العراق ومشروع اعادة تدوير البعثيين

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: لا نعتذر لكم عن سنوات القهر والقتل والجوع والتشريد والمنافي.. لا نعتذر لكم ايها القتلى، ايتها الارامل، ايها اليتامى، ايها المعوقون، ايها المقعدون.. لا نعتذر لكم، ايها النازفون حنين القلب على ابنائكم، ايها الراحلون صوب المقابر الجماعية، ايها المتدثرون بغيوم الغاز الذي يشلّ الحياة.. لا نعتذر لكم، ايها الاطفال، كبرتم الان، بعيدا عن احضان ابائكم الجنود في جبهات القتال والحراب المسننة ، او الذين لم يعثر على اثر لهم وبقوا يحملون تسمية (المفقودون) ، والقريبون من اهات اخوانكم في سجون وانفاق التعذيب.

لا نعتذر لكم، عن عقود المحنة، وعن سنوات الظلمة، وعن ما تهدم من بيوت لكم، ومزارات واضرحة، واكواخ على حافات الجبال.. لا نعتذر، فالقاتل لا يسامح ضعف القتيل، والمنتصر لا يأبه بصرخات الضعفاء المنهزمين تحت لعلة السلاح.. لا ولن نعتذر لكم.

القاتل مزهو بجرائمه، وهو عادة ما يجد من يدافع عنه وعن تلك الجرائم... منذ العام 2003 كانت قضية اجتثاث البعث، والتي عرفت لاحقا بالمساءلة والعدالة، لها مفاعيلها وصداها في الحراك السياسي اليومي.

وهي قضية ربما كانت الابرز في سلم الاهتمامات في الكثير من النقاشات الدائرة، اضافة الى قضايا الفساد والارهاب وتردي الخدمات... لا ينتهي الحديث عنها الا ويبدأ من جديد، فهي مستمرة بسبب ما تمتلكه من ديمومة الاستمرار، سواء من خلال المعنيين بها مباشرة، او من خلال من يمثلهم في المواقع السياسية للعراق الجديد.. ولا يقتصر الحديث على اللغة بما تمثله من كلمات او اصوات رغم حربيتها وعسكريتها في معظم الاحيان، بل تتعدى ذلك الى جميع ما يذكر بطرائق الموت وصوره المتعددة.

لم يستطع قانون الاجتثاث بصيغته القديمة او حتى صيغته المعدلة، من القضاء على الحضور البعثي في الحياة العراقية.. نعم هو استطاع ابعاد عدد من البعثيين عن مواقع السلطة، لكن الثقافة البعثية، واللغة البعثية، والرموز البعثية، لازالت فاعلة في الوسط الحياتي العراقي، في الكثير من تجلياته العملية.

وربما يمكننا تلمس واحدة من تلك التجليات من خلال وجود المخبر السري، وهو تسمية معدلة ومحورة عن كاتب التقارير في عهد النظام السابق.

لم يكن كاتب التقارير في ذلك الزمن، غير الزوجة او الابن او الاب او الاخ او الجار او الصديق.. فالجميع يمكن ان يكون كاتبا للتقارير من الطراز الاول، بغض النظر عن موقعه في الحكومة او الجهاز الحزبي او الامني او حتى القطاع الخاص، فهو مخبر سري بتعبير اليوم، يكافئ على ما يكتبه، ويتجنب غضب الجهاز الامني عليه مستقبلا لسبب ما، وهو يكتب تقاريره بغض النظر عن صلته بالشخص المعني بالتقرير..

ربما الحادثة الاولى التي سمعت بها عن كاتب التقارير، هي حالة احد المترجمين للسيد النائب، والذي اصبح في ما بعد السيد الرئيس حفظه الله ورعاه، والذي تربطنا به علاقة صداقة من طرف اخته.

كاتب التقارير او كاتبته، كانت زوجته في حالة هذا المترجم، وكان تقريرها كافيا لتعليقه في حبل المشنقة.. لا اعلم كم قبضت لهذا التقرير، رغم عدم وجود عوز مادي يبرر لها ما فعلته.

الا ان الكثيرين مثلما يخبرني والدي دائما كانوا يقبضون مبالغ زهيدة لقاء تقاريرهم، وصلت الى خمسة وعشرون دينارا للتقرير في سنوات التسعينات.. وكنا نحن احد ضحايا تلك التقارير، من احد الجيران لنا.. كاتب التقارير اصبح مخبرا سريا، بغض النظر عن الاسباب الجديدة للإخبار اضافة الى الاسباب القديمة.

منذ العام 2003 لم نسمع من اي بعثي، في صحوة ضمير او غفلة منه يخرج على الملأ ويقدم اعتذاره لضحايا بعثه القائد، بل رأينا تماديا في الاعمال التي ينبغي الاعتذار عن سابقاتها.. انه يتواصل مع ثقافته، تلك الثقافة التي لا تعترف بالاخطاء والخطايا، بل تعترف بالتبريرات والمسوغات، ويطالب الاخرين، بافساح المجال له للعودة معززا ومكرما لوصل ما أنقطع من عمل لم يتمه في السابق.

لم اعرف بعثيا، بريئا كان او متهما، الا وهو ضد هذا الوضع الجديد، الذي امتلك فيه حريته، حرية الابتعاد عن النفاق او التملق او التذلل او الرعب من المس ولو من اقصى البعيد بمكانة القائد الرمز، انه لا يستطيع ان يفارق اخلاق تلك العبودية المذلة والمهينة بحقه كانسان ناجز الانسانية.. انه لا يستطيع ان يفارق ذلك الموقع الذي كان فيه امرا ناهيا، يمارس سلطاته على من ادنى واضعف منه، كيف الحال اذا، وهو الان في موقع متكافيء مع ضحيته اذا كان قد ابتعد عنه مسافة كافية في العمل، او هو ادنى منه بعد ان اصبح ذلك الضعيف اعلى منزلة منه في وظائف ومواقع العهد الجديد.

لم نسمع اعتذارا من احد، او اعادة تقييم لتجربة امتدت لعقود طويلة، وكأن هذا البعث الخالد، لا ياتيه الباطل من امامه او من خلفه، ولا من فوقه او تحته، فهو طاهر مطهر من كل رجس واثم.. فقط وحدهم الضحايا يجب ان يقدموا اعتذارهم له لما لحق بمكانته الاقتصادية والاجتماعية من حيف يراه اكثر وابلغ واشد واقسى من كل حيف اخر.

عديد من الساسة العراقيين يريدون تدوير البعث في الحياة العراقية، والتدوير عادة يستعمل في النفايات وهي المخلفات الناتجة عن النشاط الانساني المتعدد، وهي كل ما يرمى في سلة القمامة لعدم الحاجة اليها.

والتدوير الذي يريده بعض الساسة في العراق، بدفاعهم عن البعثيين، والمطالبة بالغاء قانون المساءلة والعدالة، يعني التقليل من النفايات الذاهبة الى سلة القمامة، واعادة الاستعمال مرة اخرى، او اعادة التدوير لصناعة منتوجات جديدة.

يذكر الكاتب العراقي سلام عبود في موضوع له حمل عنوان (اجتثاث البعث, دراسة تحليلية تاريخية حول قضية اجتثاث البعث وصلتها بالمشروع الوطني العراقي) نشر في موقع الحوار المتمدن في 2 / 9 / 2006 انه ( تم تصميم قانون حل البعث, وقانون إجتثاث البعث, وفق مقاسات حلفاء الاحتلال الأساسيين: علاوي والجلبي بدرجة اولى والطالباني والقيادات الكردية بدرجة ثانية).

وذكر ان اياد علاوي لم يكترث للمغزى اللغوي للكلمة لكنه أفاد من حدود القانون العملية, التي شملت درجات محددة من مراتب البعث. فقانون حل البعث منح علاوي, بجرة قلم, آلاف الخلايا والمنظمات الحزبية الجاهزة, تمكن بها من استكمال بناء تنظيمه وإعادة هيكلته.

وقد حذت حذو علاوي في الإفادة من خدمات البعثيين أحزاب وكتل وجماعات عديدة, عربية وكردية, سنية وشيعية, مسلمة وغير مسلمة, مستفيدة من خبرات ومهارات الأجهزة البعثية, العاملة في مجال الأمن والمخابرات خاصة.

أما القوى السياسية الصغيرة والهامشية فقد لعبت دور القمّام الثقافي والسياسي, فراحت تقوم بعملية اصطياد للفرائس الصغيرة والعاجزة والكسيرة سياسيا وثقافيا, راضية بما تخلفه الكواسر وراءها. وقد ظهر هذا الميل بدرجة كبيرة في صفوف الشيوعيين. فإذا كان زعيم الكتلة العراقية, البعثي السابق علاوي, قد جذب اليه المراتب العليا من البعثيين, فإنه ترك لحلفائه هامشا صغيرا, تمكنوا فيه من جذب أعداد ممن لعبوا دور الوشاة والمخبرين وأشباه البعثيين في زمن صدام. وهم الفئة الأكثر خطرا ثقافيا وإنسانيا, بحكم طبيعتهم الارتزاقية وتلوث ضمائرها واستعدادها الدائم لإداء دور الخادم, الذليل, المتباكي, ولكن الفاسد والغادر. وهذه الشريحة أكثر حضورا من غيرها في المجال الثقافي.

وشيئا فشيئا تمت إعادة من أقصي من أجهزة التربية والإعلام والخدمات والشرطة والجيش الى وظائفهم. ثم توسع حيز تواجد عناصر الحزب في الأجهزة الإعلامية المختلفة. وبذلك عاد جزء كبير من منتسبي الحزب الى كيان الدولة الجديدة والى الواجهات الإعلامية والعسكرية والأمنية, وانخرط جزء كبير منهم في إطار القوى السياسية الحاكمة أو الموالية أو المعارضة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 28/شباط/2013 - 18/ربيع الثاني/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م