هل يمكن لديكتاتور أن يتزعم حركة ديمقراطية؟ لعل الجواب البديهي
المتوقع هو"لا"، حيث أن فاقد الشيء لا يعطيه كما هو متداول عند عامة
الناس. ولا يمكن لأي إنسان يفكر بشكل طبيعي وسليم أن يقبل بعكس هذا إلا
الإنسان الذي تطبع على الجمع بين المتناقضات.
لم أعثر على حالة واحدة فيما رصدته من أحداث سياسية كبرى في
القرنين الأخيرين يعتقد فيها عموم الناس بإمكان الديكتاتور أن يتزعم
الحركة الديمقراطية، أو الديمقراطي يتزعم الديكتاتورية، أو العلماني
يتزعم حركة الدولة الدينية أو العكس. فلماذا إذن تجد في المنطقة
المسلمة جماهير واسعة ممن يرون في الديكتاتور زعيماً ديمقراطياً؟ كيف
أصبح أمير قطر بين عشية وضحاها "رحمة الله الواسعة وباب نجاة الأمة "
كما يعبر عنه واقع حال التصور العام؟ هل الولايات المتحدة بدأت تتخلى
عن آل سعود قليلاً لصالح تضخيم آل ثاني بسبب الإنتقال الديموقراطي في
قطر؟ هل هناك إنتقال ديمقراطي في قطر أصلاً؟ اسئلة مهمة تطرح نفسها
بإلحاح في ظل ربيع دموي أزهقت فيه ديمقراطية الديكتاتور في بعض البلدان
ما لم يزهقه الإستعمار المباشر من أرواح ودمرت ما لم يدمره الإستعمار
المباشر من معالم الحضارة ومرافق الخدمات وشردت ولا زالت تشرد الآلاف
من رجال ونساء وأطفال المنطقة.
إحياء المقبور
استعمالي لـ"المقبور" هنا فيه احالة إلى موروث ثقافي سيأتي شرحه
والذي قبر رموزه لكن آثارهم لا زالت قائمة في ثقافة المنطقة. وما أقصده
من "إحياء" هو التعبير عن حالة الإنبعاث واستعادة القوة لهذا الموروث.
وأما ماهية هذا الموروث فعندي تراجع في تصنيفه كونه فكراً وأميل إلى
وصفه بأنه كشكول من التعاليم التي تتناقض مع الفكر كفكر. ذلك لأن الفكر
سواء كان بناءً أم هداماً، محقاً أم مخطئاً في صيغته النهائية، فإنك
تجده على الأقل يحتوي على مضامين معقولة في مقدماته لا تتعارض مع
البديهيات. في حين أن الموروث الذي نحن بصدد الحديث عنه ليس له مقدمات
بديهية.
إن القضية تتعلق بتعاليم تخير الجمهور المستهدف بين "بلا كيف"
و"السيف". تعاليم تفرض تغييب العقل والمساءلة فيما لا ينبغي إلا للسلطة
أو وعاظها تحديد حقيقته. فإذا قال واعظ السلطة مثلاً عن خصمان اقتتلا
في حرب مدمرة بأن كلاهما على حق، يجب للرعية أن تسلم بالأمر وأن لا
تناقش أو تجادل. وكأن واعظ السلطة له الحق الحصري في إعطاء صبغة
المعقولية لللامعقول في بعض الأحيان. هناك نماذج معروفة ومشهورة تغنينا
عن التفصيل نختار منها واحداً نربطه مباشرة بالأحداث الجارية. النموذج
يعبر عنه في الموروث الثقافي المأزوم بإعتباره مثلاً كون الجماعات التي
حاربت الإمام علي في معركة الجمل كانت جماعات تدعو إلى الحق في نفس
الوقت الذي كان فيه الإمام علي يدعو إلى الحق. فمع وجود دلائل مستفيضة
على الإجرام الذي مارسته تلك الجماعات ووجود آراء في كونها جسدت الفئة
الباغية، إلا أن كشكول تعاليم السلطة يفرض إعتبار الفئة الباغية فئة
تتزعم قضية عادلةً متجسدةً في الثأر لدم عثمان.
من هنا نرى مثالا من أمثلة عديدة للقبول بالجمع بين المتناقضات.
وهذا في نظري هو مفتاح سر إنفراد المنطقة الإسلامية بقابلية الجمع بين
المتناقضات والتسليم لللامعقول الذي يبث في معقوليته واعظ السلطة. ومنه
نفهم لماذا أصبح حمد آل ثاني وهو ديكتاتور راعياً للديمقراطية في
المنطقة. فالواعظ الرسمي لأمير قطر هو الشيخ القرضاوي وحركته الإخوانية
واسعة الإنتشار في المنطقة ولا يمكن لآراء الواعظ إلا أن تكون واسعة
الإنتشار كذلك ومنها أن ديكتاتور قطر هو رائد للديمقراطية في المنطقة.
ان منطقتنا تعج بحاملي موروث ثقافي يجعلهم يؤمنون بأن تشي كيفارا كان
زعيماً نيوليبيرالياً بمجرد أن يقول بذلك أمثال يوسف القرضاوي من الذين
وسع لهم الحكام الأغنياء نسبة التوغل الإعلامي ودعموهم بالدعايات
والترويج للقيام بالمهام المولوية مقابل الدراهم والشقق والإمتيازات.
الثالوث الحديدي وقطر
لا يمكن إعتبار التعاون الغربي وخاصةً الأمريكي مع قطر تعبيراً عن
إمكانية لعب قطر لأي دور في دمقرطة المنطقة ناهيك عن لعبها للدور الأهم.
دور قطر لا يتعدى تنفيذ سياسات أمريكية منبعثة عن الثالوث الحديدي
الحاكم لسياسة الداخل والخارج الأمريكي والمعبر عنه تصورياً بـ"المجمع
العسكري الصناعي"، حيث تنظم العلاقة المالية بين المشرع الأمريكي
والقوات المسلحة ثم القاعدة الصناعية التي تدعمهما مالياً. إنه ثالوث
تدور فيه أهم صفقات الدعم السياسي ونتيجته المتمثلة في التأثير، كما
أنه من خلاله تخرج الموافقة على الدعم العسكري ويتحرك فيه لوبي دعم
البيروقراطية على مستوى الإتحاد. الصناعة العسكرية الأمريكية خاصة في
أجواء الأزمة الإقتصادية تحتاج إلى سياسات دولية تعود عليها بالنفع
الذي يرتبط مباشرة بالهيكل الإتحادي للولايات المتحدة الأمريكية. ولعل
الذي نسيه أصحاب الذاكرة الضعيفة هو أن أمريكا دولة تدافع عن مصالحها
القومية كما علمتنا دروس التاريخ. فكم من ديموقراطية أسقطها المخابرات
الأمريكية لتعرض مصالحها للخطر بدءًا من قضية مصدق الإيراني وليس
إنتهاءً عند اليندي التشيلي. اليوم تدعم الولايات المتحدة أمير قطر
الراعي لمسلسل ما بات يعرف بـ"الربيع العربي" من منطلق المصلحة القومية
لأمريكا بنفس الطريقة التي دعمت بها في اندونيسيا سوهارتو وفي الزايير
موبوتو. فكل من يلعب دوراً إيجابيا بالنسبة للمجمع الأمريكي العسكري
الصناعي فهو يحظى بدعم الولايات المتحدة بغض النظر عن قربه أو بعده من
أجواء الديمقراطية.
الديكتاتورية القطرية في سطور
لطالما سلطت قناة الجزيرة الأضواء الأميرية على حقوق الإنسان
والديمقراطية في بلدان مثل المغرب والعراق مثلاً. بلدان تحتاج قطر
لعشرات السنين وربما يستحيل الأمر مع حكم القبيلة فيها لكي تنافسهم
ديموقراطياً. إن قناة تابعة لديكتاتور لا يمكن أن تناقش نظامه كما هو،
أو تستضيف في أحد برامجها آراء متنوعة حول نظامه. فالجزيرة قناة أمير
قطر الشهيرة منذ تأسيسها لم تفعل ذلك وقد حاول جمهور من المتصلين غير
مرة إثارة تساؤلات تتعلق بأمير قطر انتهت بإغلاق الخط عليهم. وكان
آخرها في برنامج الشريعة والحياة سؤال متصل إيراني وجهه للقرضاوي عن
رأيه حول فساد ودكتاتورية أمير قطر، ما أدى إلى قطع اتصاله وظهور
إنفعال غير طبيعي على وجه منشط البرنامج. أما إمام الشريعة والحياة
فعوض الإجهاز على سؤال التحدي بعد البسملة والصلعمة والحوقلة، فإنه صار
يترنح بين الفأفأة والتمتمة واللعثمة ثم قال :" هو السؤال كان إيه؟"..
في إشارة إلى عدم سماعه السؤال جيداً. لسان حاله يقول :"إن لي أميراً
يعتريني، فإذا سئلت عنه فأفؤني"..
إن أدوات الأمير تعلم جيداً أن قانون البلاد يعتبر شخص الأمير لا
تنتهك حرمته سواء كان ذلك بنقد أو بكاريكاتير أو بقصيدة. وقد رأى
العالم القمع الذي يعامل به الكتاب والمبدعون في قطر، بحيث لم يسجل على
حد علمي في أي دولة قمعية حديثاً حكماً على شاعر بالسجن المؤبد لمجرد
قصيدة يعبر فيها عن استيائه من قمع الحاكم، حكم خفض بعد الإستئناف إلى
15 سنة سجناً. إنه لتناقض صارخ أن ترى دولة تحكم على الكلام بالسجن
المؤبد في حين تريد من دولة أخرى أن تنصاع لمطالب الميليشيات المسلحة.
دولة الأمير فيها مقدس أكثر من الإله بحيث يمكنك فيها تداول كتب
الفلاسفة وتهافتهم في الذات الإلهية ولا يمكنك أبداً تداول جملة واحدة
وإن كانت كلمات حق في ذات الأمير. فهو يحتكر دور رسم السياسة العامة
للبلاد ورئاسة الأركان والتشريع والموافقة على القوانين والإشراف على
التعيينات والعفو وغير ذلك. إنه القضاء والتشريع والتنفيذ المتسلط على
الشعب بشبكة عشائرية نفعية بيوتها في قطر واموالها في البنوك الغربية.
إنه لو لم يكن هناك مقبور رجعي تم احياؤه بين المتدينين الكثر في
منطقتنا، لما توقفت عن التساؤل كيف أن دولة دستورها وقوانينها تنبي عن
ديكتاتوريتها تلونت في أذهان العوام بلون الديمقراطية. فإضافة إلى
النصوص التي تجعل الأمير يعلو ولا يعلى عليه، فإنك تجد نصوصاً أخرى في
غاية الخطورة لما تتضمنه من تمييز عشائري بين المواطنين. خذ مثلاً
قانون الجنسية أو المواطنة الذي تم تبنيه في 30 أكتوبر 2005 معوضاً
قانون الجنسية لسنة 1961. إنه قانون يشرع التمييز السياسي والإجتماعي
والإقتصادي ضد مكتسبي الجنسية القطرية الذين يمكن كذلك تسميتهم
بالقطريين الذين لا ينتمون إلى عشيرة أو قبيلة وهما صنفان. الأول قطري
بدون عشيرة. فبعد الموافقة على تجنيسه وهو أمر يستغرق سنوات وتدخلات
عشائرية فإنه بعد التجنيس يحرم من أبسط حقوق المواطن العادي وهي
الإستفادة من الخدمات العامة والترشح لأي منصب متعلق بالهيئة
التشريعية. الصنف الثاني وهم الأجانب المجنسون ويحرمون 10 سنوات من
تلكم الخدمات والحقوق بعد التجنيس.
إن الممارسات القمعية لديكتاتورية قطر تمتد لتطال الزوار الأجانب.
وهناك شهادات عديدة نختار منها شهادة المفكر المغربي إدريس هاني الذي
ضمن قصة تجربته مع بوليس القمع القطري في مقالة "معركة المغرب"
(هيسبريس 26/11/2010)، والتي كتبها أيام كانت قطر تراهن بجزيرتها على
زعزعة الأمن والإستقرار في المغرب مستغلة أحداث العيون، حيث يروي حادثة
إعتراض أحد رجال الأمن القطريين له بطريقة تمييزية من دون باقي
المسافرين وسؤاله عما بداخل محفظته. فلما علم أن فيها كتباً وأن حاملها
هو مؤلف هذه الكتب أخبره أن قطر تمنع الكتب السياسية.
إن مثل قطر في دعوتها لدمقرطة المنطقة كمثل راقصة لا تخفي وجهها ولا
تخفي أطرافها تأمر النساء بأن يقرن في بيوتهن ولا يتبرجن تبرج
الجاهلية. ويبقى السؤال الأهم هو متى ستقول النسوة للراقصة : "هلا وقرت
أنت !".. متى سيقول عوام المنطقة للقرضاوي والأمير : "هلا جعلتم قطر
ديموقراطية قبل محاولتكم جعل باقي الدول كذلك!". متى يتعلم شباب
المنطقة أن الآلة الديمقراطية لا تشتغل ببنزين ديكتاتوري وأن فاقد
الديمقراطية لا يملك أن يعطيها؟. |