مقدمة:
عندما يقرأ الإنسان في صفحات الأنتربولوجيا، ويتجول في رحابها
الواسعة وفضائها الفسيح، يسيطر عليه فضول علمي غامر يأخذه في رحلة
البحث عن الدلالات والمعاني الكبرى للوجود الإنساني؛ وعندما يستزيد من
القراءة تمتلكه نزعة غامرة ورغبة جامعة تشده للترحال على مراكب هذا
العلم بحثا عن المعرفة والحقيقة استكشافا للجمال المكتنز في عالم
الإنسان والحياة الإنسانية.
فالأنتربولوجيا حالة من الترحال في الجوانب الخفية الغامضة من
الحياة الإنسانية، وهو نوع من الترحال الذي يأخذ القارئ إلى عوالم
غريبة وبعيدة ليستكشف معانيها، ويفكّ رموزها، ويكتنه أسرارها، وينهل من
معينها. ولطالما كانت الرحلة على مركب الأنتروبولوجيا أشبه برحلة سحرية
في عالم من الأسرار يفيض بالغامض والصامت والمكتنز والرمزي والخيالي
والمدهش والأسطوري والواقعي والحقيقي في آن واحد، ويقينا أن الترحال في
هضاب هذه الأنتروبولوجيا أشبه برحلة في قارب يتهادى في مجرى وادي جميل
عميق تحيط به أسرار الطبيعة وجمالها حيث تحمل كل انسيابة على صفحات
الماء استكشافا متجددا لسحر الطبيعة وجمالها وألقها فلا يأمنن المسافر
على نفسه من الإصابة بخدر ودوار افتتانا بجمال الطبيعة واندهاشا
بأسرارها.
قد تبدو هذه المقدمة ذات طابع أدبي ناضحة بشحنة انفعالية توقع
اللوم على صاحبها الذي يريد خوضا علميا لاستكشاف أبعاد فرع علمي يتحرى
الحقيقية الإنسانية ويغوص في أعماقها، وعذرنا في ذلك ينتسب إلى تعايش
مع موضوعات هذه الأنتربولوجيا نفسها التي تفيض بالتوظيف المستر
لمتغيرات السحر والأسطورة والخرافة والمعنى والدلالة والرمز إذ تجمع
بينها جميعا في نسق واحد من المعطيات والأدوات لترسم لنا الحقيقة
الأنتروبولوجية في عموم حركتها وانسياباتها العلمية. إنها نوع آخر من
العلوم الوجدانية التي تتناول السحر والأسطورة والرمز والخيال والدينم
في المجتمعات القديمة، وكتابها أي كتاب هذه الأنتربولوجيا مغامرون
ورحالة يجوبون الآفاق البعيدة وينسجون مذكراتهم الأسطورية في عوالم
غريبة، إنهم في الوقت نفسه أبطال لرواياتهم التي ينسجون ولأبحاثهم التي
يصنعون، إنهم أشبه بأبطال حقيقيين يضحون بكل ما يملكون من أجل اكتناه
الحقيقة بجمالها وبهائها، إنهم يبحثون عن الحقيقة الإنسانية في أعماق
الأساطير ويستخرجونها حية مصقولة بسحر الأيام وقدم الزمان.
إنك لتقف بإعجاب كبير، ودهشة أكبر، أمام هؤلاء الأنتروبولوجيين الذي
حطوا الرحال في عوالم بعيدة، فعاشوا مع أقوام بدائية تصارع في حياتها
اليومية أشد قوى الطبيعة، كما في جبال الإسكيموا الجليدية، وفي شمس
الصحارى الحارقة، في جزر الأوكيناوا والتروبرياندر وغينيا الجديدة وفي
كل الأصقاع الجغرافية الغريبة والعجيبة. فالترحال والتجوال والسير
الذاتية والتدوين الأدبي مناهج حقيقية في التكوين الأصيل للأنتربولوجيا
التي تعد نتاجا طبيعيا لتطور الرحلة والأدب والتشويق عبر التاريخ من
رحلات ابن بطوطة حتى السندباد البحري. فكيف تستطيع أن تقف أمام هذه
العناوين الساحرة دون أن تصاب بدوار كأن تقف قارئا لـ “المدارات
الحزينة” لكلود ليفي ستروس، والمجتمع القديم لمورغان، والمغامرون في
غرب المحيط الهادئ لمانيلوفسكي، ومئات العناوين حول الطوطم والتابو
والسحر والمعجزة والدين والأخلاق في الحضارات القديمة.
فالأنتربولوجيون أبطال حقيقيون جازفوا بحياتهم كلها في استكشاف
الحقيقية، وكان عليهم في عملية استكشافهم للحقائق الأنتروبولوجية أن
يتحدوا أصعب الظروف البشرية والطبيعية والأخلاقية وأشقاها طلبا للحقيقة
المتشحة بجمالها الأسطوري. ويمكننا في هذا السياق أن نورد هذا الوصف
المروّع لحياة للتعايش الأنتروبولوجي مع الأقوام البدائية، وهو خطاب
كتبه فرانز بواز (Franz Boas (1858-1942 مؤسس الأنتروبولوجية الأمريكية
إلى زوجته يصف فيها بعض وقائع حياته اليومية ومشاعره إبان دراسته
الحقلية بين قبائل الإسكيموا في جزيرة بافين Baffin حيث يقول ” كان
يمشي مدة ستة وعشرين ساعة دون توقف ودون أن يتناول أي طعام أو شراب
وأنه كان يفكر في الحلوى المنزلية اللذيذة وهو يأكل لحم الفقمة النيء
المجمد، والذي لا بد من تقطيعه بالفأس وهو جالس في كوخ مصنوع من ألواح
الثلج، وفي الوقت ذاته كان يقرأ للفيلسوف كانت ويرسم الخرائط ويتعلم
خرافات الإسكيمو وأساطيرهم ويتأمل في نسبية الثقافات” (فهيم، 29،
1986).
وليس غرضنا في هذه الدراسة الإحاطة أو المغامرة في استطلاع هضاب هذا
العلم الذي يجسد تجربة الإنسان عبر التاريخ. فموضوعنا يتمحور في
استجواب فرع جديد وليد من الأنتروبولجيا يتمثل في الأنتربولوجيا
التربوية التي تبحث في الحقيقة الإنسانية الأعمق للعملية التربوية في
مختلف الأنظمة الاجتماعية القديمة والحديثة. وكما هي الأنتربولوجيا بأي
نوع تجلت وبأي صيغة هلّت فإن الأنتربولوجيا التربوية تأخذ بشغاف القلب
والعقل معا وتضع القارئ في صورة التجليات الكبرى للحياة التربوية عند
الأمم والشعوب، فتلقي بأنوارها الذكية على المظلم في الحياة التربوية
المعاصرة فتكشف لنا عن عمق التحديات الإنسانية في الحياة التربوية
المعاصرة.
وعلى هذا المنوال الأنتربولوجي، تكمن الأصالة العلمية للأنتربولوجيا
التربوية في قدرتها الهائلة على استكشاف العمق والروح والدلالة والمعنى
الكامنة في قلب العمليات التربوية، بطريقة تفوق حدود وإمكانيات الفروع
العلمية الأخرى التي تبحث في قضايا التربية ومشكلاتها وتحدياتها. فنحن
مع الأنتربولوجيا التربوية نجد أنفسنا في مشهد حيّ كلي شمولي مضمخ
بدلالته الإنسانية مفعم بزخم الحياة ودفعها، وذلك لأن الأنتربويلوجية
تتناول القضايا التربوية في سياقها الإنساني الحي، وكأنك في مشهد خلاق
خلاب تتفاعل فيه كل اللحظات والجزئيات والمواقف والمعاني والدلالات
التي تشترك جميعا في بناء المشهد التربوي في حركته ونقلته وتكونه
وانبساطه وانعطافة فتقف مذهولا مسحورا أمام هذا الفعل الإنساني الذي
يجمع بأطراف الواقع والعقل والرمز والوجدان في نبضة واحدة. وتأتيك
اللحظات التالية للمشهد حيث يتم استخدام الرموز والدلالات والمعانى
والكلمات والإشارات والإيماءات جميعا في عملية توصيف الفعل التربوي
واستخراج الحقائق الكامن فيها جلية واضحة تخاطب العقل والوجدان
وتمنحهما القدرة على الفهم والتمثل.
وما يؤسفنا أن الحقيقة التربوية في حلتها الأنتروبولوجية ما زالت
بعيدة المنال في ثقافتنا التربوية وفي مجال حياتنا الأكاديمية التي
تكاد تخلو إلا من إشارات هنا وهناك عن بعض الدراسات الأنتربولوجية
التربوية النادرة التي تقع في بعض الكتب التربوية على نحو مختصر. وهذا
يدل اليوم على ضعف كبير في حضور هذا العلم العظيم في الأنساق المعرفية
العربية بصورة عامة. وإنني لأجزم بأننا في أمس الحاجة اليوم إلى بناء
هذه الأنتربولوجيا التربوية وتأصيل حضورها في ثقافتنا ووعينا وحياتنا
الأكاديمة لما تنطوي عليه من أهمية وخطورة وحساسية وقدرة منهجية في
استلهام الحقيقة واستكشاف المناحي الأساسية لعالم تربوي مجهول برمته
وكليته.
ويمكننا أن نؤكد بخجل واستحياء، ونأمل أن نكون على خطأ في هذا
التأكيد الخجول، بأن الساحة التربوية والفكرية العربية تكاد تخلو أو
تخلو تماما من الدراسات والترجمات التي تتعلق بهذا المجال العلمي الذي
يعد بحق من أكثر المجالات العلمية أهمية في المجال التربوي على وجه
التحديد. ولا أستطيع أن أخفي بأنني قضيت ليال بكاملها أتصفح مواقع
الأنترنيت والمكتبات الإلكترونية والجامعية والمكتبات العامة بحثا عن
مصادر ووثائق ومعلومات تتعلق بالأنتروبولوجيا التربوية باللغة العربية،
واستخدمت في بحثي هذا مختلف الكلمات المفتاح لهذا الاختصاص العلمي فلم
أجد له أثرا حتى في المنديات الفكرية والتربوية التي تذخر بها الشبكة
العنكبوتية. ومع أنني عثرت على وثائق وكتب عامة عبر الأنترنيت وفي
المكتبات حول الأنتربولوجية بمختلف تجلياتها، إلا إنني وبعد تصفحي
لمضامين هذه الكتب والدراسات لم أجد أيضا أية معلومات تتعلق
بالأنتربولوجيا التربوية. وقد وقعت في دائرة التقصي على دراسات وكتب في
الأنتربولوجيا لكتاب تربويين، وصدمت أيضا ومن جديد لأن ما قدموه لم
يتطرق أبدا إلى الأنتربولوجيا التربوية أو أثنولوجيا التربية، ولم تتمّ
حتى الإشارة إلى أي من مضامينها ورموزها. وقد شمل تصفحي هذا الفهارست
والمراجع المتعلقة بالكتب والمقالات التي عثرت عليه ولكنني لم أجد
ضالتي التي تتعلق بهذا الفرع العلمي الذي يفيض بالأهمية والخطورة ويفرض
نفسه في مختلف أنحاء العالم.
ومع أنني لست أنتربولوجيا ضليعا في هذا الميدان ضلوع المتخصصين،
فإنني قد وجدت نفسي، وبوصفي باحثا في مجال علم الاجتماع التربوي، وهو
أقرب العلوم إلى الأنتربولوجيا التربوية، وجدت نفسي معنيا بإضاءة هذا
الجانب الغائب في ثقافتنا التربوية فقررت أن أشد الرحال بحثا في هذا
الميدان وتقصيا لجوانبه عساني أستطيع أن أوقد شمعة تضيئ في ظلام هذا
الغياب الكبير لهذه الأنتروبولوجيا الجديدة في عالمنا التربوي. وإذا
كنت قد أخذت على نفسي تنكب مشقة العمل في هذا المجال، فإن ذلك يأتي
كنتيجة لهذا الغياب الذي شكل نوعا من التحدي العلمي الذي فرض عليّ –
وآمل أن يفرض على غيري من المهتمين
أيضا – القيام بتلبية الحاجة العلمية إلى تقديم هذه الدراسة حول
الأنتربولوجيا التربوية للتعريف بأحوال هذا العلم ونشأته وقضاياه
ومنهاجه في ضوء الدراسات والبحوث الهائلة الجارية في هذا الميدان. وقد
تكون هذه المقالة باكورة أعمال واعدة في المستقبل لهذا المجال الحيّ
والنشط من الأنتربولوجيا التربوية. وتأسيسا على ماتقدم تأتي هذه
المقالة تعبيرا عن هذه الرغبة في أن أضع أمام القارئ التربوي صورة هذا
العلم بكل ما ينضح فيه من عطاء فكري وكل ما يستجمعه من طاقة علمية قد
تومض في طريقة المعرفة العلمية والتربوية في ثقافتنا التربوية العريبة.
ومن أجل منهجة هذه المقالة ووضعها في سياق علمي سنحاول تقديم إجابات
عن تجليات هذا العلم وفقا للأسئلة التالية:
- ما الأنتربولوجيا وما تعريف
الأنتربولوجيا التربوي؟
- ما المراحل التاريخية التي مرّ بها تطور الأنتروبولوجيا التربوية؟
- ما طبيعة المناهج السائدة في الأنتروبولوجيا التربوية وما سماتها؟
- ما أهم المكونات الفكرية والنظرية لهذا
الفرع العلمي الناشئ؟
- ما صورة هذا العلم في بعض البلدان ولاسيما المتقدمة منها؟
الأنتروبولوجيا ماهية وتعريفا؟
تهدف الأنتربولوجيا في مختلف تياراتها واتجاهاتها إلى استكشاف
الدلالة الخاصة بالإنسان رغم تنوع الثقفات وتعدد الأنظمة وتواتر
التغيرات في دوائر الزمان والمكان. فالحقيقة الإنسانية تشكل الهدف
والغاية الأساسية في مختلف أوجه البحث الأنتروبولوجي في مختلف أوجه
تنوعه وتغايره. وبالأحرى إنها تبحث في الطريقة المتفردة التي يتبناها
الكائن البشري في تحقيق إنسانيته وتحقيق جوهره الإنساني في دائرة
الجماعة التي ينتسب إليها.
لقد ولدت الأنتربولوجيا مرتين، مرة على صورة فلسفة، وأخرى على صورة
علم اجتماعي. فالإنسان كان منذ القدم موضوعا فلسفيا، ولطلما كانت
الماهية الإنسانية مطلبا حيويا في كل فلسفة حقيقية جادة عبر التاريخ،
وقد تبدت هذه الروح الفلسفية في مقولة سقراط الشهيرة ” ايها الإنسان
إعرف نفسك“. وقد اتخذ هذا الهاجس الفلسفي صورا متعددة على مدى التنوع
في التيارات الفلسفية منذ القدم، ولكنه يتخذ اليوم صورة جديدة تتجلى في
استبصار الحقيقة الإنسانية المتفردة المتجذرة في الجماعات التي ينتسب
إليها الإنسان على اختلافها وتنوعها. وهذا يعني أن الفلسفة الإنسانية
اليوم تركز اهتمامها في استكشاف العلاقة الفريدة بين الفردي والاجتماعي
أي بين ذاتانية الفرد وخصوصيته وبين الطابع الاجتماعي للوسط الذي يعيش
فيه أي بين الخصوصية والغيرية بين الأنا والآخر في أفضل تعبير.
وفي هذا السياق يمكن القول بأن الأنتربولوجيا تضرب جذورها في
التاريخ الفكري للإنسانية قبل أن تتخذ هيئة معرفة علمية بالمقاييس
الموضوعي لمعنى العلم الحديث ودلالته. إنها تتجلى في أدبيات الإغريق
القديمة في بلاد الإغريق القديمة ولاسيما في الوصوف التاريخية التي
قدمها هيرودوت للحضارات القديمة، كما تظهر في تاريخ الرحالة العرب
والوصوف الإثنولوجية التي قدموها للحضارات في كثير من الآداب القديمة
في شرق الأرض ومغاربها. ولكن الأنتروبولوجية لم تشهد ولادتها كعلم إلا
في القرن الثامن عشر مع انطلاقة البحث في ماهية المجتمعات القديمة.
يقول أحد الأنتروبولوجيين الأمريكيين إن أفضل طريقة للتعريف
بالأنتروبولوجيا تتمثل في تقديم صورة لعمل الأنتروبولوجي نفسه. وخير
تعريف يمكن أن يقدم يتمثل فيما جادت به قريحة الباحثة الأمريكية
مارغريت ميد (1901-1979) في تعريف الأنتربولوجيا بقولها ” نحن نصف
الخصائص الإنسانية البيولوجية والثقافية عبر الأزمان وفي سائر الأماكن.
ونحلل الصفات البيولوجية الثقافية المحلية، كأنساق مترابطة ومتكاملة
ومتغيرة، وذلك عن طريق مقاييس ونماذج ومناهج متطورة، كما نهتم بتحليل
وتصنيف النظم الاجتماعية والتكنولوجيا، ونعنى ايضا ببحث الإدراك العقلي
للإنسان ومبتكراته ومعتقداته ووسائل اتصاله ” (فهيم،13،1986).
يذكر المفكر الفرنسي جان بوارييه J.Poitier أن كلمة أنتروبولوجية
ظهرت في كتابات علماء الطبيعة في القرن الثامن عشر لتعني دراسة التاريخ
الطبيعي للإنسان L’histoire naturelle de l’homme وأن عالم الطبيعة
الألماني جوهان بلومينباخ J.blumenbach كان أول من أدخل هذه الكلمة في
مناهج التدريس الجامعي كما استخدمها في كتابه “التنوعات الطبيعية بين
البشر” الذي نشر في عام 1795. ويذكر بوارييه ايضا أن الفيلسوف الألماني
كانط هو الذي أشاع استخدام هذه الكلمة بعد أن وظفها في كتابه المعروف
“الأنتروبولوجيا من منظور عملي” Anthropologie en Pragmatischer
Hinsichet (فهيم،1986، 15).
تعرف الأنتروبولوجيا من حيث الجوهر بأنها علم الإنسان أو علم
الإناسة، وهي علم يقوم بدراسة الكائنات الإنسانية في سياق النظم
الثقافية التي تحيط بهم على نحو كلي. وتنطلق هذه التسمية من دلالة
الأصل اللغوي لمفهوم الأنتروبولوجيا في اللغة اليونانية الذي يتكون من
تخاصب كلمتين يونانيتين هما: انثرو بوس (Anthropos)، ومعنا “الإنسان”
ولوغوس (Logos) ومعناها “علم” وتأسيسا على هذا المصدر الاشتقاقي تعرف
الأنتروبولوجيا بعلم الإنسان أو علم الإناسة. وهذه الدلالة لا تقف عند
حدود الاشتقاق اللغوي بل تنطلق أيضا من الدلالة الموضوعية لهذا العلم
الذي يجعل من الإنسان في مختلف تجلياته الإنسانية موضوعا لدراسته
وتقصياته المستمرة (Crawitz,1983,18). وهي وفقا لهذا التصور تركز
بالضرورة على الظروف الاجتماعية التي تحيط بالبشر وعلى طبيعة العلاقة
التي تربط بين الناس والوسط الذي يعيشون فيه على نحو شمولي(Cuisinier &
Segalen 1987).
وقد انطلقت الأنتربولوجيا من دراسة المجتمعات البدائية في بداية
الأمر، وعرفت بأنها علم المجتمعات البدائية بامتياز حيث شكلت هذه
المجتمعات الموضوع المركزي لمختلف الأبحاث والدراسات الأنتربولوجية
ولاسيما في مرحلة النهوض والانطلاق؛ وهذا ما يؤكده بعض الأنتروبولوجيين
بأن ما يميز هذا العلم عن العلوم الأخرى هو تركيزه على المجتمعات
البشرية البدائية. ولكن نظرا لعملية التمدن الهائلة التي شملت مختلف
شعوب الأرض اختفت الشعوب البدائية وتلاشت ثقافاتها فتحولت
الأنتربولوجيا إلى دراسة الجماعات والثقافات غير البدائية، كالريف
والقرية والبدو الرحل والفئات الاجتماعية والأقليات الدينية والعرقية
واتسع مجاله ليشمل مختلف القضايا الاجتماعية السياسية والاقتصادية
والتربوية، ويندر اليوم أن نجد قطاعا اجتماعيا ينفلت من دائرة الرصد
والبحث الأنتربولوجي. وفي دائرة هذا الاتساع ظهرت فروع انتروبولوجية
متعددة يصعب حصرها مثل: الأنتروبولوجيا الثقافية، والأنتروبولوجيا
الريفية، والأنتروبولوجيا الحضرية، والأنتروبولوجيا التربوية،
والأنتروبولوجيا النسوية، والأنتروبولوجيا الطبيعية أو الفيزيقية،
والأنتروبولوجيا الاجتماعية، والأنتروبولوجيا البيولوجيه،
والأنتروبولوجيا السياسية، والأنتروبولوجيا التنموية، والأنتروبولوجيا
البدوية، والأنتربولوجية الطبيعية، وأنتروبولوجية السلالات البشرية.
وبدأ كل فرع من هذه الفروع يشكل علما مستقلا بذاته له خصائصه ومناهجه
وخقله الخاص ومؤسساته ودورياته ونشاطاته.
وتختص الأنتربولوجيا بصورة عامة بعدد من السمات الأساسية التي
تميّزها عن العلوم الأخرى، وأهمها:
- تركز الأنتروبولوجيا على دراسة جماعات خاصة من حيث التكوين
والوظيفة، مثل: الجماعات البدائية، الجماعات الريفية، العرقية الإثنية،
والأقليات، وتتميز هذه الجماعات بأنها بسيطة وشفافة وصغيرة وقليلة
الكثافة، ويبدو هذا التركيز واضحا جدا في مرحلة التأسيس والنهوض.
- اعتماد الأنتربويلوجيا على منهج الملاحظة بالمشاركة والمقارنة
والوصف الحي للظواهر المدروسة والدراسات القلية. وتركز على نحو خاص على
البحث بالمعايشة الذي يتطلب اندماج الباحث في الوسط الثقافي والاجتماعي
للجماعات التي يدرساها.
- تتبنى الأنتربولوجية الطابع الشمولي
والكلي في دراستها للمجموعات البشرية الخاصة. ويركز هذا المنهج على
دراسة المجتمع دراسة كلية تشمل عقائده، وشعائره، واقتصاده، وسياسته
وتكويناته الفيزيائية والطبيعية والتاريخية.
وتعد الأنتروبولوجيا بصورتها الأكاديمية أحدث العلوم الاجتماعية على
الإطلاق، وقد ولدت في نهاية القرن الثامن عشر في نسق من الدراسات التي
كرست لدراسة المجتمعات البدائية القديمة. وقد تطورت بصورة متوازية مع
علم الاجتماع، حيث تمحورت حول المجتمعات البدائية بما عرف عنها من
تجانس وشمول، في الوقت الذي اهتم فيه علم الاجتماع بدراسة الظواهر
الاجتماعية المعقدة والمتناقضة. وعلى الرغم من الاختلاف في المنهجية
والموضوع البحثي، فإن التطور البحثي لكلا العلمين ينمّ عن تقارب كبير
في القضايا والموضوعات التي يباشرها كل منهما ويشمل هذا التقارب دراسة
البنى الاجتماعية والعمليات الاجتماعي مثل دراسة الطقوس والظواهر
الرمزية والعلاقات الاجتماعية.
ومن أبرز الدراسات الأكاديمية، التي ظهرت في النصف الثاني من القرن
الثامن عشر، يشار إلى كتاب هنري مين ” القانون القديم ” الذي نشر في
عام 1861، ثم كتاب فوستين دو كولين المدينة القديم La cite Antique في
عام 1864، و كتاب أدوارد تايلور “بحوث في التاريخ المبكر للجنس البشري”
في عام 1865، ثم كتاب أدوارد تايلور ” الثقافة البدائية ” primitive
culture في عام 1871، وكتاب لويس مورغان ” المجتمع القديم ” وفي عام
1877، وكتاب فريدريك أنجلز “أصل الأسرة والدولة والملكية الخاصة”، The
origin of the family private property and state في عام 1884 (فهيم،
1986، 33).
في الماضي كانت المجتمعات البدائية تشكل الموضوع الحيوي
للأنتربولوجيا، ومع غياب هذه المجتمعات اليوم ترتب عليها أن تبحث عن
موضوعات أخرى ولكنها تحمل بعض السمات العامة لموضوعها الأساسي أي
المجتمعات الأولية والبدائية. وتأسيسا على هذا الواقع فإن
الأنتربولوجيا تجد وحدتها في التركيز علي دراسة الظواهر التي تستجمع في
ذاتها خاصتي التفرد والشمولية والبساطة، وهي تختلف فيما يتعلق
بالكيفيات المنهجية التي توظفها في عملية البحث
الأنتروبولوجي(Martinez-Verdier ,2004).
ويمكن في هذا السياق التمييز بين الأنتربولوجيا الفلسفية وبين
الأنتروبولوجيا العلمية؛ فالأنتربولوجيا الفلسفية تركز على دراسة
الأصول النظرية والفكرية، كما توظف طاقتها النقدية والمفاهيم في تناول
مختلف القضايا والمسائل الأنتربولوجية؛ وعلى خلاف ذلك فإن
الأنتربولوجية العلمية تأخذ طابعا أمبيرقيا وميدانيا حيث تعمل على
تحليل الظواهر الاجتماعية بصورة ميدانية ومنهجية. واستطاعت هذه
الأنتربولوجيا العلمية أن ترتفع إلى مستوى العالمية بفضل الأبحاث
والدراسات المكثفة كا بفضل المنهجيات المتقدمة والمستجدة التي توظفها
في تناول قضاياها ومسائلها الحيوية.
ومن الواضح تماما بأن الأنتروبولوجيا تستجيب لتحديات علمية كبيرة
ومعاصرة في المستوى الاجتماعي والإبيستيمولوجي والنظري. ومما لا شك فيه
أن هذه الأنتربويلوجيا قد استفادت من معطيات العلوم الاجتماعية التي
ترتبط معها بأواصر القرابة (فلسفة التربية، علم الاجتماع، علم النفس،
علم النفس الاجتماعي، وعلم التاريخ)، ولكنها في المقابل تقدم لهذه
العلوم تصورات هامة وحيوية لتطور هذه العلوم في مجملها وهي تسعى إلى
تحقيق التقارب العلمي بين هذه العلوم المختلفة.
لمحة تاريخية عن نشأة الأنتروبولوجيا:
يصنف توماس بنيمان (T.Penniman.1965) في كتابه “تاريخ
الانتروبولوجيا في مئة عام A Hundred Years of Anthropology ” تاريخ
الأنتربولوجيا إلى خمسة أقسام: المرحلة الأولى وهي المرحلة التمهيدية
التاريخية لهذا الفرع العلمي وتبدأ منذ العصور التارخية الإغريقية
وتنتهي في عام 1838 وتتمثل هذه المرحلة بالوصوف الأدبية للحضارات
القديمة والتأملات الفكرية الخالصة في طبيعة الإنسان وحقيقته، وتقع
المرحلة الثانية ما بين 1835 حتى 1859 حيث بدأت الأنتربولوجية تأخذ
صورة معرفة علمية بطابع تأملي فلسفي؛ وفي المرحلة الثالثة اتخذت
الأنتربولوجيا هيئتها كعلم أكاديمي في الفترة الممتدة ما بين 1859 حتى
1900. وتسمى المرحلة الرابعة مرحلة التأصيل العلمي الأكاديمي وتمتد بين
عامي 1900 حتى عام 1935. أما المرحلة الخامسة التي بدأت منذ عام 1935
حتى نهاية الخمسينات فتوصف بأنه مرحلة التثبيت ومرحلة ظهور الفروع
العلمية الجديدة لهذا العلم (فهيم، 1986).
ويتضمن تاريخ الأنتروبلوجيا نخبة من الرواد والمفكرين الذي رسخوا
دعائم هذا العلم وأصلوا حضوره الكبير بين العلوم الإنسانية. ويمكن
الإشارة في هذا الصدد إلى فرانز بواز Franz Boas (1858-1942) بوصفه
مؤسسا للأنثربولوجيا الثقافية في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي هذه
البلاد يتألق نجم الأنتروبولوجي المشهور لويس مورجان Lewis Morgan
(1818-1818). الذي يعد أول الباحثين الذين نزلوا إلى الميدان
الأنتروبولوجي لدراسة الظواهر الأنتروبولوجية ليقدم بحثه المشهور ”
المجتمع القديم” كما بحثه المعروف جماعة الإيركواز (League of the
Iroquois, 1851 ; Ancient Society, 1877). ومن أجل إجراء دراساته
الأنتربويلوجية هذه كان عليه أن يعيش مع الهنود الإيركواز Indiens
iroquois ليصف حياتهم ويدرس ثقافتهم وعلاقاتهم وكل ما يتصل بوجودهم
الإنساني والثقافي، واعتمد في دراساته هذه على المناهج الأنتربولوجية
التي رسخها فرانز بواس ووليان هالس ريفيزز Williams Halse Rivers
(1864-1922) التي اتصفت بدقتها وفعاليتها. وقد أسهم عدد آخر من العلماء
في تطوير هذا العلم في ما يتعلق بمنهجيته وأبحاثه وتطلعاته ونتائجه،
ويشار في هذا الخصوص إلى أعمال برونيسلو مالينوفسكي Bronislaw
Malinowski (1884-1942) ولاسيما كتابه المشهور الأسس الأنتروبولوجية
الثقافية الذي نشر في عام 1950 (HERSKOVITS ,1950).
وفي بريطانيا ظهرت أسماء كبيرة مثل: إدوارد تايلور Edward Tylor
(1832 – 1917)، ورادكليف براون Alfred Reginald Radcliffe-Brown
1881-1955، وبرونيسلو مالينوفسكي Bronislaw Malinowski (1884-1942)
(1922)، وإدوارد ريتشارد Edward Evan Evans-Pritchard (1902-1973)،
ومايير فورتيس Meyer Fortes (1906–1983) ؛ أما في فرنسا فيطالعنا كل من
مارسيل موس Marcel Mauss (1872-1950) وكلود ليفي ستروس Claude
Lévi-Strauss (1908-2009) وبيير كلاستر Pierre Clastres 1934–1977),).
نشأة الأنتروبولوجية التربوية:
في الماضي كانت الأنتروبولوجيا تأخذ صورة “تابو” في منظور المربين
والمفكرين في مجال البيداغوجيا التربوية على اختلاف مذاهبهم ومشارهم،
ولكن هذه الصورة بدأت تتغير بتأثير وقائع أنتربولوجية جديدة تتعلق
بنشأة الأنتربولوجيا التربوية وحضورها الكبير في ميدان البحث التربوي،
فالأنتربولوجيا ترتدي اليوم لبوسا تربوية وتتجلى بقوة في مسرح الحياة
التربوية، ويأخذ هذا التجلي صورته في وميض المؤتمرات العلمية المتواترة،
وفي تضاعف أعداد الدوريات والمجلات العلمية الأنتربولوجية، وفي الأبحاث
الأنتربولوجية التربوية المتنامية والمتكاملة.
وقد وقع أخيرا في اعتقاد المربين أن هذه الأنتروبولوجيا ليست بريقا
فرضته صرعات الموضة العلمية، بل هي هي استجابة حقيقية لمشكلات وتحديات
تربوية كبرى فرضتها وقائع الحياة المعاصرة في مختلف مستوياتها
الاجتماعية والإبيستيمولوجية. وهذا النمو الكبير والاتساع المظفر
للأنتربولوجيا التربوية لا يشكل تطفلا أو تهديدا للعلوم التربوية
الكلاسيكية (فلسفة التربوية، علم الاجتماع التربوي، علم النفس التربوي)
بل وعلى خلاف ذلك فإنه يعزز مسار هذه العلوم يستفيد منها ويعمل على
تحقيق التقارب فيما بينها، والتلاقي بين معطياتها وتوحيد اتجاهاتها في
مسار اكتناه الحقيقة الإنسانية في تجلياتها التربوية.
فالأنتروبولوجيا التربوية تستجيب لتساؤلات وجودية حيوية جديدة في
الحياة التربوية، تتمثل، في العنف التربوي، والتمييز الاجتماعي،
والتعصب، والعودة إلى المقدس، وتراجع القيم، وظهور أنماط جديدة
للعلاقات الاجتماعية، وأزمة الهوية، وأزمة الانتماء، وتفكك الأسرة،
والقضايا التربوية للفئات العرقية والإثنية، والآثار التربوية للتقانة
والثورات العلمية في ظل العولمة. وهذه الظواهر تأخذ حضورها الكبير في
مجال سلوكنا وحياتنا اليومية والتربوية. ومن الواضح أن هذه القضايا
تؤطر في تصورات أيديولوجية وديماغوجية وفي أوهام إعلامية، وهنا يبرز
دور الأنتربولوجية التربوية في إحالة هذه القضايا إلى مسار التوجهات
العقلانية فما لأسبابها واستكشافا لماهياتها الغامضة. وفي هذا المسار
تعمل الأنتروبولوجيا على تنظيم هذه القضيايا في سياقها الثقافي
والاجتماعي والانتقال بها من صورة التعقيد التي هي عليه إلى الوضوح
الأنتربولوجي في أسمى معانيه. وحان الزمن التربوي الذي يجب فيه تحليل
الطقوس والكشف عن دلالاتها في دوامة التفاعل التربوي بين العام والخاص
بين الكلي والجزئي بين الأنا والآخر، وجاء الزمن الأكاديمي الذي يجب
فيه اكتناه المعاني والدلالات والرموز على نحو أكثر عمقا وشمولا في
مدار الممارسات التربوية المعاصرة. هذه القضايا والتحديات الجديدة تشكل
اليوم الموضوعات الأساسية الأنتروبولوجيا التربوية.
والأنتربولوجيا التربوية بالتعريف فرع ناشئ من الأنتربولوجيا
الثقافية تحديدا، وهي فرع علمي يوظف المناهج الأنتربولوجية في دراسة
الظواهر التربوية ومؤسسات التنشئة الاجتماعية على نحو شمولي وكلي.
ويمكن القول في هذا السياق إن الأنتربولوجية التربوية قد نشأت وتطورت
تحت مظلة الأنتروبولوجيا الثقافية التي غالبا ما تركز على العلاقة
الجوهرية بين الشخصية والثقافية. وتعد الأنتروبولوجيا التربوية من أحدث
الفروع العلمية الاجتماعية والأنتروبولوجية ويمكن في هذا السياق
الإشارة إلى ثلاثة محطات تاريخية في تطور الأنتروبولوجيا التربوية:
تتمثل المحطة الأولى في عام 1955 عندما نشر سبندلر G. D. Spindler
كتابه المعروف التربية والأنتربولوجيا Education and Anthropology في
ستاندفور. وتتمركز المحطة الثانية في عام 1970 أي في السنة التي تمّ
فيها تأسيس مجلس الأنتربولوجيا والتربية Council of Anthroplogy and
Education بإشراف الجمعية الأنتربولوجية الأمريكية American
Anthropological Association. وتنتظم المحطة الثالثة مع ظهور الدورية
العلمية الفصلية التي حملت اسم الأنتربولوجيا والتربية Anthropology
and education Quarterly في عام 1978. وقد ظهرت الأنتربولوجيا التربوية
وعملت على تحقيق استقلالها من خلال التجاوب مع الضرورة الاجتماعية
والاحتياجات العلمية في نتهاية عام 1960 ولاسيما في معترك الصراع مع
علم النفس التربوي. ويمكن تفنيد العوامل التي أدت إلى ظهورها في
الجوانب التالية:
عوامل اجتماعية سياسية: وذلك عندما استعانت الحكومة الأمريكية
بعلماء الأنتربولوجيا لمواجهة المشكلات التربوية المتعلقة بالفئات
الاجتماعية العرقية والأقليات الدينية والفئات الاجتماعية الفقيرة. ومن
المدهش بمكان في هذا السياق أن بعض الأنتربولوجيين قامو بتصنيف
الجماعات الفقيرة في المجتمع الأمريكي بوصفها أقليات ثقافية وهذا ما
يمكن ملاحظته بصورة متواترة في نصوص الباحث الأنتربويلوجي المعروف
أوكبو Ogbu. وفي هذا السياق فإن اوكبو كان يؤكد بأن الأنتربولوجيا
التربوية كانت ذات طابع برغماتي وتفعي قبل أن تصبح علما أكاديميا في
عام 1980. وفي غضون الأعوام الثلاثين المنصرمة بدأت الأنتروبولوجيا
التربوية تهتم بدراسة أطفال الفئات الفقيرة والأقليات العرقية والدينية
الذين كانوا يعانون من صعوبات التمدرس ويخفقون في المدارس التي ينتسبون
إليها.
عوامل إبيستيمولوجية: وقد تمثلت في الخلاف بين الأنتربولوجيين
وعلماء النفس التربويين حول مفهوم الحرمان الثقافي Cultural
deprivation. وجوهر هذا الخلاف يكمن في تجاهل علم النفس التربوي للظروف
الاجتماعية اللغوية والإثنية والثقافية التي تشكل مبدأ العطالة
المدرسية من وجهة نظر الأنتروبولوجيين بينما كان علماء النفس التربوي
يأخذون بالطابع السيكولوجي لهذه المسألة دون اهتمام كبير بالأوضاع
الاجتماعية. وفي مواجهة المفهوم السيكولوجي (الحرمان الثقافي) استخدم
الانتربولوجيون مفهوما بديلا هو القطيعة الثقافية أو الثغرات الثقافية
إذا صحت الترجمة «Cultural discontinuities » (Ogbu, 1982, 291). وهذا
يرمز إلى التباين بين الأهداف التربوية للمجتمع وبين الإدارة التربوية،
ويراد بذلك أن الأنتربولوجيين كانوا يعتقدون على أن نقل المعرفة ليس
الهدف الوحيد للمدرسة بل تقوم بأداء مهمات حيوية أخرى في دائرة الحياة
الاجتماعية. وتتضح هذه الرؤية بالمقارنة مع تصور علماء النفس التربوي
الذين كانوا ينظرون إلى المدرسة بوصفها مجرد وكالة أو مؤسسة اجتماعية
تقوم بدور تربوي شكلي ورسمي، وقد بني على هذا التصور بأن الطلاب مجرد
كائنات خلقت من أجل التعلم بصورة أكبر وأفضل وأسرع((Wax, 1971, 8) Ogbu
1985, 280).
فالأنتربولوجيا التربوية الأكاديمية حديثة النشأة وذلك لأن
الأنتروبولوجيين لم ينظروا في بداية الأمر إلى المؤسسات المدرسية
كموضوع من الموضوعات الأساسية لأبحاثهم، حيث كان اهتمامهم يركز على
الأسرة واللغة والدين والاقتصاد خارج دائرة المؤسسات المدرسية. لقد
أراد هؤلاء الأنتروبولوجيون في البداية تأسيس معرفة أنتروبولوجية على
أساس الثقافة الموجهة إلى المربين والمخططين المعنيين بالعملية
التربوية للسكان الأصليين في المستعمرات. كما هو الحال بالنسبة
للمهاجرين والأقليات العرقية في داخل مجتمعاتهم، وهم في دائلرة هذا
التوجه كانوا يعملون على دحض الأفكار والمزاعم الخاطئة التي نسبت إلى
ذكاء السكان الأصليين والأقليات العرقية وقدرتهم على التعلم والاكتساب.
لقد وجه هؤلاء الأنتروبولوجيون نقدا كبيرا إلى المربين الذين كانوا
يجهلون ثقافة هؤلاء الذين يقومون على تعليمهم وتربيتهم. ومع ذلك فإن
وجهات نظر هؤلاء الأنتروبولوجيين إلى القضايا التربوية والحلول الممكنة
للمشكلات التعليمية كانت غالبا تتباين بتباين التصورات والإيديولوجيات
والمدارس التي ينتسبون إليها. فعلى سبيل المثال كان هيويت
(Hewett,1905) متأثرا جدا بالنظرية التطورية لسبنسر حيث كان يتناول
القضايا التربوية للسكان الأصليين وفقا لتصوراته التطورية ويرى بأنه
يجب فرض الثقافة الأنكلوساكسونية على هؤلاء السكان بوصفها ثقافة أرفع
وأكثر تطورا في سلم التطور الإنساني. وتأسيسا على هذا التصور كان يطالب
بدراسة الثقافات الأصلية للسكان والانطلاق نحو تربية متعددة الثقافات.
وعلى خلاف هيويت كان بوز Boas يركز على مفهوم النسبية الثقافية وعلى
هذا الأساس كان شغوفا بجمع المعطيات الثقافية والفيزيائية ليبرهن على
أن التباين والاختلاف في التحصيل المدرسي ناجم عن الاختلاف في الثقافات
وليس في العناصر المادية والفريزيائية والجغرافية للسكان الأصليين.
وفي هذا السياق يرفض مالينوفسكي Malinowski بقوة الفرضية التي تذهب
إلى القول بأن انخفاض مستوى ذكاء الشعوب الأصلية ولاسيما الشعوب
الإفريقية وفقا لمقياس الذكاء المعروف Qi (Intelligence Quotient) يعود
لعوامل بيولوجية وعرقية ويفسر هذا التباين في مستويات الذكاء بالعودة
إلى مستوى التعليم المتدني الذي يتلقاه الأطفال الإفريقيين بالمقارنة
مع التعليم الجيد الذي يتلقاه الأطفال الأوروبيين. , وكان ينصح المربين
باحترام الثقافات التقليدية للسكان الأصلين والمحافظة عليها. وحتى هذه
اللحظة يمكن القول بأنه لم يقم أي من الأنتروبولوجيين بالتصدي للتعليم
الرسمي كقضية أنتروبولوجية، ولم تدرس المؤسسات المدرسية من زاوية
أنتروبولوجية.
ومع بداية الخمسينات من القرن الماضي، بدأ بعض الأنتروبولوجيون
بتناول قضايا التعليم المدرسي الرسمي وإشكالياته على نحو أنتروبولوجي.
ويعد سبندلر من طليعة هؤلاء الأنتروبولوجيين الذين درسوا العلاقات بين
الإداريين واالتلاميذ في المؤسسات المدرسية (Spindler,63). وفي هذه
الفترة ظهرت طليعة من الأنتروبولوجيين الذين بدؤوا يتناولون المؤسسات
الرسمية بالدراسة والتحليل من منظور أنتروبولوجي. وقد نشرت نتائج أبحاث
هؤلاء الأنتروبولوجيين في الدوريات العلمية التي لم تكن دوريات
انتروبولوجية متخصصة في الأصل. وفي هذه الفترة كان للندوة الدولية التي
جمعت بين الأنتروبولوجيين والمربين في ستانفورد برعاية الجمعية
الآنتروبولوجية الأمريكية (American Anthropologist Association) دورا
كبيرا في تعميق التواصل العلمي بين الأنتروبولوجيا والتربية. وكان لهذا
المؤتمر تأثير علمي كبير في توليد انتربولوجيا التربية كفرع علمي يبشر
بحضوره الكبير في عالم التربية والتعليم، حيث نشرت أبحاث هذا المؤتمر
ونتائجه في كتاب جامع حمل عنوان التربية والأنتروبولوجيا Education and
anthropologt) )، (Spindler 1955).
وقد تضافرت في ثلاثة عوامل في هذه المرحلة كان لها الأثر الكبير في
توليد اهتمام الأنتروبولوجيين بالتربية وقضايا المؤسسات المدرسية، وفي
نشوء الأنتروبولوجيا التربوية كفرع من فروع الأنتروبولوجيا العامة.
يتمثل العامل الأول في الأزمة الاقتصادية التي واجهتها الولايات
المتحدة الأمريكية في عام 1960، حيث وجهت الدعوة إلى الأنتروبولوجيين
للمشاركة في مواجهة هذه الأزمة ولاسيما المشكلات والتحديات التي واجهت
نظام التعليم القومي في الولايات المتحدة ولاسيما الصعوبات والمشكلات
التي كان يواجهها الفقراء والأقليات. وفي هذا السياق تنادى فريق من
الأنتروبولوجيين لدراسة المؤسسات المدرسية أمبيرقيا في الحال لمواجهة
الأزمة الاجتماعية ولاسيما المؤسسات المدرسية التي يرتادها الفقراء
وأبناء الأقليات. ومن أجل تقديم الإجابات العلمية حول هذه الأزمة
بمعطياتها المختلفة أجرى ستانلي دياموند Stanley Diamond دراسته
المعروفة بعنوان ثقافة المدرسة Culture of the School في عام 1966، وقد
حرص دياموند في هذه الدراسة على وصف الأوضاع التربوية القائمة وتوجيه
النقد الأنتروبولوجي للمؤسسات المدرسية القائمة في تلك المرحلة،
واستطاع عبر هذه الدراسة أن يدعو إلى تنظيم ندوات تدور حول المشكلات
التربوية لهذه المؤسسات ودراسة العلاقة بين هذه الأوضاع المدرسية
والأزمة السياسية والاجتماعية التي كانت تضرب البلاد. وقد قدمت نتائج
هذه الدراسة الهامة إلى المكتب القومي للتربية في الولايات المتحدة
الأمريكية (United States Office of Education) في عام 1966. وقد نشرت
نتائج هذه الدراسة في كتاب بعنوان المنظور الأنتروبولوجي للتربية
(Anthropological perspective on education) في عام 1971 باشراف Wax
Diamond et Gearing.
ويتمثل العامل الثاني الذي شجع على ولادة الأنتروبولوجية التربوية
ونهضتها في الستينات ضرورة الرد على الاتجاهات السيكولوجية للثقافة
وتفنيد التصورات والمنطلقات الخاطئة فيها. فالمنظور الثقافي
للأنتربولوجيا التربوية ينطلق من معطيات مادية واجتماعية، حيث تقدم انت
نسقا من السمات والخصائص التي تتميز بها الثقافة الخاصة بالعمال وتلك
الخاصة بالطبقة البرجوازية لأغراض المقارنة بين مختلف الثقافات
الطبيقية في دائرة المجتمع المحلي. وقد بينت الدراست الأنتروبولوجية
وجود فروق ثقافية واضحة المعالم بين ثقافة الجماعات والأقليات العرقية
والدنيا في المجتمع بالمقارنة مه هذه التي تهيمن في الأوساط البرجوازية
البيضاء وافترضت هذه الدراسات أن أبناء الفئات الدنيا في المجتمع
يعانون من ضعف ثقافي كبير Culturally deprived. ولكن هذه النتائج تعرضت
لموجة من الانتقادات الحادة من قبل عدد من الأنتروبولوجيين الذين
اعتقدوا بأن الفوارق الثقافية ناجمة عن التباين في أوضاع المؤسسات
المدرسية التي تتباين مع تباين الفئات الاجتماعية الدنيا في المجتمع.
فأطفال الفقراء يخفقون في المدارس تحت تأثير الأوضاع المزية للمؤسسات
المدرسية التي يرتادونها وتحت تأثير الأوضاع الصعبة للحياة الاجتماعية
الفقيرة التي تحيط بهم.
ويتجلى العامل الثالث في الجهود التي بذلها الأنتروبولوجيين لدراسة
المؤسسات المدرسية والخوض في قضاياها ومشكلاتها الحيوية. ومن أجل تعزيز
هذه الجهود عمل الأنتربولوجييون المعنيون بالمؤسسة المدرسية على إنشاء
جمعية تتكون من فريق من الباحثين كانت مهمتهم بناء البرامج
الأنتروبولوجية ونشرها في المؤسسات المدرسية. وقد عملت هذه الجمعية
الأنتروبولوجية على جعل برامجها أكثر وضوحا فعززت حضورها في برامج
المعاهد والمدارس العليا في تلك المرحلة. وفي هذه المرحلة بدأ مركز
التنمية التربوي في جامعة هارفارد بتطوير برامج انتروبولوجية تربوية
للمدارس العليا المتوسطة. واستطاع هذه الجهود مجتمعة أن تقوم بأعمال
كبيرة وهامة أدت إلى توسع وانتشار الأنتروبولوجيا التربوية وحضورها
المظفر في الوسط التربوي في الولايات المتحدة الأمريكية. ولم يكتف رواد
هذا الاتجاه الأنتروبولوجي التربوي عند حدود تعزيز هذا الاختصاص في
المؤسسات المدرسية وتقديم الكتب والمراجع المدرسية، بل عملوا في الوقت
نفسه على تكثيف جهودهم البحثية وتأصيل نتائجها في مضمار الحياة
المدرسية في عدد كبير من المؤسسات المدرسية والتعليمية التي اختاروها
بعناية ودراسة. وقد عملوأ أيضا على نشر نتائج أبحاثهم ودراساتهم بصورة
مكثفة ومنظمة أدت إلى بلورة هذا الاختصاص العلمي بوضوح وقوة في داخل
الحياة التربوية والمدرسية.
ومما لا شك فيه أن هذه الجهود قد عملت بالنتيجة على التوسع في هذا
الميدان توسعا يتطلب إعداد مدرسين للأنتربولوجيا التربوية في المؤسسات
المدرسية، وقد عمل هؤلاء المدرسين بدورهم على تأسيس جمعيات واتحادات
ونقابات متخصصة في مجال الأنتربولوجيا التربوية، وهذا بدوره أعطى هذا
الاختصاص حضورا كبيرا ونشطا في مختلف الأنساق المدرسية في الولايات
المتحدة الأمريكية.
وقد توجت هذه الجهود بتأسيس المجلس الأعلى للأنتروبولوجيا والتربية
في عام 1970. وكان هدف هذا المجلس توحيد الجمعيات الأنتربولوجية
والأعداد المتزايدة لأعضائها في مؤسسة علمية واحدة على المستوى القومي،
وقد أصدر هذا الاتحاد عددا كبيرا من الكتب والدوريات التي ساهمت في
اتساع دائرة الأنتروبولوجيا التربوية وتعزيز مكانتها بين الاختصاصات
العلمية في هذه المرحلة. وقد عنيت الأبحاث التي أشرف عليها المجلس
الأعلى عددا كبيرا من القضايا التربوية مثل قضايا: اللغة والثقافة
والمعرفة والتحصيل المدرسي والديمقراطية التعليمية ومسائل الأقليات
التربوية وغير ذلك من القضايا التربوية تحت مظلة الأنتروبولوجيا
التربوية الناشئة.
وشهدت مرحلة الستينات نشاطا علميا كبيرا في مجال الأنتربولوجيا
التربوية تجلى في نشر عدد من الكتب والأبحاث الهامة، وقد نشرت هذه
البحوث في مجلة البحوث التربوية. ولكن الأنتروبويلوجيا التربوية لم
تصبح علما مستقلا وحقيقا إلا فيما بعد عام 1970 وذلك باعتراف أغلب
الباحثين والمفكرين في هذا الميدان (Diamond, 7 l). وقد أعلن لنكس
Linquist هذا الأمر بوضوح فالأنتربولوجيا التربوية برأيه لم تحقق
استقلالها كعلم مستقل وذلك لأنها لم تحقق الحدّ المطلوب من التراكم
البحثي والموضوعي في ميدانها الخاص، وقد أعلن في حينها ايضا أن هذه
الأنتربولوجيا لم تستطع أن تقدم مفاهيمها الخاصة المتجانسة في مجال
الأبحاث الدائرة في الأنساق المدرسية والتربوية.
ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى مجموعة من العوامل التي تفسر لنا
لماذا لم تصبح الأنتربولوجيا التربوية علما مستقلا قبل عام 1970. ومن
هذه العوامل أن المدارس في المجتمعات التي خضعت للدراسة من قبل
الأنتربولوجيا التربوية لم تأخذ طابعا مؤسساتيا، ويسوق دياموند Diamond
سببا آخر يتمثل في أن الدراسات التي أجريت في المستعمرات حول المدرسة
كمؤسسة للتغيير الاجتماعي تتعارض مع التوجهات البنيوية الوظيفية
للأنتربولوجيا. ويضاف إلى ذلك أن الأنتربولوجيين في موطنهم أو في
بلدانهم لعبوا دور المحامي في الدفاع عن الأوضاع التربوية للأقليات
العرقية والفئات الاجتماعية المهيضة. ويضاف إلى ذلك أن أغلب الدراسات
التي أجريت كانت دراسات أمبيريقية وهذا يعني افتقار هذا الفرع العلمي
الوليد إلى الطاقة الفكرية التي تتعلق بالمفاهيم والنظرية والفلسفة
العلمية التي تعطي للعلم طاقته الفكرية وتمنحه طابع الاستقلال. لقد
بينت المراجعات الإحصائية أن النشاط العلمي للباحثين في هذا الميدان
كان ضعيفا جدا فيما يتعلق بالأبحاث النظرية على مدى الأعوام السابقة.
وفيما بعد عام 1970 بدأت الأعمال الأنتروبولوجية التربوية تتجه إلى
تعميق الأطر النظرية والفلسفات والمفاهيم بصورة واضحة حيث تمت
الاستفادة الكبيرة من البحوث الأنتروبولوجية في مجال الثقافة والشخصية
التي شكلت تراثا أنتروبولوجيا يتميز بخصوبته وفعاليته.
الأهداف والبنية:
تأثرت الأنتربولوجيا التربوية في البدايات بمناهج العلوم الاجتماعية
ونظرياتها واستندت إليها في تناول المشكلات والقضيا التربوية. واستطاعت
تدريجيا أن تطور مناهجها ونظرياتها الخاصة بها مع مرور الزمن. وقد شكات
عملية تحديد الأهداف المحور الأساسي لنشاط الباحثين الأنتروبولوجيين في
مجال التربية. وفي هذا المسار كثف واكس (Wax 1971) اهتمامه في الكشف عن
الأهداف الرئيسة للأنتربولوجيا التربوية واستطاع أن يحدد ثلاثة مسارات
أساسية لهذا العلم:
- إجراء الدراسات التاريخية المقارنة حول الأنظمة التربوية وقضاياها
المتنوعة.
- إجراء الدراسات النظرية وبناء المفاهيم
الأساسية الحيوية في مجال الاختصاص.
- أجراء الدراسات الأنتربولوجية التطبيقية في المجال التربوي.
- دراسة المضامين التربوية في داخل المؤسسات التربوية وفقا لمنهج
الملاحظة الأمبيرقية والأثنوغرافية.
- دراسة السياق العام للعملية التربوية في المدارس والمؤسسات
التربوية.
- الاستفادة من آراء ووجهات نظر الباحثين القائمين على تفسير وتحليل
صيرورات الحياة التربوية في المؤسسات التعليمية.
والمهم في هذا السياق أن الأنتروبولوجيين في هذه المرحلة عملوا على
بناء مناهجهم ومفاهيمهم الخاصة لدراسة الظواهر التربوية على نحو
أنتروبولوجي. وقد تمركزت مناهجهم هذه على المناهج الحية التي تعتمد على
الوصف المباشر الشخصي الإثنولوجي لأوضاع المدرسة وما تنطوي عليه من
عناصر إشكالية. وقد تبنت هذه الأنتربولوجيا المعطيات الجديدة للبحوث
الإثنوغرافية في مجال دراسة الأسرة واللغة والثقافة والمعرفة والهوية
والطقوس والضبط الاجتماعي. وبصورة عامة اتسمت المناهج الجديدة لعلم
الأنتروبولوجية التربوية على الدراسات الوصفية الإثنولوجية وارتكزت إلى
السياق العام للظواهر المدروسة وإلى منهج دراسة الحالة المقارن. ومع
ذلك فإن الجانب التفسيري لهذا العلم بقي في حدوده الدنيا حتى هذه
المرحلة. والمهم في هذا المستوى أن الأنتروبولوجيا التربوية كثفت
جهودها من أجل بناء معرفة جديدة ورؤى وتصورات متجددة حول الظاهرة
التربوية وقد عملت في الوقت نفسه على توظيف هذه المعرفة الجديدة في
دراسة الظواهر المدرسية والتربوية.
مناهج الأنتروبولوجيا التربوية:
يشكل المنهج الوصفي الإثنوغراقي والبحث الميداني الخقلي الذي يقوم
على التفاعل المباشر مع الظاهرة المدروسة المنهج الأساسي للأنتربولوجيا
والأنتربولوجيا التربوية الذي يركز على مبدأ المشاركة الحيّة للباحثين
في فعاليات الظاهرة المدروسة. ويتطلب هذا المنهج فترة طويلة من الزمن
يتوجب فيها على الباحث معايشة الظاهرة والتفاعل معها وفي الحدود الدنيا
أن سجل نسبة كبيرة من الحضور الزمني للتعايش الفعلي مع معطيات الظاهرة
المدروسة. وتتجلى هذه الممارسة المنهجية في دراسة الأحياء الشعبية
والقرى وبعض المناطق النائية وهذا ينسحب أيضا على المؤسسات المدرسية
والتربوية بصورة عامة.
ويمكن القول بأن التعايش مع الظاهرة والمشاركة في أحداثها أمر ضروري
يفرضه منهج البحث المعتمد في ميدان الظاهرة الأنتربولوجية، فالمنهج
الأنتروبولوجي يوجب على الباحث أن يتعايش مع القضايا التي يدرسها وأن
يقوم بجمع المعلومات بطريقة مباشرة وحية في ميدان الظاهرة المدروسة حيث
يتعايش بصورة طبيعية مع أحداثها، ويستكشف على نحو أعمق مختلف الملابسات
التي تتعلق بمجرياتها، وهذا المنهج يمكّن الباحث من الحصول على معلومات
حيوية عبر التفاعل والحوار والتساؤل والتفاعل واستخدام الاستبانات،
وذلك حينما يكون الباحث قادرا على استخدام لغة المعنيين بالدراسة
ومدركا لمختلف العناصر الثقافية والذهنيات التي تسود في دائرة الجماعة
المدروسة.
ويتميز المنهج الأنتروبولوجي بارتكازه الأساسي على تقانة المشاركة
الحية والتفاعل المباشر مع الظاهرة قيد الدراسة، وهو بذلك يتصف
بالبساطة والعفوية. ولكن هذا المنهج الوصفي الأنتربولوجي يعتمد تقانات
أخرى مختلفة لأداء البحث العلمي في أكمل صورة متوخاة له.
فالأنتربولوجيون يعتمدون في أداء عملهم البحثي الاستبانة والمقابلة
والوصف والوثائق والسير الذاتية والملاحظة والمقارنة وكل الأدوات التي
تساعد في استكشاف أبعاد الظاهرة المدروسة واستقرائها، كما يستخدمون
التسجيل الصوتي والمرئي والتدوين المستمر للملاحظات، ويضاف إلى ذلك أن
هذا المنهج يعتمد في كثير من فعالياته على جمع البيانات الكمية
لاستكمال الصورة الحقيقية للظاهرة المدروسة.
ويؤكد مالينوفسكي في هذا الخصوص على ضرورة أن يتعايش الباحث
الأنتروبولوجي مع المجتمع المدروس، لأنه كما يعتقد لا يمكن فهم الحياة
الاجتماعية لدى شعب من الشعوب البدائية إلا إذا درست دراسة عميقة
ومركزة تقوم على اندماج الباحث في داخل الجماعة المدروسة والتفاعل معها
حتى يصبح وكأنه أحد أفرادها في مختلف مستويات تفاعلها الثقافي
والاجتماعي والأخلاقي. وقد نفذ مالينوفسكي تأكيده هذا عندما درس قبائل
“التروبرياندر” إحدى قبائل شرق آسيا الكبيرة، دراسة مطولة استغرقت أربع
سنوات، وكان أول من استخدم لغة الأهالي في جمع المعلومات. وقد أتاحت له
هذه المدة الطويلة فرصة التعمق والتغلغل في الحياة الاجتماعية لتلك
القبائل.
ويمكن الإشارة إلى وجود عدة أنماط من البحوث الإثنوغرافية الوصفية
للأنتربولوجيا التربوية. ويمكن التمييز في هذا الخصوص بين ثلاثة أنماط
أساسية:
- فهناك البحوث الوصفية الشمولية حيث يقوم الباحث بتقديم وصف شمولي
لمختلف جوانب الحياة والوجود للجماعة المعنية بالدراسة سواء أكانت هذه
الجماعة جماعة مدرسية(فصل مدرسي) أو مدرسة، أو جماعة اقران مدرسية، أو
جماعة من المعلمين. ويكون هذه البحث في هذا المستوى تقديم وصف كامل
لمختلف المعطيات والتقاطعات والمضامين بالجماعة موضوع البحث، وهذا
النوع من البحوث يركز على وصف العادات والذهنيات والعقائد والنشاطات
ومختلف الفعاليات التي تتصل بالجماعة موضوع الدراسة.
- وهناك البحوث التي تركز على جانب معين من جوانب حياة الجماعة مثل:
العقيدة، أو التعليم، أو الإبداع، أو التفاعل المدرسي، أو العنف
المدرسي، فالتركيز هنا يكون حول قضية ما معينة يتم الخوض في مختلف
جوانبها وعواملها ومتغيراتها.
- أما النوع الثالث من البحوث فيتمثل في التركيز على فرضية بحثية
يقوم الباحث الأنتربولوجي باختبارها والتأكيد من معطياتها وقد تكون هذه
الفرضية جديدة أو مستمدة من بحوث أنتربولوجية سابقة، والمهم في الأمر
أن جهود الباحث تدور حول الفرضية دون غيرها من القضايا التي تتصل
بالظواهر المدروسة.
ويمكن أن نجد تصنيفات أخرى للبحث العلمي في مجال الأنتربولوجيا
التربوية، فهناك البحوث الشمولية “الماكروانتربولوجي”
Macroantropologie وهناك البحوث التي تأخذ طابعا مصغرا لجماعة محددة أو
مجال مصغر ويطلق عليها “الميكروانتربولوجي” Microanthropologie.
ومن الدراسات التي اتخذت طابعا شموليا يشار إلى دراسة J.ogbu التي
أجراها في كاليفورونيا عام 1974، حيث تناول في دراسته هذه جماعة السود
المحلية في نسق علاقاتها بالمؤسسات المدرسية التي يرتادها، وفام بدراسة
العلاقة بين المدرسة والصف من جهة والأوضاع المهنية والاقتصادية للسكان
السود في هذه المنطقة. وعلى خلاف هذه الرؤية الشمولية للظواهر المدروسة
فإن ” الميكروانتربولوجي” تركز على الوحدات الصغرى قدر الإمكان وتدرس
العلاقات الداخلية في هذه الوحدات مثل جماعة الصف، أو جماعة القران، أو
جماعة من المدرسين في مدرسة ما معينة، وفي الحدود القصوى قد تشكل
المدرسة وحدة دراسية يتم فيه دراسة العلاقات الداخلية بين مكوناتها بين
المعلمين والمتعلمين والإدارة.
ومن الإشكاليات التي يعانيها الباحثون في مجال الأنتربولوجيا
التربوية صعوبة تحليل المعطيات الهائلة التي يحصلون عليها عبر التسجيل
الصوتي والمرئي والملاحظات اليومية التي غالبا ما تشكل ركاما من
المعلومات الخام التي تحتاج إلى تحليل وتصنيف وتنظيم وتفسير. ومن
الواضح أن الأنتربولوجيا الكلاسيكية لم تضع أي منهج محدد في طريقة
التعامل مع المعلومات والبيانات فيما يتعلق بتصنيفها وتنظيمها وتفسيرها
أيضا. وفي مواجهة هذه المعضلة بدأ بعض الباحثين الأنتروبولوجيين
التربويين باستكشاف تقانات محددة للتعامل مع البيانات والمعطيات
البحثية التي تتميز بغزارتها وتدفقها.
ومما لا شك فيه أن الأنتربويلوجيا التربوية قد تعرضت في هذا المستوى
لعدد كبير من الانتقادات من قبل الباحثين والمفكرين في العلوم
الاجتماعية الأخرى، وتصب هذه الانتقادات حول طبيعة الفرضيات والبيانات
والتقانات البحثية المعتمدة في هذا الفرع العلمي الناشئ. وقد أثمرت هذه
الانتقادات الكثيرة في تصويب وتصحيح المسارات المنهجية للأنتربولوجيا
التربوية التي بدأت بابتداع طرائق ومناهج وتقانات أكثر كفاءة وقدرة على
تناول المعطيات الخام وتحويلها إلى طاقة فكرية تفسيرية.
الأطر النظرية:
لقد أوضحنا بأن الأنتربولوجيا التربوية كانت تعاني من ضعف كبير في
الجوانب النظرية قبل عام 1970، حيث لم يكن في مقدور هذه الأنتربولوجيا
إبداع الطاقة النظرية التي تتصل بالمفاهيم والرؤى والنظريات الخاصة
بالحياة التربوية والمدرسية. وقد أبَنا أيضا بأن هذه الأنتروبولوجيا
كانت تعتمد فرضية مركزية قوامها بأن المؤسسات التربوية تقوم بعملية
التحويل الثقافي وكانت هذه الفرضية مستمدة من الأنتربولوجيا الثقافية
التي فرضت نفسها في المراحل الأولى لنشأة الأنتربولوجيا العامة.
وبالنتيجة فإن تبني مثل هذه الفرضية وضع الأنتربولوجيا التربوية في
مواجهة نسق من الصعوبات والتعقديات، منها:
- تفيد هذه الفرضية بأن جميع الأطفال يخضعون لعملية تحويل ثقافي منذ
الطفولة حتى المدرسة، وأن المدرسة تشكل مجرد حلقة من حلقات هذا التحويل.
وفي هذا الافتراض تختفي معالم التباين في عملية التثقيف بين الأطفال
وفقا لظروفهم وأوضاعم الاقتصادية.
- تتضمن هذه الفرضية فكرة أساسية قوامها أن عملية التثقيف هذه لا
يمكن أن تفهم بصورة منعزلة عن ذهنية الطفل نفسه، وهذا يعني أن إدراك ما
يجول في ذهنية الطفل يشكل ضرورة حيوية في فهم مسار وتموضعات عملية
التحويل الثقافي ذاتها.
- وتقتضي هذه الفرضية بأن وظيفة المدرسة لا تقتصر على عملية التحويل
الثقافي فحسب حيث تؤدي وظائف أخرى متعددة وهي ترتبط ارتباطا وثيقا مع
عدد كبير من المؤسسات الاجتماعية والتربوية. ويترتب على هذا التصور أنه
لا يمكن دراسة المؤسسة المدرسية بصورة مستقلة عن الوسط الذي يتكامل
ويتفاعل معها وظيفيا واجتماعيا.
وينبني على الفرضية أيضا أن المدرسة تشكل انعكاسا عفويا وطبيعيا
للمجتمع الحاضن لها، ووفقا لهذا التصور فإن المدرسة تشكل صورة للأدوار
والفعاليات والهويات والصراعات الاجتماعية للوسط الاجتماعي الذي تكمن
فيه.
وقد حاول سبندلر Spindler في هذا السياق أن يقدم نماذج
انتروبولوجية لتفسير الكيفيات التي تؤديها المدرسة في عملية التحويل
الثقافي في داخل المجتمع، وفي دائرة هذه المحاولة عمل على تفسير
العلاقة بين التغير الثقافي وخيارات الأفراد الثقافية. وهنا، يبين
سبندلر أن الأنظمة الثقافية تعمل بفعالية كبيرة وفترات زمنية أطول
طالما استطاعت أن تنتج قيما وأنماط ذهنية وفكرية مقبولة ومتوقعة
ومرغوبة(spindler,76,10). فالنشاطات والفعاليات والذهنيات تشكل الأدوات
الأساسية لتحقيق الأهداف الثقافية في داخل المجتمع وبالتالي فإن هذه
الأدوات هي التي تحدد أنماط السلوك في ثقافة الجماعة أو المجتمع. وهذا
يعني في النهاية أن العلاقات القائمة بين السلوكات والنشاطاهت والأهداف
هي علاقات أداتية Realations Insrumentales ومن ثمّ فإن هذه العلاقات
تشكل جوهر النظام الثقافي القائم في المجتمع أو الجماعة المعنية. ويضاف
إلى ذلك أن هذه العلاقات تشكل الأساس الحيوي لنظام القيم والمعايير في
داخل الثقافة نفسها. ومن هذا المنظور فإن المدرسة والأسرة والعائلة
وجماعات الأقران والمؤسسات الدينية والطقوس الاجتماعية هي التي تقوم
ببث القيم والأعراف والمعايير التي تؤسس لهذه العلاقات الحيوية في
دائرة الحياة الاجتماعية. وتحت تأثير هذا التحويل الثقافي لهذه
المؤسسات فإن الطفل يستبطن النمط الثافي السائد في المجتمع ويتبناه بما
ينطوي عليه من قيم ومعايير ومثل أخلاقية أيضا. ومع أهمية هذا التمثل
للنمط الثقافي السائد في المجتمع، عبر التحويل الثقافي للمؤسسات
المدرسية، فإن أفراد المجتمع لا يتورعون عن توجيه النقد إلى هذا النظام
الثقافي في فترة التحولات والتغيرات الثقافية، ولاسيما التغيرات
النوعية والطفرية التي تشهدها ثقافة المجتمع. وتحت تأثير هذه التغيرات
يتخلى الأفراد عن بعض الأنماط الثقافية وبعض العناصر في اتجاه تمثل
عناصر جديدة تكون أكثر كفاءة وقدرة على تمثل علاقات فعالة وظيفيا تنسجم
مع طبيعة التحولات الحاصلة في الميدان الثقافي(Spendler.74).
وقد عمل سبندلر على أبداع تقانة منهجية جديدة يمكن توظيفها بفعالية
في عملية جمع البيانات وتصنيفها وتفسيرها في مجال البحوث
الأنتروبولوجية التربوية، وتضمنت هذه المنهجية أداة بحثية أطلق عليها
Instrumental activities inventory ويمكن ترجمة هذه التسمية “بكشاف
النشاطات والفعاليات “، وتتضمن هذه الأداة 37 بندا تتمثل في صور ورسوم
تغطي مختلف النشاطات الأداتية الثقافية التقليدية والجديدة. ويمكن
للتلميذ أو الأفراد المدروسين اختيار الرسوم التي يفضلونها وعلى هذا
الأساس يمكن تفسير النتائج بفعالية وفقا لنظام مرمز بصورة منهجية لهذه
الأداة.
هذا وتشكل الثقافة الإنسانية الموضوع الرئيس للأنتروبولوجيا ولاسيما
الأنتربولوجيا الثقافية Anthropologie culturelle، وتدور هذه
الأنتربولوجيا بصورة مركزية حول الثقافة ومكوناتها الأساسية وذلك من
منطلق أن الثقافة تنطوي في ذاتها كل التجارب الإنسانية للأفراد الذين
ينتسبون إليها، وهي بالتالي تشمل كل ما ليس فطريا في الإنسان أو في
الطبيعة الإنسانية (Anderson-Levitt,2006).
وإذا كانت الثقافة كمكون وجودي للإنسان تشكل الموضوع المركزي الأول
للأنتربولوجيا الثقافية، فإن عملية نقل هذه الثقافة وتحويلها تشكل
الموضوع المركزي الثاني في هذا الحقل العلمي؛ وأخيرا تأتي المؤسسات
الاجتماعية التي ينتسب إليها الأفراد في المجتمع في المرتبة الثالثة،
حيث تشكل هذه المؤسسات – بوصفها تجارب إنسانية – موضوعا مركزيا من
موضوعات الأنتروبولوجيا، وقد تخصص في دراستها فرع انتروبولوجي اتخذ
تسمية الأنتربولوجيا الاجتماعيةAnthropologie sociale، ويبدو أن هذه
الأنتربولوجيا تغطي الموضوعات التي يتناولها علم الاجتماع حيث تتقاطع
الأنتربولوجيا الاجتماعية وعلم الاجتماع في محاور متعددة في المستوى
المنهجي وفي مستوى القضايا التي تشكل موضوعا مشتركا للعلمين الناشئين.
فالمدرسة والمؤسسات التربوية على تنوعها تشكل حقلا مشتركا لعلم
الاجتماع التربوي والأنتربولوجيا التربوية. وكلاهما يحاول أن يقدم
إجابات عن تساؤلات مشتركة مثل: ما هي الوظائف الاجتماعية والثقافية
والسياسية للمؤسسة المدرسية في المجتمع؟ ما هي العناصر الأساسية لعملية
التثقيف والتربية وما هي أواليات التنشئة الاجتماعية؟ كيف تمارس
المدرسة وظيفتها التربوية في دائرة الوسط الاجتماعي وما هي طبيعة
العلاقات التي تشدها إلى المؤسسات الاجتماعية القائمة في المجتمع؟ وكيف
يمارس الصف المدرسي (الفصل المدرسي) وظيفته بوصفه وحدة ثقافية مصغرة عن
المجتمع الذي يحتضن المدرسة؟ هذه بعض الأسئلة التي تشكل مجالا علميا
مشتركا بين الفرعين والعلمين.
الأنتروبولوجيا التربوية في الولايات المتحدة:
ولدت الأنتربولوجيا التربوية الأمريكية في أحضان الأنتربولوجيا
الثقافية المعنية بمسألة التحويل الثقافي وهذا ما تبرهن عنه الأعمال
المتنوعة للباحثين الأنتروبولوجيين في هذا المجال أمثال بواز وسبندلر
وروث بنديكت Ruth Benedict، ومارغريت ميد Margaret Mead التي عرفت في
عملها المعروف “سن البلوغ في الساموا” Coming of Age in Samoa في عام
1928 Margaret Mead (1928).
ومما لا شك فيه أن الأعمال والدراسات التي أجراها عدد من
الأنتربولوجيين والتي نشرها سبندلر كان لها أكبر الأثر في استقلال هذه
الأنتربولوجيا كعلم مستقل عن الأنتروبولوجيا الثقافية، ويعد كتاب
سبندلر George et Louise Spindler التربية والثقافة Éducation et
Culture (1955) الذي نشر في عام 1955 في طليعة الأعمال التي مهدت لنشأة
هذا العلم واستقلاله لاحقا. ويلاحظ في هذا السياق أن الأعمال التي
نشرها سبندلر Spindler وموري Murray وروزالي واكس Rosalie Wax لم تقف
عند حدود الاهتمام بعملية التطبيع الثقافي، بل تجاوزت هذا المجال إلى
دراسة اللامساواة في التعليم والتربية في ضوء العوامل والمتغيرات
الاجتماعية التي أحاطت بالأطفال والتلاميذ في تلك المرحلة التاريخية،
ولاسيما العوامل الإثنية والعرقية في الولايات المتحدة الأمريكية.
وشهدت هذه المرحلة ولادة ما يسمى بأنتربولوجية المدرسة انطلاقا من
النظر إلى المدرسة بوصفها مؤسسة اجتماعية، وقد أسس هذا الفرع العلمي
الجديد تحت تأثير الاهتمام الكبير الذي أثارته أعمال سبندلر وكوكبة من
رواد الأنتربولوجية الثقافية في ذلك الوقت. ويجدر بالذكر أن الموضوع
الأساسي للدراسات الأنتربولوجية التربوية كان يتمحور حول دراسة التباين
والفروق الثقافية بين المدرسة من جهة وبين السكان الذين يتحدرون من
أقليات عرقية وإثنية.
الأنتربولوجيا التربوية في بريطانيا:
في بريطانيا وفي الفترة الممتدة بين عامي 1920 و1930، وتحت تأثير
المدّ الكبير لنظرية برونيسلو مالينوفسكي Bronislaw Malinowski, في
التحويل الثقافي اهتمت كوكبة من الأنتربولوجيين بزعامة رايموند فيرث
Raymond Firth وأودري ريتشارد Audrey Richards بمسألة التحويل الثقافي
التي تشكل المسألة الأساسية في نظرية مالينوفسكي(Goodman 2001). وفي
مرحلة لاحقة برز اهتمام ماركس كلوكمان Max Gluckman -أستاذ علم
الاجتماع والأنتروبولوجيا الاجتماعية في جامعة مانشستر – بالقضايا
التربوية من وجهة نظر أنتروبولوجية وعزز هذا التوجه في قسمه العلمي.
ومن ثم أحدث اهتمامه هذا تأثيرا كبيرا حيث أجريت أبحاث هامة أشرف عليها
كل من هارغريف D.H. Hargreaves ولاسي Colin Lacey حول أوضاع المدارس في
بريطانيا(Atkinson & Hammersley 1988, Goodman 2001). ومع ذلك يمكن
القول بأن الأنتربولوجيا البريطانيا تمحورت حول المؤسسات الاجتماعية
بدرجة أكبر من المؤسسات الثقافية ولم تشجع بصورة عامة على دراسة عملية
التحويل الثقافي المتطورة في الولايات المتحدة الأمريكية وهناك عدد
قليل من الباحثين الذين أولوا هذه المسألة اهتمامهم.
وفي هذا السياق فإن الإثنوغرافيا Ethnographie البريطانية قد تطورت
على أيدي علماء الاجتماع بدون أي تأثير من قبل الأنتروبولوجيا. وتشهد
الساحة الفكرية بوجود عدد من علماء الاجتماع التربويين الذين لم
يستخدموا كلمة ثقافة ولم يعرّفوا أبحاثهم التي اعتمدت منهج دراسة
الحالة على أنها دراسات أثنوغرافية. وإذا كانت الإثنوغرافيا تشكل علما
اجتماعيا يتقصى وجهات نظر الأفراد المبحوثين، ويبحث في الكيفيات التي
يعطي فيها الأفراد معنى لحياتهم اليومية، فإن علم الاجتماع التربوي في
بريطانيا يجري دراسات تقع تحت مظلة الإثنوغرافيا. وفي كل الأحوال فإن
عددا من الدراسات الجارية البريطانية التي كان لها أثر كبير في
الباحثين الأمريكيين مثل كيدي Keddie (1971) وويلس Willis (1977)، ركزت
على دراسة البناء المعنى الذي يضفيه المعلمون والتلاميذ على حياتهم في
سياق حياتهم التربوية اليومية. وقد أنشأ البريطانيون مجلة دولية جديدة
عونانها الإثنوغرافيا والتربية Ethnography and Education التي هدفت
إلى فهم ثقافات الجماعات المدروسة (Ethnography and Education 2004).
ويمكن القول في هذا السياق إنه لطالما تمّ تمييز الإثنوغرافيا
التربوية البريطانية عن الأنتروبولوجية التربوية الأمريكية، وأن هذا
التمييز قد تناقصت أهميته في الوقت الحالي. فالبريطانيون ما زالوا
يأخذون بهذه الفروق بين الفرعين في الوقت الذي يعطيه الأمريكيون أهمية
أقل بكثير. فعلى سبيل المثال: ينظر الباحثون البريطانيون إلى المعلم
بوصفه أحد العمال في المؤسسة المدرسية بينما ينظر إليه الباحثون
الأمريكيون بوصفه خصما للطلاب والتلامذة في المدرسة (Atkinson&
Delamont & Hammersley 1988).
الأنتربولوجيا التربوية في كندا واستراليا:
تتعايش في كندا شبكتان متمايزتان من الباحثين تتمثل الأولى في
الباحثين “الأنكلوفون” الناطقين بالإنكليزية بينما تتمثل الثانية في
الباحثين “الفرانكوفون” الناطقين بالفرنسية. وقد تأسست الجمعية الكندية
لعلماء الاجتماع والأنتروبولوجيا الناطقين بالفرنسية l’Association
Canadienne des Sociologues et Anthropologues de Langue Française في
عام 1969، وقد ترتب على ذلك تراجع مشاركة الباحثين الفرنكوفونيين في
جمعية علم الاجتماع والأنتروبولوجيا الكندية Canadian Anthropology and
Sociology Association التي تعتمد الثنائية اللغوية. ومع ذلك فإن عددا
من الباحثين الشباب ” الأنكلوفون” مثل كيمانس Cummins بدؤوا حوارا جادا
مع زملائهم الناطقين بالفرنسية في الكوبك (Cummins 1997). ويلاحظ في
هذا الخصوص أن الأنتروبولوجيا التربوية الكندية “الأنكلوفون ” التي
ركزت على دراسة تمدرس السكان الأصليين ما زالت تدور في فلك
الأنتربولوجيا الأمريكية. وذلك لأنها لا تمتلك التنظيم العلمي المطلوب
ولم تخصص دورية علمية مميزة كهذه التي تأسست في المجلس الأنتربولوجي
والتربوية في الولايات المتحدة الأمريكية (Fisher 1998).
وتوجد في استراليا تقاليد علمية غنية في مجال الإثنوغرافيا. ويتزعم
هذه التقاليد العلمية عدد من الباحثين أمثال كونيل Connell (1989)
ووالكر Walker & Hunt (1988) وهانت Hunt (1988) وكيبنس Kipnis (2001)
الذين يهتمون بالمجال البحثي الكيفي النوعي نفسه والموضوعات نفسها التي
تدرس في بريطانيا مثل: الطبقة الاجتماعية والأسرة والجنس. وهناك بعض
الباحثين الذين يتماثلون مع زملائهم في الولايات المتحدة مثل أوبسرن
Osborne (1996) الذي تناول الاختلافات الثقافية وتأثيرها في العملية
التربوية لدى الأقليات العرقية والأثنية.
الأنتروبولوجيا التربوية في فرنسا:
لم يكن للأنتروبولوجيا الفرنسية ولاسيما الاجتماعية منها حتى اليوم
اهتمام كبير بالمسألة التربوية في في فرنسا. ويشار في هذا الصدد إلى
الدراسات الإثنوغرافية التي أجراها بيير بورديو في Pierer Bourdieu هذا
الحقل، ويضاف إلى ذلك أن بعض الباحثين الإثنولوجيين الفرنسيين قاموا
بدور كبير في هذا الميدان ولاسيما هؤلاء الذين درسوا عمليات التنشئة
الاجتماعية والتطبيع الثقافي في المؤسسات التربوية غير المدرسة. وفي
هذا المستوى يمكن القول بأن الإثنوغرافيا الفرنسية قد تطورت على أيدي
علماء الاجتماع المدرسة بوجه خاص. وهذا الأمر ينسحب على الإثنوغرافيا
التربوية في بريطانيا. وفي كل الأحوال فإن عددا من علماء الاجتماع
الفرنسيين اهتموا بقضايا المهاجرين بدرجة أكبر من زملائهم البريطانيين،
ويشار في هذا الصدد إلى الأنتروبولوجي الفرنسي المعروف زانتين (Henriot
van Zanten 1990) الذي كان أحد زملاء سبندلر أثناء دراسته في الولايات
المتحدة الأمريكية، وقد ركز في أبحاثه على المايكروسوسيولوجي في دراسة
المؤسسات التربوية. وقد أجرى زانتين van Zanten دراسة حقلية في ثلاثة
مدارس في الريف الفرنسي حول الأوضاع التربوية في فرنسا. وقدش شهجت
الساحة الفرنسية عددا محدودا من الدراسات التربوية الإثنوغرافية بصورة
عامة.
الأنتربولوجيا التربوية في كندا:
تأثرت الأنتربولوجية الفرنسية في كندا بالأدبيات الأنتربولوجية في
أوروبا وفي أمريكا على حدّ سواء. وبينما اهتم كل من سانتير وميرسييه
ترمبلي (Santerre & Mercier- Tremblay (1982 بالأنتروبولوجيا التربوية
الكلاسيكية اهتم الأنتربولوجيون الكوبيكيون (المقاطعة الفرنسية) بدراسة
الأوضاع التربوية في بلادهم أسوة بزملائهم في فرنسا متأثرين بمدرسة
شيكاغو بدرجة أكبر من الأنتربولوجيا الثقافية. وقد شهدت الساحة الكندية
نشاطا بحثيا مكثفا حول مناهج البحث التي ارتدت حلتها الواضحة وخرجت من
عباءة الغموض الذي يكتنف البحث الأنتروبولوجي في أوروبا وأمريكا. وفي
هذا السياق يمكن الإشارة إلى الدراسة الهامة التي أجراها تارديف وليزار
(Tardif&Lessard.1991)حول الحياة اليومية للمدرسين وأفكارهم في عام
1991. وفي هذا المقام يمكن القول بأن هناك تباعد بين الأنتروبولوجيين
الكوبيكيين وزملائهم الفرنسيين حيث أبدوا اهتماما أكبر بالجماعات
المغلقة والأقليات وكذلك الحال فيما يتعلق بالهوية الثقافية للجماعات
المدروسة.
الأنتربولوجيا التربوية في آسيا
لا نستطيع أن نتحدث عن أنتربولوجية تربوية حقيقية في بلدان آسيا،
فهناك عدد قليل جدا من الأنتروبولوجيين التربويين العاملين في هذا
الحقل على امتداد هذه البلدان وتنوعها. ومع ذلك فإن هذا الحقل يشهد
اهتماما متزايدا من قبل الباحثين التربويين في اليابان الذين قاموا
بتوظيف المناهج الإثنوغرافية في أبحاثهم التربوية، ولم يظهر لدى
الباحثين اليابانيين اهتمام كبير بالأنتروبولوجيا، وذلك لأن تأهيلهم
الأكاديمي يتم غالبا في مجال علم الاجتماع وعلم النفس على حدّ سواء.
وتكمن المفارقة في أن اليابان تشتمل اليوم على اثنتي وعشرين هيئة علمية
أنتروبولوجية تربوية، وهذا يعني أن الأنتروبولوجية التربوية قد أخذت
مداها الكبير في مجال الهيئات العلمية في اليابان التي احتلت المرتبة
الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية في هذا المجال. وفي الصين يوجد
عدد من الأنتروبولوجيون الذي يهتمون بالمسألة التربوية كما توجد هناك
بعض الدراسات المحدودة في ماليزيا وفيتنام والفلبين والهند والباكستان،
ويشار في هذا السياق إلى عالم الاجتماع الهندي كومار الذ نشر أبحاثا
كثيرة في هذا الحقل العلمي.
الأنتربولوجيا التربوية في روسيا:
شهدت أفكار فيكوتسكي Vygotsky (متوفي في عام 1934) حضورها المظفر
وولادتها في الستينات من القرن الماضي في مجال الفكر التربوي. وقد أدى
انفتاح روسيا الجديد إلى حركة تجديد واسعة في مجال التربوي والتعليم
حيث اتجه المفكرون إلى الغطاء الفكري لنظرية فيكوتسكي.
وقد عرفت نظرية فيكوتسكي في الولايات المتحدة الأمريكية ” بعلم
النفس الثقافي ” وتنطوي نظرية فيكوتسكي التربوية الاجتماعية على ثلاثة
مستويات أساسية: يطلق على المستوى الأول التفاعل المجهري الجيني أو
جينات التفاعلية الاجتماعية Microgenèse، ثم تطور الفرد، والإطار
الاجتماعي والثقافي التاريخي للنشاط الإنساني. ومن الواضح أن هذه
النظرية لا تسمى نظرية أنتروبولوجية في التربية، ولكنها مع ذلك تقع في
دائرة هذا الاختصاص وترتبط معه بروابط جوهرية، ولا سيما الحقل الذي
يسمى بالدراسة الميكرو إتنولوجية Micro-Ethnographiques للتجربة
الإنسانية في مجال المدرسة والتربية.
خلاصة الدراسة:
ينطوي المشهد الذي قدمناه عن الأنتربولوجيا التربوية على مضامين
فكرية غنية في مختلف التجليات التي تناولناها حول معطيات هذا العلم
الناشئ ونظرياته وتعيناته في دوائر المكان والزمان. وفي هذا المقام
يمكننا ومن جديد القول بأن مفهوم الأنتربولوجيا التربوية ينطوي على
ثلاثة مستويات من الدلالات المتقاطعة، فهناك الأنتربولوجية الفلسفية
التي تبحث في القضايا النظرية للتربية بوصفها تجليات كونية للنوع
الإنساني برمته. وهناك الأنتروبولوجيا التي تأخذ طابعا إثنوغرافيا
وصفيا قوامه التقصي الوصفي للظروف التربوية الثقافية والاجتماعية التي
تحيط بالجمعات والأفراد في سياق تعلمهم وتشكلهم الإنساني، وبالتالي فإن
هذه الأنتربولوجيا لا تألو جهدا في الاستفادة من المعطيات الفكرية
والمنهجية للعلوم الاجتماعية المقاربة لها ولاسيما علم الاجتماع وعلم
اجتماع اللغة وتاريخ النظريات الاجتماعية. ويمكننا في المستوى الثالث
أن نتحدث عن انتربولوجيا المدرسة التي ترتبط بروابط حيوية مع علم
الاجتماع التربوي، كما يمكننا في هذا المقام أن نتحدث عن إثنوغرافيا
مدرسية مستقلة عن أبعادها الأنتروبولوجية الصرفة.
لقد تبيّن لنا عبر مداولاتنا في متن هذه الدراسة أن الأنتروبولوجيا
التربوية لم تنتشر على نحو متواز بين البلدان والدول، إذ يسود الطابع
الفلسفي لهذه الأنتروبولوجيا في ألمانيا منذ عهد كانط، وتهيمن
أنتربولوجيا التعلم والتعليم في روسيا بتأثير فيكوتسكي، وتنتشر
الأنتروبولوجيا المدرسية في أمريكا الشمالية وفي بريطانيا، في الوقت
الذي تحتل فيه الإثنولوجيا التربوية مركز الصدارة في فرنسا وبعض أصقاع
أوروبا.
لقد تبيّن لنا أيضا أن التعاون المشترك بين المؤسسات العلمية
للأنتربولوجيا التربوية والتفاعل بين النشاطات العلمية والبحثية قد
أثمر في بناء تصورات عالمية مشتركة حول خصائص هذا العلم واتجاهاته
الأساسية النظرية والمنهجية، وقد أسس هذا لبناء نسق من التصورات العامة
التي يتسم بها هذا العلم في دورة الاستقلال التي تنهض به إلى مداره
الخاص.
ومن جديد نريد أن نؤكد في هذه الخاتمة أن الأنتروبولوجية التربوية
ما تزال غائبة في حياتنا الأكاديمية في العالم العربي، وهذا الفرع
المعرفي الجديد يحتاج إلى جهود من الباحثين والمفكرين العرب لتقديم هذا
العلم والتعريف به تمهيدا للمشاركة في تأصيله علميا عبر الدراسات
والبحوث الأنتربولوجية الممكنة في دائرة حياتنا المدرسية المثقلة بهموم
العصر ومشكلاته.
في هذه الدراسة حاولنا أن نقدم إجابات عن الأسئلة التي طرحناها حول
ماهية الأنتروبولوجيا وتعريقاتها ومراحل نشوئها وتكونها وانتشارها في
أصقاع العالم. ومما لا شك فيه أن هذا الموضوع يحتاج إلى دراسات وأبحاث
كثيرة، وحسبنا أننا قدمنا صورة مصغرة ومختصرة لهذا الفرع العلمي،
ونأمل لهذا الجهد المتواضع أن يقرع الأجراس منبها إلى أهمية تعريب
هذا العلم على أمل المشاركة في معطياته وأبحاثه ونهضته في المستقبل
القريب.
* جامعة الكويت
....................................................
مراجع الدراسة:
Anderson-Levitt Kathryn(2006). Anthropologie de
l’éducation: pour un tour du monde Les divers courants en
anthropologie de l’éducation , n° 17/2006/1 Éducation et Sociétés.
Atkinson Macmillan P., & Delamont S. & Hammersley
M. (1988) Qualitative Research Traditions: A British Response to
Jacob”, Review of Educational Research-58-2, 231-250
Crawitz Madeleine(1983). Lexique des sciences
socials , Doloz, Paris.
Cuisinier J. & Segalen M. (1987). Ethnologie de la
France, , PUF. Paris.
Cummins J. 1997 “Minority status and schooling in
Canada”, Anthropology and Education
enseignant, Sociologie et Sociétés-23-1, 55-69
Goodman R. (2001) Education: Anthropological
Aspects, International Encyclopedia of the Social
Behavioral Sciences, Elsevier Science Ltd, 4192-4196
HENRIOT-van ZANTEN A. (1990) L’École et l’espace
local: Les enjeux des Zones d’Éduca-tion Prioritaires, Lyon, Presses
Universitaires de Lyon.
Herskovits Melville J. (1950), Les bases de
l’anthropologie culturelle, Paris: François Maspero Éditeur, 1967,
331 pages. Collection: Petite collection Maspero, no 106.
Hewett Edgar Lee,(1905) “Preservation of
Antiquities,” Americall Anthropologist, VII (April-June 1905),
164-66.
Malinowski. B(1922).Les Argonautes du Pacifique
occidental (Argonauts of the Western Pacific. An Account of Native
Enterprise and Adventure in the Archipelagoes of Melanesian New
Guinea, 1922), trad. A. S. Devyver, Gallimard, Paris, 1963, rééd.
1989
Martinez-Verdier Marie-Louise,(2004). Approches(s)
anthropologique(s) en éducation et en formation, enjeux et défis »,
Tréma [En ligne], 23 | 2004, mis en ligne le 04 mars 2010. URL:
http://trema.revues.org/530
Mead M(1928). Coming of age in Samoa, New York,
William Morrow & Co OKANO K. 1997
Mead Margaret (1928) , Mœurs et sexualité en
Océanie, trad. G. Chevassus, Plon, Paris, 1963 (Coming of Age in
Samoa), 1928
Ogbu, J. (1981). School ethnography: a multilevel
approach’ Anthropology & Education
Ogbu, J. (1982). Cultural discontinuities and
schooling’, Anthropology & Education
Ogbu, J. (1985). Anthropology of Education’,
International Encyclopedia of Education,
Ogbu, J. (1992). ‘Les frontières culturelles et
les enfants des minorités’ Revue Française de
Pédagogie, 101: 9-26
Radcliffe-Brown A. R. (1952) Structure and
Function in Primitive Society. London: Cohen and West.
Spindler G.D. & Spindler G.D. (1955). Education
and anthropology, Stanford, CA, Stanford University Press
Spindler, G.D. (1955). Education and Anthropology,
Stanford University Press
T.K. Penniman, (1965). A Hundred Years of
Anthropology London: Gerald Duckworth and Co. Ltd
Tardif M., Lessard C. & Lahaye L. 1991 Les
enseignants des ordres d’enseignement
Wax, M.L. Diamond & Wax, M.H. (1971) Great
tradition, little tradition, and formal education’ in Wax, M.L.,
Diamond S. Gearing, F.O. eds. Anthropological perspectives on
education, New- York, Basic Books.
حسين فهيم، قصة الأنتروبولوجيا: فصول في تاريخ علم
الإنسان، عالم المعرفة، العدد 98، فبراير شباط، 1986. |