسان وقوة ذاكرته . فكلما زادت هذه الطرق زاد الذكاء وقوة الذاكرة.

أحصى البروفيسور أنوكين عدد الطرق التي تتشكل نتيجة لالتقاء النتوءات ببعضها فكان رقما مهولا، إنه 1 وإلى يمينة 10 ملايين كيلومتر من الأصفار.

بالنظر لما نعيشه في حياتنا وما تمر به بلداننا يمكن ان نطرح هذا السؤال: كم خلية نشغّل في ادمغتنا من هذا الرقم المهول؟

مؤكد اننا لانشغل الا القليل منها، وهو القليل المرتبط بالجنس او الطعام، وهما جوعان ازليان لايشبعان من نكاح او اكل. ونشغّل مجموعة اخرى تساعدنا في قضاء امور معاشنا اليومية، فيها الكثير من فنون الخداع والغش والتلون والاهواء والانانينة والتعصب وغيرها.

مليارات اخرى من تلك الخلايا لاعمل لها، بل تاكل نفسها بنفسها وتذوي وتموت، ولايفيد معها عمليات التجديد، هؤلاء الذين يستخدمون بضع ملايين من الخلايا في ادمغتهم هم في كل زمان ومكان قطيع الاخرين، ولايظن ان الاخرون هؤلاء قد امتازوا عنهم بمليارات اضافية، بل كل ما هنالك انهم عرفوا كيف يتعاملون مع تلك الخلايا المشتغلة لهذا القطيع، قطيع المعلبات الجاهزة.

ينطبق هذا الحال على اتباع الايديولوجيات واتباع الاشخاص واتباع الناعقين في كل زمان ومكان، وهم الامّعات الذين حذر منهم الامام الصادق عليه السلام ان نكون منهم، وقبله حذرنا امام النهج البليغ علي عليه السلام حين قال (احذكرم من سبات العقل).

انا افكر اذن انا موجود، قالها ديكارت قبل قرون طويلة واصبحت لها تنويعات عديدة على ألسنة الناس واقلام الكتاب، وذهبت الى طريق غير الذي القيت فيه، كما سجلها الكاتب المصري انيس منصور في احدى مقالاته:

إذا كان الفيلسوف الفرنسي ديكارت قال: أنا أفكر. إذن أنا موجود.

وإذا كان الفيلسوف الوجودي سارتر قال: أنا موجود. إذن أنا أفكر.

وإذا كان الشاعر الإنجليزي بايرون قال: أنا أقبّل. إذن أنا موجود.

وإذا كان الفيلسوف الشيوعي ماركس قال: أنا آكل. إذن أنا موجود.

وقال الأديب التشيكي كافكا: أنا خائف. إذن أنا موجود.

فإن تنسي ويليامز قال: أنا أقبّل وأحتضن وأذوب. إذن أنا موجود!

ويمكن صياغة مرادفات اخرى على ضوء هذه المقولة من واقعنا العراقي الشبيه بالواقع العربي من كثير من جهاته:

انا طائفي اذن انا موجود

انا اعترض اذن انا موجود

انا فاسد اذن انا موجود

انا في الحكومة اذن انا موجود

انا اجلس على الكرسي اذن انا موجود

انا انفذ مايطلبه الاخرون مني اذن انا موجود

هو يفكر عني اذن انا موجود.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 18/نيسان/2013 - 7/جمادى الآخرة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م