التسييس لإدامة حياة الطائفية

 

شبكة النبأ: ظلّت الأسس العلمية والتشريعية لدى الشيعة، عصيّة على الانتقاص والاختراق، طيلة العهود الماضية التي أعقبت الغيبة الكبرى للإمام الحجة المنتظر عجل الله فرجه، والسبب هو أنها عبارة عن شجرة وارفة وعظيمة، تستمد جذورها من العلوم الربانية للمعصومين عليهم السلام.. فالعلوم والمعارف الشيعية إنما اكتملت وتبلورت في مدرسة الوحي، وليس في المدارس الفكرية والفلسفية. أما البناء الاجتماعي، فهو الآخر قائم على هيكلية دينية – رسالية، بعيدة عن التقسيمات الأثنية أو الطبقية، وهو امتياز آخر تميز به الشيعة عن سائر المذاهب الاسلامية التي نرى تلونها بطابع جغرافي او قومي، كما هو الحال في "الحنفية" في تركيا، و"الشافعية" في مصر.. وإذن؛ العقيدة الرصينة، والانسان العصامي، صفتان سار بهما التشيع على طول الخط وما يزال، بخطى ثابتة نحو التوسع ونشر نور العلم والمعرفة والقيم الاخلاقية والانسانية الى العالم، وهذا ما نلحظه من انطباعات المستبصرين من أي بلد في العالم.

هذا الواقع لا يروق بالمرة، لأصحاب السلطة والحكم في البلاد الاسلامية، فكان لابد من وجود وسيلة لإحداث هزّة في هذه الشجرة، إن تعذر النيل منها، ذلك من خلال إحاطتها بفتن واضطرابات سياسية، ثم تسييسها بالكامل، وإفراغها من محتواها الديني. وهنا نشير باهتمام، الى عوامل مساعدة في هذا المسعى، وهي جماعات وأشخاص في الجسم الشيعي، استساغوا الفكرة، وتناولوها، ظناً منهم أنها السبيل الأسرع الذي يوصلهم الى اهدافهم "الاسلامية"، نظراً الى أن السياسة – بشكلها العام- تبدو الى حدٍ كبير، مثل فأر المختبر، تتفاعل مع الحدث والقضية، ثم تعطي النتائج خلال فترة زمنية وجيزة، عكس الحالة الدينية التي تعني بحاضر الانسان ومستقبله في آن واحد.

والحقيقة؛ إن أكثر ما يحزّ في النفس، أن نسمع الناجين من انفجار السيارات المفخخة أو الاحزمة الناسفة، أو غيرها من الاعتداءات الارهابية الدموية، في باكستان وافغانستان والعراق والخليج وغيرها، وهم مذهولون لا يعرفون السبب الذي جعلهم هدفاً للموت المريع، دون غيرهم، فالاطفال والنساء والرجال، بين اليتم والترمّل والذبح وبتر الأطراف، أو الاستفزاز و الخوف الدائمين. ثم يستذكرون أنهم في العقود الماضية لم يكونوا ليواجهوا هكذا حالات، ربما كانوا يعيشون سنوات مع جيران، لم يكونوا يعرفوا أنهم على مذهب آخر..

أجزم أن القلّة القليلة في العراق والخليج، من قرأ عن الدولة الصفوية أو البويهية، في وقت تنهال الاتهامات من الجماعات الارهابية مدعومةً بأنظمة سياسية في المنطقة، بأنهم "صفويون" أو "بويهيون".. ربما يقول البعض: نعم؛ هناك مخططات للتوسع الايراني في الشرق الأوسط برمته، وفي الأصعدة الثقافية والسياسية والاقتصادية، بموازاة التحرك المماثل من تركيا "العثمانية".. إن صحّت هذه المقولة، فما علاقة الشيعة في العراق أو لبنان او الخليج او أي مكان آخر بهذا التنافس السياسي المحموم؟ هل ينتظمون في احزاب سياسية جماهيرية تستظل بالدعم الخارجي، كما كان حال الحزب الشيوعي في البلاد العربية، الذي كان يرى في الاتحاد السوفيتي السابق، الرمز والنموذج الأعلى على طريق تطبيق "الماركسية"؟

ضحايا الارهاب التكفيري والطائفي، هم المصلون في المساجد والمعزون لأهل بيت رسول الله في الحسينيات، أو الناس العامة في الاسواق والطرقات.. ومن الحكايات المؤلمة التي تحولت الى نكات مريرة تداولها العراقيون إبان إشتداد الصراع الطائفي، والقتل على الهوية.. استوقف ارهابيون ملثمون سيارة على الطريق، وبدأوا يسألون عن الأسماء، إن كانت "علي" و "جعفر" و "كرار" وأمثالها، فيكون مصير صاحبه الموت، وكان الارهابيون يتحدثون أنهم يتقربون بسفك دم الشيعي الى رسول الله صلى الله عليه وآله، فما كان من أحد الضحايا، إلا أن تقدم بسرعة الى الامام وقال لهم: أنا أقرب اليكم من الآخرين.. فانا "سيّد" وجدي رسول الله صلى الله عليه وآله..! فكانت فرحة الارهابيين أكثر عندما تناولوه وقتلوه بالحال.

ولنا مثالٌ بارز وحيّ من الواقع السياسي العراقي على عبثية التسييس الطائفي، وأنه ورقة خاسرة، سفكت دماء الآلاف من الابرياء من ابناء هذا الشعب الجريح.. انه "مشعان ركّاض ضامن الجبوري"، الشرطي في طاقم حماية الطاغية صدام البائد، ثم المعارض ببدلة أنيقة في كردستان العراق ثم في سوريا في تسعينات القرن الماضي، ثم معارض مرة أخرى للعملية السياسية بعد الإطاحة بصدام، ثم الداعم والمؤيد لهذه العملية ولراعيها الأول رئيس الوزراء نوري المالكي..! طالما وجد مشعان بين الجماعات الارهابية في الموصل التي ينحدر منها، وأماكن أخرى، حتى انه وعد الحكومة منذ كان نائباً عام 2005، بأنه قادر على تأمين خطوط النفط الاستراتيجية، وإبعاد المخربين عنها، لقاء ملايين الدولارات تسلّمها ولاذ بالفرار الى سوريا، ومن هناك أسدى خدمة كبيرة للطائفية السياسية، عندما تحدث بشكل سيّال عن وجود "الصفويين" و "البويهيين" في العراق.

لنجري مقاربة لما عليه وضعنا، وما هو عليه في لبنان.. فقد شهد هذا البلد المتعدد المذاهب، حرباً أهلية ضروس استمرت خمسة عشر عاماً، دارت بين مليشيات مسلحة تعود الى جماعات دينية واضحة، لكن على أرض الواقع، لم يكن الماروني يقاتل الفلسطيني، أو الدرزي يقاتل الشيعي – مثلاً- بدوافع مذهبية ودينية، لأن هنالك معارك ضروس ودامية دارت بين أتباع المذهب الواحد وراح ضحيتها المئات، إنما كانت هنالك المصالح السياسية، وراء الطائفية السياسية الموجودة كواقع حال في لبنان، واللبنانيون يتعاملون معه كأحد مرتكزات الدولة ورمز استقرارها – حسب تصورهم طبعاً- حيث الرئيس مسيحي – ماروني، ورئيس الحكومة سني، ورئيس البرلمان شيعي وهكذا.. وهذا لايمكن مقارنته بالوضع عندنا في العراق بأي حال من الاحوال، فاذا كانت الطائفية سياسية في العراق، لما تجرأ مشعان أو غيره على تغيير مواقفه (180 درجة)، ويكون داعماً لحكومة يديرها الشيعة. وهذا ما يدعونا الى الاعتقاد الجازم بوجود مخطط متكامل ووسع الأبعاد لتسييس الطائفية في العراق وإفراغها من محتواها الديني.. فاليوم لا يجرأ أي عراقي أن يدخل مسجداً للصلاة فيه لا يعود الى طائفته، وتكون الخطورة والاستحالة أكثر اذا عُرف لدى المصلين الآخرين أنه على غير مذهبهم..!

والحل... كما تبذل الجهات الحكومية وتحرص كل يوم على التثقيف السياسي، والتعبئة الجماهيرية لتعزيز العلاقة بين المجتمع والدولة، لاسيما في فترة الحملة الانتخابية – كما نشهده حالياً- فان الشريحة الواعية والمثقفة من خطباء وعلماء دين وكتاب ووجهاء اجتماعيين، تتحمل مسؤولية أخلاقية وشرعية، بل وحضارية لنشر الوعي والثقافة الدينية في المجتمع بكل أطيافه وانتماءاته، كما يحدث هذا وبكل جدّ واهتمام في بلاد الغرب، حيث يتفنن الخطباء والمبلغون في التقرّب الى ابناء المجتمع الغربي لكسب ودّه وإقناعه بحقانية الاسلام ومذهب أهل البيت عليهم السلام، ونرى النجاح الباهر في عملهم المبارك، و ياحبذا أن نرى هذا العمل المبارك يتكرر في بلادنا الاسلامية، وليس فقط في العراق.

حيئنذ يتبين للجميع إن  من يتعرض الى الانفجارات المريعة ويتحول الى أشلاء، أو يتعرض لرصاص الكاتم والقناص، إنما يذهب  ضحية مصالح سياسية، ولا فائدة أو مصلحة للدين أو المذهب في هكذا أعمال. بتاتاً.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 4/نيسان/2013 - 23/جمادى الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م