منذ نهاية عام 2010 شهدت منطقة الشرق الأوسط حركات احتجاجية بدأت في
تونس لتمتد بعد ذلك إلى أكثر من بلد عربي، فسقط نتيجة لها عدد من
الأنظمة العربية الحاكمة، وهناك أنظمة أخرى في طريقها إلى السقوط أو
تواجه زعزعة أسس حكمها الطويل، وقد سميت هذه الحركات الاحتجاجية بثورات
الربيع العربي أو الصحوة العربية الجديدة (الصحوة الأولى كانت في مطلع
القرن العشرين)، وقد نالت هذه الحركات إعجاب وتقدير كثير من بلدان
العالم، واليوم وبعد أكثر من سنتين على هذه الاحتجاجات، كيف يمكن
تقييمها؟.
مفهوم الثورة
تعرف الثورة في الأدبيات السياسية والاجتماعية بأنها: حركة سياسية
يحاول من خلالها الشعب أو أدواته الجيش أو الأحزاب السياسية.. الخروج
على الوضع السياسي الراهن بهدف تغييره باندفاع يحركه الغضب وعدم الرضا
والتطلع نحو الأفضل، أو هي الفعل الذي يحدث تغييرا شاملا وجذريا في
المجتمع، على مستوى الحكم والفلسفة الفكرية ويؤسس لبناء مؤسسي وسياسي
واقتصادي واجتماعي جديد يستجيب إلى الأهداف التي من اجلها قام الشعب
بثورته. فهل كانت هذه الحركات الاحتجاجية العربية ثورات بالمعنى الدقيق
للثورة؟ وإذا كانت ثورات، فهل استطاعت تحقيق أهدافها؟.
ايجابيات الربيع العربي
من الايجابيات التي تحسب لحركات الاحتجاج المسماة بالربيع العربي ما
يلي:
- كسرها حاجز الصمت والخوف لدى الناس من السلطة، لاسيما لدى الشباب
العربي الذي كان العمود الفقري، بل والمحرك الأساس لهذه الحركات، وكسر
هذا الحاجز سيفتح الباب مشرعا لانتقاد السلطة بغرض تقويمها، وربما
التمرد عليها وتغييرها إن لزم الأمر، بمعنى أنه سقطت والى الأبد مقدسات
السلطة التي تجرم كل محاولة لانتقادها والخروج عليها.
- أثبتت عدم دقة حسابات السلطة المتعلقة ببقاء شخص الحاكم أو أسرته
أو حزبه.. في الحكم دون خشية من التغيير، فانقلبت حسابات الحكام في
المنطقة رأسا على عقب، وبدأنا نسمع بين الفينة والفينة تصريحات لهذا
الحاكم أو ذاك بأنه لن يعيد ترشيح نفسه للحكم، كما هو حال الرئيس
السوداني والرئيس الجزائري في تصريحات منسوبه لهما في الأسبوع الحالي (الأسبوع
الأخير من شهر آذار).
- أنها حركات احتجاجية خرجت من القاع، أي قاع المجتمعات، ولم تقم
بها النخب في القمة، مما يدل على مسك الشعوب العربية لأول مرة زمام
المبادرة في الفعل الثوري. طبعا هذا لا يعني عدم التحاق بعض من نخب
القمة بهذا الفعل الثوري لا حقا.
- عكست هذه الحركات رغبة شعبية في تغيير منظومة القيم السياسية
السائدة والقائمة على القيم الأبوية المؤلهة للحاكم والتي تضعه فوق
القانون.
- شكلت صرخة احتجاجية قوية على مظاهر البطالة والفساد والمحسوبية
وعدم العدالة في توزيع الدخل والثروة، أي على كل مظاهر الانحراف التي
أسست لدولة الاستبداد والفساد في المنطقة.
سلبيات وتحديات تواجه الربيع العربي
تواجه حركات الربيع العربي سلبيات ومشاكل عدة منها:
- أنها حركات لم تثبت هويتها إلى هذه اللحظة، إذ تعاني من التخبط
والإرباك في حسم موضوع الهوية.
- لم تستطع الإجابة عن أسئلة محورية تتعلق بعلاقة الدين بالدولة،
وطبيعة الدولة، والعلاقة بين الحكام والمحكومين.
- لم تنجح أو تضع المقدمات الصحيح لبناء حياة دستورية متفق عليها من
الجميع.
- لم تؤسس لإصلاح اقتصادي واجتماعي واضح المعالم.
- عانت من انقضاض تيارات الإسلام السياسي بكل ألوانها الفكرية على
الحكم في البلدان التي سقط حكامها، وممارستها لأدوات الحكم السابق بثوب
جديد.
- أثارت هذه الحركات الخشية من احتمال تحولها من حركات موجهة لإسقاط
الطغاة والفاسدين إلى حركات مستفزة للوجدان الاجتماعي ومثيرة للأحقاد
العرقية والدينية والطائفية الممهدة لتفكك الدولة وانقسامها، ومؤشرات
هذا الاحتمال بارزة في مصر وسوريا والعراق واليمن والسعودية ولبنان
والبحرين.. حيث يشتد التنوع الاجتماعي بنزعاته الانقسامية المتصارعة
المغذاة من عناصر التدخل الإقليمي والدولي، ومن الأخطاء والتراكمات
التاريخية.
- أنها حركات لم تسلم من التدخل الخارجي لقوى إقليمية ودولية تحاول
حرفها عن مسارها الصحيح لمصلحة هذا المحور الدولي أو ذاك، بشكل قد تضيع
معه المصالح الوطنية لحساب المصالح الأجنبية.
على ضوء ما تقدم نستنتج، أن حركات الربيع العربي التي بدأت على شكل
انتفاضات شعبية في هذا البلد أو ذاك، وسرعان ما تحولت إلى حركات
إصلاحية ذات بعد ثوري، هي في الحقيقة ثورات هدفها التغيير الشامل
للواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي العربي القائم، لكنها ثورات لم
تكتمل إلى هذه اللحظة، وتواجه احتمالية انحرافها ونكوصها عن الغايات
التي من اجلها قامت، بل قد تؤسس في بعض البلدان لواقع سياسي جديد تكون
أنظمة الاستبداد السابقة أرحم على الشعب منه، ولكي تتجنب هذه الثورات
هذا السيناريو المزعج تحتاج إلى:
- تغيير العقل السياسي العربي لدى السلطة والمعارضة من العقل
المنفرد النرجسي المنغلق على الذات إلى عقل ناضج وحكيم ومنفتح، يقبل
التعدد، ويفسح المجال للتحول الديمقراطي بالظهور لتأسيس حكم مدني رشيد.
وتحقيق هذه الغاية يتطلب أن يكون لدى هذه الثورات والحركات الاجتماعية
عقول مفكرة مؤثرة مؤمنة بهذا الهدف، وأن لا تسلم قيادها للسطحيين من
المتطرفين الانفعاليين وطلاب السلطة.
- ضرورة حسم بعض المفاهيم المرتبطة بعلاقة الدين بالدولة، ودور رجل
الدين والمسجد، والقبيلة في عملية التغيير قبل أن تتحول الخلافات حول
هذه المفاهيم إلى خلافات مستفحلة عصية على الحل، فالمطلوب هو النجاح في
تحقيق التغيير الاجتماعي الممهد للتغيير السياسي.
- من المشاكل التي حفزت على ظهور هذه الثورات المشاكل المرتبطة
بالبطالة إذ أعلى نسب البطالة عالميا توجد في المنطقة، والفقر إذ
الفجوة بين القلة الأغنياء والأكثرية الفقراء في تزايد مستمر قبل وبعد
الثورات، والتخلف، والقمع السياسي والاجتماعي، والنمو السكاني
المتصاعد، ودور المرأة والحاجة إلى تأهيلها ودمجها في الحياة السياسية
والاقتصادية للمجتمع، والفساد المالي والإداري، والمحسوبية.. وهذه
المشاكل كلها بحاجة إلى معالجة جدية وحقيقية من خلال برنامج إصلاح
سياسي واقتصادي واجتماعي وإداري ومعيشي ناجح تنهض به قيادات كفوءة
ونزيهة وعادلة تمتلك القدرات اللازمة لتنفيذه.
باختصار، تحتاج هذه الثورات، لتكتمل، وتحقق أهدافها إلى مشروع وطني
ديمقراطي متكامل الأسس الفكرية والإجرائية، لبناء دولة مدنية مؤسساتية
خاضعة لقانون عادل، تستوعب جميع مواطنيها بصرف النظر عن خلفياتهم
الفكرية والدينية والعرقية، وتنجح في النهاية في تنمية أهم مواردها
وأكثرها ديمومة وفاعلية ألا وهو الإنسان.
* ورقة بحثية قدمت للمشاركة في الندوة
الموسومة (تداعيات ما بعد الدكتاتوري في دول الربيع العربي) التي
أقامتها وحدة أبحاث القانون والدراسات الدولية في كلية القانون/جامعة
كربلاء
** مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات
الإستراتيجية
www.fcdrs.com
khalidchyad@yahoo.com |