إعتلال الثقافة وغياب البدائل

 

شبكة النبأ: الراهن الثقافي مثقل بعيوب كبيرة، تخترق نسيج الثقافة الى درجة يصعب معها المعالجة، في ظل تردي واضح واختلاق مزيّف للحلول، ليس في الميدان الثقافي وحده، بل في ميادين السياسة وسواها، لذا تنتعش حالات التبجّح ويتعرض المنتج الثقافي الى الكذب والاحتيال، وربما الصفقات المفضوحة، لأن التبجح يعني الادّعاء والتباهي والمغالاة، ومنح الذات صفات أكبر من حجمها وقدراتها ومواهبها، استنادا الى ما تنتجه في الواقع، بمعنى أن انتاجك وطبيعته ومواصفاته يدل على قدراتك ومواهبك، هذا لا ينطبق على الانسان فقط، بل يشمل كل موجودات الحياة المنتِجة، كالشركات والمصانع والماركات وما شابه.

إذاً بإمكانك أن تدّعي وتتبجح، ولكن منتجك في الواقع سيكشف من أنت، وما هي قدراتك ومواهبك ومزاياك، هذا الامر ينطبق على المثقف والثقافة، هناك مثقف متبجح غير منتج، تفرزه ثقافة غي منتجة، مثلما هناك إنسان منتِج وآخر مستهلِك، الأول يدعم ديمومة الحياة على نحو أفضل، والثاني يشكّل عبءاً عليها، وهناك ثقافة ذات نزعة استهلاكية، يديمها وينتمي إليها المثقف العبء، في حين توجد غيرها ثقافة منتِجة، يدعمها وينتمي إليها المثقف المنتِج، ثقافتان متشابهتان بالاسم فقط، لأن التناقض بينهما في الاهداف والمضامين والافكار والنتائج كبير جدا، فالثقافة المنتِجة تمنح الحياة مدادها، أما الثقافة المستهلِكة، فإنها تأكل من جرف الحياة وتُسهم في تدميرها.

كثير من الأدلة تشير الى وجود وفرة في المثقفين المستهلكين لدينا، فالمثقف لدينا ينحو الى الاجترار، ويفضل القوالب الجاهزة في الافكار والانشطة الاخرى التي تتداخل مع المنتج الثقافي أيا كان نوعه، نحن نفتقر في الغالب الى المثقف المنتِج المجدد الذي يُبعد نفسه عن الاتكال على الافكار والنظريات الوافدة، هذه ليست دعوة للانغلاق، لكنها في الوقت نفسه دعوة لاحترام الذات، وتحريك مكامن الابداع والاكتشاف والتجديد الذي تنطوي عليه جذورنا الثقافية حتما، وكذلك هي دعوة لمغادرة منطق التبجح الثقافي الى منطقة الانتاج، ويمكن هنا أن تتحول المشاريع الثقافية الى الربحية وانتاج الريع والدخول في التنافس الاقتصادي.

اننا نسعى الى منتَج ثقافي مكتنز وقوي، وغني بالمعلومة والابتكار والتجديد، وبعيد عن السطحية، وفي الوقت نفسه، يبتعد عن الادعاء والتبجح، ويسعى للربح المشروع، وربما نتذكر كيف شاعت بين العراقيين مطبوعات (ترفيهية مسليّة)، في النصف الثاني من القرن الماضي، كلها كانت تفد إلينا من مصر وبيروت وسواهما، نحن نتذكر مثلا مجلة الموعد او الشبكة من مصر، واليقظة والنهضة والمجالس من دول الخليج، وغيرها من المطبوعات الاستهلاكية التي كانت تجد رواجا على حساب المطبوعات المنتجة، لقد تنامت لدينا الثقافة الاستهلاكية بسبب خمول المثقفين وفشلهم في خلق ثقافة منتجة، وانعكس هذا الامر على حركة الحياة العراقية عموما، وتراجع دور الثقافة في تطوير البنية الفكرية والسياسية والاقتصادية للعراقيين، لأننا كنا دائما في حالة انتظار وترقب للافكار الوافدة، وعندما تصل إلينا عبر قنوات لها اهدافها السياسية او الاقتصادية، كنا كمفكرين او مثقفين، نعيد ترتيبها في صيغة اجترار لا تنطوي على الابتكار الذاتي، فنبقى ندور في حلقة الخمول والركون الى الكسل الفكري، باعتمادنا على ما يرد إلينا، لذا نشأ لدينا المثقف المستهلِك الذي يفتقر الى نزعة التجديد، وطالما أن المثقفين هم وسيلة الثقافة وغايتها، فقد تنامت لدينا ايضا ثقافة خجول مترددة، تنحو الى الاستهلاك أكثر من سواه، فانحرفت بمساراتها في مسالك لا تصب في صالح الوعي العام.

في المرحلة الجديدة التي نجتازها راهنا، ظهرت بوادر اختلاف وتضارب وتحريك لبرك الثقافة الساكنة والمستهلكة في آن، وظهر مثقفون يطرحون افكارهم عبر منافذ التوصيل الألكترونية او الندوات والدوريات وسواها، لكن العبء لا يزال ثقيلا، بسبب الفصل النمطي الموروث بين الادب والثقافة والفكر من جهة، وبين التنامي الافقي في الوعي، والعجز عن الوصول الى أكبر عدد من العقول، لذا مطلوب تدعيم ثقافة الانتاج الفكري المتجدد، ومطلوب حضور المثقف المجدد والجريء في الوقت نفسه.

وعلينا أن نغادر حلبة الترقب والانتظار والركون الى أفكار ونظريات الآخر، والكف عن اعتمادها كمصدر وحيد لتنمية الوعي الفردي او العام، لهذا نحن بحاجة الى تدعيم ثقافة منتجة غير متبجحة، وعلينا ايجاد البدائل القادرة على ملء الفراغ.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 26/آذار/2013 - 14/جمادى الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م