كاوة الحداد.. ماذا ابقت السياسة لمطرقة الحرية؟

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: لا تقتصر الأساطير المدونة او الشفاهية على ما ترويه من أحداث ووقائع غرائبية، بل انها تتعدى ذلك الى الكثير من المضامين والوظائف، وتحتوي في صلبها على رمزيات وقيم عالية الدلالة.. من تلك الأساطير، أسطورة كاوة الحداد، وهي النسخة الكردية للنيروز او النوروز التي تشابه قصته الموجودة في ملحمة الشاهنامة الشهيرة.

تقول الأسطورة: (في قديم الزمان كان هناك ملكُ شريّرُ سَمّي الضحاك وكان قد أصيب بلعنة هو ومملكته، فرفضت الشمس أن تشرق وكان من المستحيل نمو أي غذاء. كان لدى الملك الضحاك لعنة أخرى وهي امتلاك أفعتين ربطتا بأكتافه، وعندما تجوع الأفاعي كان يشعر بألم عظيم، والشيء الوحيد الذي يرضي جوع الأفاعي كانت أدمغة الأطفال.

لذا كان كل يوم يقتل طفلين من القرى المحلية المجاورة وتقدم أدمغتهم إلى الأفاعي. قتل الملك الضحاك 16 طفلا وبقيت آخر طفلة في القرية وكانت إبنة كاوه حداد القرية، فوضع خطة لانقاذها.

وبدلا من أن يضحي بإبنته ضحى كاوة بخروف وأعطى دماغ الخروف إلى الملك ولم ينتبه الملك للخدعة. وانتهج أهل القرية هذه الطريقة وكانوا يرسلون أطفالهم كي يعيشون مع كاوه في الجبال ليكونوا أكثر أمنا. وكبر الأطفال في الجبال ودربهم كاوه وعندما كبروا وصار عددهم عظيما نزلوا من الجبل بقيادة كاوه واقتحموا قلعة الملك الشرير وقضوا عليه. وكي يستطيع كاوه ايصال الخبر للبلدات المجاورة بنى مشعلا كبيرا أضاء السماء وطهر الهواء من شر الملك الضحاك، وفي ذلك الصباح أشرقت الشمس مرة ثانية ورجعت الخصوبة إلى أراضي القرية وكان بداية يوم جديد أو نه‌وروز كما يتهجى الكوردية).

تحتوي تلك الاسطورة على مظامين الظلم والاستبداد والطغيان، وايضا على مضامين التذمر والمقاومة والحرية.

وهي مضامين ترافقت ومسيرة البشرية منذ بدء الخليقة، وتترافق حتى يرث الله الارض ومن عليها.

كاوة هو الانسان، مطلق الانسان، في كل ارض وكل زمان، يرفض الاستبداد ونتائجه، ويرفض الطغيان ومدخلاته.

والحرية، هي مطمح هذا الانسان، مهما تعددت اشكالها والوانها واوصافها، فهي اصل لا يمكن التخلي او التنازل عنه، تحت اي اعتبارات، سياسية كانت او اجتماعية او ثقافية او اقتصادية.

والحرية، في اوسع تضميناتها الاسلامية، هي طرح الاصر والاغلال التي تكبل البشرية، وهي بهذا التضمين تذكير للانسان، بالاصل الجوهري لوجوده على هذه الارض، حرا، لا تستعبده قوة مهما علت او طغت او تجبرت، الا قوة واحدة، يمنحها حريته عن قناعة ورضا، لانها تثبيت لمعنى الحرية، وزخم لها، وهي العبودية لمانح تلك الحرية، وهو الله سبحانه وتعالى.

تلك السطور السابقة استذكار للأسطورة والمضامين التي تحتوي عليها.. ماذا عن الإنسان، بطل الأسطورة وبطل الواقع، باحثا عن الحرية، ومصادرا لها؟.

يبرز جانبان مهمان في الدعوة الى الحرية، وفي مصادرتها، الجانب الأول هو السياسة، كفعل يومي عبر ممارسات السياسيين والمؤسسات والقوانين والتشريعات.. الجانب الثاني هو الثقافة، كابداع وسلوك.

في الجانب السياسي، المجتمعات معظمها تقريبا قادرة على انتاج (الضحاك) المستبد والطاغية، وهي تنقاد له تحت دعاوى وطموحات متعددة، حتى لو كان فيها الكثير مما يرفضه (كاوة) في الاسطورة.

بهذا تصبح الحرية، انتقائية، اطالب بها لنفسي، واسكت عن حرية الاخرين، لان هؤلاء الاخرين لا يعنيني امرهم، او اني لست مهتما بهم، او لخوفي من ان حريتهم ستتصادم مع حريتي.. مع ان اللازم للحرية ان تكون شأنا انسانيا عاما.

ولا أتوقف عند هذا الحد، بل احاول ان اتعدى على حرية هؤلاء الاخرين، وانسى ان ابرز ملمح من ملامح الحرية، هو (تنتهي حريتي حين تبدأ حريات الاخرين).

في الجانب الثقافي، تتجلى حمولات السياسة وافاعيلها عليه بصورة كبيرة، فالحرية التي ادعو لها، هي حريتي، وليست حرية الاخرين، ولا مانع لدي من مصادرة حرياتهم، عبر شعارات عنصرية او قومية او دينية، طالما ان ذلك يحافظ على حريتي، التي اتوهم اني قادر على منحها للاخرين او مصادرتها منهم.

اتحدث هنا، عن اكراد العراق، فاعلين سياسيين، ونتائج تلك الفاعلية على الثقافة كابداع او سلوك يومي، يلمسه كل متابع للشان الكردي، بعيدا عنهم او من داخل مدنهم.

ففي السياسة مثلا، الحق الكردي يتقدم على حقوق الجميع، حتى لو كان هذا الحق فيه مصادرة لحقوق الاخرين او طمسها.. وكل ممانعة للحد من طغيان هذا الحق والتعسف فيه، هو نوع من الحرب على ذلك الحق واصحابه.

وفي الثقافة مثلا، تجد الان تلك العنصرية النامية في الوسط الاجتماعي الكردي تجاه كل عربي، او اي شيء قد تمثله العروبة، وبالاخص منها اللغة العربية، التي اخذ الناطقون بها في المجتمع الكردي يتناقص عددهم باستمرار، لان تلك اللغة، مارست يوما سلطة الاضطهاد بحقهم عبر الفاعل السياسي العربي لعقود طويلة.

(كاوة) الحداد، وضع مطرقته جانبا، رغم وجود اكثر من (ضحاك) جديد امامه.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 23/آذار/2013 - 11/جمادى الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م