شبكة النبأ: يشكل التعايش أحد
المرتكزات الاساسية للدولة المدنية، وهو عنصر اساس من عناصر ديمومة
السلام والامن، وهكذا نلاحظ الاهمية القصوى التي ينطوي عليها مفهوم
التعايش، وقدرته في مساندة المؤسسات التي تهدف الى بناء الدولة المدنية
والمجتمع المتمدن، القادر على العيش في ظل سلام دائم.
من هنا جاء تركيز الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد
الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، على أولوية التعايش بين المكونات
المختلفة للتجمعات البشرية، كونها الرافد الأهم لدعم السلام والاستقرار،
ومن ثم الابداع في مجالات الحياة كافة، لذلك يقول الامام الشيرازي في
كتابه القيّم الموسوم بـ (الفقه: السلم والسلام): (إن -السلم والسلام-
بمعناهما الأعم والشمولي يقتضيان الأمن والعافية، والاستقرار والازدهار،
وكل ما يوجب تقدم الحياة وتطورها، ووضعها في أبعادها الصحيحة، صحية
واجتماعية، واقتصادية وسياسية، وعسكرية وإعلامية، وغيرها. والسلم كلمة
تدخل في نفس الإنسان الاطمئنان والراحة والهدوء، وتوحي إليه بذلك. ومن
الواضح أن الكل يبحث عن السلم والسلام في حياته، ويطلبه بفطرته، بل هذا
ما نشاهده عند الحيوانات أيضاً، فكلها تطلب السلام).
التعايش ومبدأ اللاعنف
لقد وضع الامام الشيرازي نظرية خاصة باللاعنف، وطرح أفكاره بوضوح
تام وحرية، وركّز سماحته على أهمية المسالمة واللاعنف ودور التعايش في
التقريب بين ابناء المجتمع الواحد بغض النظر عن طبيعة الانتماء، تطبيقا
لمبدأ أن الانسان نظر لك في الخَلق، وتحقيقا لبناء المرتكزات التي تبني
الدولة المدنية وتسند مؤسساتها الدستورية.
لهذا يُعرّف الإمام الشيرازي مبدأ المسالمة أو اللاعنف في تطبيقه
العملي: (أن يعالج الإنسان الأشياء سواء كان بناءً أو هدماً، بكل لين
ورفق، حتى لا يتأذى أحد من العلاج، فهو بمثابة البلسم الذي يوضع على
الجسم المتألم حتى يطيب). ثم يضيف سماحته: (لذا فالواجب على التيار
الإسلامي والدولة الإسلامية، اختيار مبدأ المسالمة واللاعنف في الوصول
إلى الغاية وهي إقامة الدولة الإسلامية بالنسبة إلى التيار، وإبقاؤها
بالنسبة إلى الدولة القائمة حتى تتسع في بُعدَي الكم والكيف).
ويؤكد الامام الشيرازي على المزايا القيادية للانسان، وقدرته على
ترسيخ أسس الدولة المدنية، من خلال تحصينه لنفسه وتطويرها، وجعلها
النموذج الامثل للاخر، لاسيما في انتهاج مبدأ اللاعنف وتفضيل التعايش
والسعي الجاد لبناء الاسس والمرتكزات السليمة للدولة المدنية.
لذلك يرى الإمام الشيرازي (ان السلم يحتاج إلى نفس قوية جداً، تتلقى
الصدمة بكل رحابة ولا تردها، حتى وإن سمحت الفرصة بالرد).
ولعل هذه الصفات هي التي كان يتحلى بها كبار القادة المسلمين الذين
تصدوا لبناء الدولة الاسلامية التي بلغت من القوة بحيث تفوقت على عموم
الدول المعاصرة لها آنذاك من حيث الاستقرار والتحرر وقوة الاقتصاد
والعلم وسوى ذلك من ركائز بناء متميزة.
لهذا سعى الامام الشيرازي في نظريته التي تتعلق بالسلم والسلام
والتعايش انطلاقا من مبدأ اللاعنف، سعى الى ترسيخ هذه الاسس وتطويرها
كونها تدفع باتجاه بناء الدولة التي تنتعش فيها الحريات وينهض فيها
الابداع، ويسودها العدل والانصاف، لذلك نلاحظ ترابطاً جدلياً في نظرية
الإمام الشيرازي بين السلام العالمي والعدالة الاجتماعية، وهي أطروحة
تؤكد عليها جميع الدراسات المعاصرة بقوة، ففي هذا المجال يقول (ليستر
بيرسون) الحائز على جائزة نوبل للسلام: (إن رخاء الشعوب هو دعامة من
دعائم السلام، وقد تطور هذا الموضوع في أذهاننا)، وهذه مقاربة فكرية
رائعة مع طروحات ونظرية الإمام الشيرازي في السلم والسلام، وأيضاً
هنالك ترابط روحي خلاّق في فكر الإمام الشيرازي بين السلام والأخلاق،
يدعمه العالم (سيبنوز) في قوله: (إن السلام ليس شيئاً آخر غير العزم
الذي ينبثق من فضائل الروح).
معضلة التعايش في عالم اليوم
من الواضح أن زيادة سكان الارض تؤدي الى تصادم اردات ومصالح كثيرة،
وهذا سبب أساسي يعرض مبدأ التعايش الى الخطر والزوال ليحل محله العنف،
فضلا عن بقاء الدول المتخلفة منشغلة عن البناء بالحروب والصراعات
الاهلية او الخارجية، لذلك يبدو عالم اليوم (عالم حرب) ويبدو التعايش
في مشكلة، في الوقت الذي يحتاج العالم الى التعايش، ويحتاج المجتمع
الواحد الى نبذ العنف، كي يتفرغ لبناء الدولة المدنية، لكن ما يحدث في
عالم اليوم يدل على ضعف هذا المبدأ.
يقول الامام الشيرازي في هذا المجال: (السلم والسلام كلمة ترددها
الألسن في المحافل الصغيرة والكبيرة، الدولية والمحلية، خصوصا في هذا
العصر الذي تقدم في علومه وحضارته، كما تقدم في أسباب التناحر، فإن
الحياة حيث صارت ضيقة إلى أبعد الحدود، والكل يريد كل الخير لنفسه
ويريد إبعاد كل الشر عنها، تصادمت المصالح في إرادة الاستحواذ على
مقتضيات الزمان، وفي هذا الإطار تنشأ الحروب والثورات والإضرابات
والمظاهرات وأسباب العنف وما أشبه ذلك كما هو مذكور في علم الاجتماع.
ومن هنا تتضح الحاجة إلى تطبيق قانون السلم والسلام ومعرفة مقوماته في
مختلف مجالات الحياة).
كما ان الحاجة للسلام تؤكدها دلائل عديدة كما يقول الامام الشيرازي:
فـ (كلما اشتد البحث عن السلم والسلام في الوسائل الإعلامية وغيرها،
وعلت الأصوات في ترويج كلمة السلام وتكرارها، ربما دل ذلك على مدى
مشكلة البشرية ومعاناتها وصعوبة الوصول إلى السلام وتعقد مسالك سبلـه
وضياع معالمه، وإلا لم يكن البحث عنه شديداً، فإن الإنسان إذا فقد
شيئاً طلبه حثيثاً لكي يصل إليه).
وهكذا تدل المؤشرات على حاجة حقيقية للسلام والتعايش، في ظل تكالب
الدول الكبرى على حماية مصالحها من منظور قائم على الجشع وغياب
الضوابط، واعتماد منهج القوي يصرع الضعيف، والكبير يأكل الصغير، وهي
أساليب منافية للتعايش ومبدأ المسالمة الذي ركّز عليه الامام الشيرازي
ومعظم الفلاسفة والمصلحين، فضلا عن كون التعايش اسلوب حياة منضبطة تقوم
على التقارب والقبول والانسجام بغض النظر عن طبيعة الفكر او الانتماء،
كونها تسهم في بناء دولة تحمي حقوق وآراء وحريات الجميع. |