شبكة النبأ: ركيزتان مهمتان تستند
إليهما صناعة المجتمع المزدهر، هما العلم والعمل، فالعلم هو عصارة
العقل، وهو منطلق الابتكار والتجديد في الفكر والتفكير، ثم تأتي الخطوة
المرادفة للعلم، ألا وهي العمل، هذه الركيزة البالغة الأهمية، كونها
تحيل الفكر الى عنصر عملي ملموس ومرئي في وقت واحد، وهكذا يندمج
الاثنان العلم والعمل في حالة تشاركية مستمرة، تجعل منهما ركيزتين
أساسيتين لصناعة المجتمع، وهما بمثابة اليدين اللتين تدعمان بعضهما
البعض، او العينين اللتين تنظران الى الاشياء بوضوح وقوة كافة استنادا
الى مبدأ التعاضد، فلا فائدة من علم دونما عمل، ولا فائدة من عمل دونما
علم.
يقول الامام علي بن ابي طالب عليه السلام، في كتاب درر الكلم وغرر
الحكم: (العلم يدل على العقل، فمن عقل علم). وبهذا يحصل العلم على
ميزة أخرى وهي دلالته على العقل، فمن يملك العلم يملك العقل الراجح،
والعكس يصح بطبيعة الحال، وهنا تحديدا تكمن أهمية العلم القصوى، حيث
يتحول الانسان الذي لا علم له كما سائر الكائنات الحية التي لا عقل لها.
ولهذا تحترم الشعوب الذكية علماءها، لأنهم السبب الاساس في تطورهم
وتقدمهم وازدهارهم، لذلك يضرب لنا الامام الراحل، آية الله العظمى،
السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) مثالا عن اهمية العلماء، اذ
يقول سماحته في كتابه القيّم الموسوم بـ (طريق التقدم):
(الشعب السويسري، لا يملك معادن الثروة تحت الأرض، ولكنه يملك علماء
فوق أرضهم، يتقنون علم صنع الساعات اليدوية الممتازة وغيرها، فتقدمت
بلادهم وتقدم مجتمعهم بعلمائهم، بينما تأخرت البلاد التي تملك معادن
الثروة تحت الأرض ولا يتبع أهلها علماءهم. وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة
الدالة على أن العلم والعلماء، والوعي والثقافة، هو المقوم الأول في
طريق التقدم والرقي، وهكذا تقدم الغرب بعلمائه في مختلف المجالات على
بلاد المسلمين).
العمل رديف العلم
هكذا يتقدم العلم على الاسباب الاخرى، لأنه يؤدي الى ترصين العقل،
وبالتالي يصبح العقل مبتكرا قادرا على التجديد والابداع والانتاج
الافضل، ثم يأتي دور الرديف الثاني حيث يقوم العمل بتحويل العلم الى
حقيقة مثالة تخدم الانسان عمليا.
لذا يقول الامام الشيرازي في هذا المجال بكتابه المذكور نفسه: (إن
العمل هو الركن الأساسي ــ بعد العلم ــ في تقدم الفرد والمجتمع. بل
يمكن أن يقال: إن العلم والعمل توأمان لا ينفصلان، ورضيعا لبان لا ينفك
بعضهما عن البعض في تحقيق التقدم وتقومه، فإن كل فرد وكذلك كل مجتمع
يريد الرقي والتقدم، لا بدّ له من توفير هذين العاملين معاً. وربما
يقال: إن العلم بنفسه لا يتحقق ـ عادةً ـ إلاّ بالعمل لتحصيله، ولا
يتحصّل العلم إلاّ بالجد والاجتهاد، لأن أكثر المعلومات اكتسابية).
من البديهي أن العلم لا يطرق باب الانسان، بل على الانسان أن يطرق
باب العلم، ويثابر ويجتهد من اجل تحصيل العلم بكل الوسائل المتاحة،
بمعنى لابد أن يسعى الانسان بقوة واصرار نحو العلم حتى يحقق مبتغاه،
لذلك يتساءل الامام الشيرازي قائلا: (هل يعقل أن يصبح الإنسان طبيباً
بدون دراسته للطب؟! أو يطمح أن يكون عالماً مجتهداً بلا دراسة لمقدمات
الاجتهاد؟! أو يرجو أن يصبح بلده وفير الخير، قوي الاقتصاد، وتملؤه
المعامل والمصانع، دون أن يقدم لذلك تخطيطاً وعملاً؟!).
وهكذا لا يمكن أن يتحقق تقدم المجتمع من دون السعي الى العلم، بل لا
يمكن صناعة مجتمع ناجح بعيدا عن العلم، ولا تزدهر الصناعة والزراعة
والاقتصاد والبناء والتخطيط دون الكفاءات القادرة على تحقيق هذه
الجوانب من خلال علمها، ومن ثم العمل بقوة بعيدا عن الاتكال أو الركون
الى التمني في تحقيق الاهداف، يقول الامام الشيرازي حول هذا الامر: (إن
الله تبارك وتعالى يقول: * لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ* إيها المسلمون،
فإن تحقق الأمور ليست بالأماني والآمال، بل بالفكر والنظر، والعلم
والعمل، والتخطيط والتطبيق).
الاساطير والاحلام المؤجلة
هكذا يكون للتخطيط دوره المهم جدا في تحقيق الهدف، وبعد التخطيط
والفكر وهما نتاج العلم، تأتي خطوة التنفيذ والعملي، وهي الخطوة
المرادفة للتخطيط، اي هي التي تحوّل مفردات العلم الى حالة مادية
يحتاجها المجتمع لكي يتقدم ويزدهر، بعيدا عن الامنيات التي لا تقدم
شيئا للانسان في واقع الحال.
يقول الامام الشيرازي في هذا الجانب بالكتاب المذكور نفسه: (إن
الاعتماد على التمني والاتكال على الأمنيات، ناتج من قلة الوعي، أو
فقدانه؛ لأن الإنسان الذي يعقل ويعي الأمور يعرف أن لكل شيء سبباً).
هناك نوع من البشر يوغلون كثيرا في عالم الاساطير، ويغرقون في
الاحلام المؤجلة، ويظنون أنهم قادرون على تحقيق اهدافهم عن طريق التوغل
في الاسطورة، أو من خلال الاعتمال على الاحلام، ولكن واقع الحال يؤكد
أن الانسان الواعي والعاقل والعالم، يبتعد عن الغياب في الاساطير ولا
يجعل الاحلام بديلا للعمل والانتاج بعد اتقان العلم.
يقول الامام الشيرازي في هذا الجانب: (الإنسان غير المتعقل وغير
الواعي، فإنه يريد أن يحقق آماله بالأمنيات المجردة وعبر الأساطير
الفارغة التي يزعمها، أملاً منه على أنها يمكن أن تساوي يوماً مّا
التحقق الواقعي الخارجي، ولكنه هيهات وهيهات). ويضيف الامام الشيرازي
قائلا: (إن ابتعاد المسلمين عن العمل وإلقاء المسؤولية على الآخرين نوع
من العيش في عالم الأساطير والأحلام).
وهذا يدل على جهل خطير، ينافي سعي المجتمع الى البناء الافضل، وقد
ورد قول للامام علي بن ابي طالب عليه السلام في كتاب الدرر السابق
ذكره: (لا فقر أشد من الجهل).
فيما يؤكد الامام الشيرازي بما لا يقبل الشك: (إن الجهل وعدم الوعي،
وفقد العلم والعلماء، وقلة ثقافة الحياة، من أهم أسباب تأخر الفرد
والمجتمع، ويؤدي إلى تقهقر الأمم وسقوطها، بل إلى موتها وفنائها). |