السجون والمقابر والذاكرة

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: ما الذي يجعل الغرب يختلف عنا، او نحن مختلفون عنه؟ لا اقصد الغرب كحيز جغرافي اصطلح عليه الكتاب والباحثون، كموازي للشرق، او الشمال والجنوب، ولا اقصد به الغرب كمفهوم سياسي او اقتصادي، بل اقصد به في هذه السطور، الغرب كثقافة (في المعطى الانثروبولوجي والتي تعني طريقة حياة)  وكسلوك يومي، لناسه ولحراكه الاجتماعي، والتي دأبنا كعرب ومسلمين على الانتقاص منها، طالما كانت نظرتنا تنصب على السلبيات في حراكه الاجتماعي، واكثر مايكون ذلك في بعض المفاسد الاخلاقية، وبالاخص مايتعلق منها بالمراة وحرياتها اللامتناهية.

هي صورة نمطية نكرسها عن هذا الغرب، لكننا مع ذلك نستعيرها ونتماهى معها، وخاصة المبتذل منها، في الكثير من سلوكياتنا دون ضوابط او دون مراعاة للاختلافات الثقافية التي قادت الى تلك السلوكيات في مجتمعات الغرب، والتي تنهل من معين لاينضب من الفلسفات الوضعية طيلة قرون متواصلة.

هي صورة نمطية نجدها بصورة فاقعة في هذا الاستساخ الغريب لكل الصور التي نرفضها، لكننا لانمانع من الترويج لها وجعلها نماذج حياتية ندفع الناس للاقتداء بها وتقليدها، وخاصة مايتعلق منها بشقه الفضائي، وهو البرامج التنلفزيونية الكثيرة التي هي تعريب لبرامج تلفزيونية غربية، وخصوصا الامريكية منها.. تلك الصورة لا نريد ان نبارحها، فالغرب له صورة واحدة قارة في اذهاننا ولا يمكن الخلاص منها او تجاوزها.

لماذا لانستعير الايجابي من تلك الصور وما اكثرها في هذا الغرب المتسع والمترامي الاطراف؟

لاننا قاصرون عن تمثل الجيد والنافع، بارعون في تمثل السيء والرديء والمضر.

نشرت بعض مواقع الانترنت، خبرا عن مقبرة انشئت في بريطانيا لنكهات الايس كريم.. خصصت لدفن وصفات الآيس كريم التي لم تحظ بقبول الزبائن أو تلك التي خفّت شعبيتها بين الناس. وقام بانشاء المقبرة مصنع (بن آند جيري) وهو واحد من العلامات التجارية الأكثر شهرة في صناعة الآيس كريم في مدينة فيرمونت البريطانية ،والمقبرة انشئت خلف المصنع تماما.

حفر على شواهد القبور سنة الصنع والوفاة بالإضافة الى وصف للنكهة وصورة لها. والغريب أن الزائرين للمقبرة بإمكانهم أن يهبوا الحياة لأحد تلك النكهات واسترجاعها عن طريق طلب ذلك من المسؤولين في المصنع. أما الطريف في الأمر أن الكثير من الزوار يقدمون للمقبرة لزيارة تلك الوصفات التي رافقتهم في الصغر وتوقف انتاجها حين كبروا ، ويبكون أمامها.

فعلا الخبر فيه طرافة بالنسبة لمن يقرأه للوهلة الاولى، لكنه بعد التدقيق فيه، يجد سخرية مرة ومؤلمة، لما نعيشه نحن، وطرق تفكيرنا في معنى الخلود والتخليد، رغم الكثير من التفاصيل في حياتنا التي تحتاج الى تفكير مبدع وخلاق لمنحها الخلود.

من ذلك مقابرنا الجماعية التي تختزن الاف التفاصيل الموجعة للضحايا، ومن ذلك السجون الكثيرة التي شكلت علامة فارقة في وعينا طيلة عقود طويلة، لم تمحها سنوات الخلاص منها..

فقط اقليم كردستان، قبض على تلك اللحضات قبل ان تهرب واقام نصبا لضحايا الانفال في حلبجة، وهو نصب يزار باستمرار، فالجريمة يجب ان تبقى شاخصة.

في بقية مدننا لانجد مثل ذلك الجهد، رغم اتساع مساحة السجون والمقابر، نكرة السلمان واحد من السجون الكثيرة، التي انغرست في ذاكرة الجمع العراقي، لعقود طويلة.. ويقع في قضاء السلمان التابع لمحافظة السماوة... في العام 1991 قام الاهالي بتهديم جدران السجن وسرقة جميع الابواب والشبابيك، كما تم سرقة حتى الكاشي من السلم.. وبعد العام 2003 اعيد نهبه من جديد.

وكأن من قام بذلك قد نهب ذاكرة شعب باكمله، وغير ذلك لا احد يهتم بالاستفادة من الموجود على جدرانه من كتابات وذكريات السجناء الذين مروا في زنزاناته العديدة، لغرض تخليد تلك الوقائع والاسماء. وقطعا هو ليس السجن الوحيد في العراق الذي يعاني من نفس المصير.. كم هو شاسع وبعيد ذلك الفرق بيننا وبين الغرب سلوكا وثقافة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 5/آذار/2013 - 23/ربيع الثاني/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م