من المرتقب أن يزور جون كيري تركيا قريباً ضمن جولته الخارجية
الأولى بعد تعيينه وزيراً للخارجية. وسوف تتناول الزيارة جملة من
القضايا فضلاً عن أنها ستمثل فرصة حيوية لتقريب وجهات النظر بين تركيا
والولايات المتحدة بشأن العراق. وتخشى واشنطن من أن تسبب علاقة تركيا
المتنامية مع "حكومة إقليم كردستان" في نشوب صراع مفتوح بين بغداد
وأربيل. ومع ذلك تتشابه الأهداف الأمريكية والتركية في العراق بشكل
لافت للنظر مما يوفر أرضاً خصبة للتعاون الاستراتيجي إذا تجاوز كلا
الجانبين خلافاتهما التكتيكية وركزا على الأهداف المشتركة بينهما.
الخلفية
على مدار ما يقرب من أربع سنوات بعد غزو العراق عام 2003، أبدت
واشنطن استياءها إزاء موقف أنقرة الرافض لفتح جبهة عسكرية ثانية عبر
الأراضي التركية. وقد تم رأب ذلك الصدع بحلول عام 2007 مما مهد الطريق
لعامين استطاعت الولايات المتحدة خلالهما تشجيع أنقرة على لعب دور مثمر
للغاية في توحيد الفصائل العراقية وبناء علاقة تركية جديدة مع "حكومة
إقليم كردستان". ولكن منذ عام 2008 فصاعداً، بدأ التعاطي التركي مع
العراق ينحرف عن خطة الولايات المتحدة مما أدى إلى تعميق المخاوف في
واشنطن. ومنذ ذلك الحين فضلت أنقرة تدريجياً التعامل مع "حكومة إقليم
كردستان" والفصائل العربية السنية إلى جانب التحريض على حدوث انهيار
كارثي في علاقاتها مع رئيس الوزراء نوري المالكي، والذي لا يزال قائماً
حتى اليوم.
غير أن المفارقة في الوضع الحالي هي أن أهداف واشنطن وأنقرة في
العراق متطابقة تقريباً. فكلا الحكومتين ترغب في تفادي وقوع أي صدام
عسكري بين بغداد و"حكومة إقليم كردستان" بأي ثمن، ويرى الفريقان أن
وحدة الأراضي العراقية تعتبر ركنا أساسياً لاستقرار المنطقة، لاسيما في
مثل هذا الوقت الذي يشهد العديد من الأزمات والتوترات المتعلقة بسوريا
وإيران. كما ترغب الحكومتان أيضاً في رؤية تدفق المزيد من النفط
العراقي إلى الشمال بعيداً عن الساحل الإيراني في الخليج الفارسي وتجاه
مرافئ التصدير الضخمة على السواحل التركية المطلة على البحر المتوسط.
وهما يعتقدان أن هذا التدفق ربما يساعد في الحفاظ على انخفاض أسعار
النفط فضلاً عن تسهيل نجاعة العقوبات المفروضة على إيران -- وهي وجهة
النظر التي دعمتها توقعات "وكالة الطاقة الدولية" بأن العراق قد يكون
قادراً على توفير 45 في المائة من إنتاج النفط العالمي الجديد هذا
العقد. وبالمثل، فإن الجهود المبذولة لنقل المزيد من الغاز الطبيعي
العراقي شمالاً قد تسهم في مشاريع خطوط أنابيب "الممر الجنوبي" التي من
شأنها أن تخفض من الاعتماد التركي والأوروبي على الغاز الروسي
والإيراني. وتتفق واشنطن وأنقرة حتى على المستوى الرسمي على الآلية
التي يفضلها الجانبان لتصدير النفط والغاز العراقي: وهي بالتحديد أن
تضطلع "المؤسسة العامة لتسويق النفط" في بغداد بمسؤولية المبيعات مع
استرداد التكاليف وتوجيه العائدات إلى "حكومة إقليم كردستان" عبر
الخزانة الاتحادية.
ولكن ما هي الأشياء التي لا تزال محل جدل وخلاف؟ وكيف يمكن للولايات
المتحدة وتركيا التوفيق بين سياساتهما لتحقيق أهدافهما المشتركة؟
نقاط الخلاف
في عامي 2009 و2010، أسفرت محاولة المالكي للفوز بفترة ولاية ثانية
عن حدوث تباعد بين السياسة الأمريكية والتركية. فقد عارضت أنقرة علنياً
إعادة تعيينه مما أدى إلى إفساد علاقتها معه من اليوم الأول من ولايته
الجديدة، في الوقت الذي تبنت فيه واشنطن منهجاً أكثر سلبية واستمرت في
التعاون معه في الوقت التي بدأت فيه القوات الأمريكية بالانسحاب من
العراق. ومنذ ذلك الحين أصبح موقف أنقرة أكثر قتامة مما أدى إلى نشوب
حرب كلامية شديدة بين المالكي ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان
منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2011. وترى تركيا أن واشنطن فشلت في استخدام
نفوذها الذي لا يزال قوياً (وعلى وجه الخصوص، مبيعات الأسلحة) لكبح
جماح استيلاء المالكي على السلطة وإزكاء التوترات الطائفية. بينما ترى
واشنطن أن عداء أنقرة للمالكي غير ضروري ولن يأتي بنتائج إيجابية. إلا
أن هناك المزيد من الموضوعية في الانتقادات الموجهة من جانب الفريقين
لبعضهما البعض.
يتلخص الحل التركي للأزمة السياسية العراقية المستمرة في إقامة دولة
اتحادية قوية تقوم على تفسير الدستور على نحو يصب في صالح "حكومة إقليم
كردستان" وغيرها من الأقاليم ويعطيها الأفضلية على الحكومة المركزية.
وبعد تيقنها في عام 2010 من أن المالكي ما هو إلا دمية في يد إيران،
أجرت أنقرة اتصالات موسعة ومباشرة مع أربيل، وعلى الأخص عندما زار وزير
الخارجية التركي أحمد داود أوغلو "إقليم كردستان" ومدينة كركوك الحساسة
في أيار/مايو 2012 دون إبلاغ بغداد.
وقد وسَّعت تركيا أيضاً تعاونها في مجال الطاقة مع أربيل منذ عام
2012، وقد شمل ذلك إبرام صفقات تبادل للنفط الخام الذي تنتجه "حكومة
إقليم كردستان" بمنتجات تركية مكررة مثل زيت التدفئة. ومن المرجح أن
تشمل الخطوة التالية لأنقرة مشاركة مباشرة في قطاع النفط والغاز الفائض
لـ "حكومة إقليم كردستان" بالإضافة إلى قيام شركة نفط تركية تابعة
للدولة بضخ استثمارات في مناطق الامتيازات داخل "إقليم كردستان"
العراقي -- وهي خطوة سبق وأن اتخذت من قبل شركتي "إكسون موبيل"
و"شيفرون"، بالإضافة إلى حوالي خمسين شركة أخرى في العقد الماضي.
ونظراً لاعتراض بغداد على هذه الصفقات ووصفها لها بأنها غير قانونية
وقد تتسبب في نشوب نزاع مسلح ضد "حكومة إقليم كردستان"، أعربت واشنطن
عن قلقها بشأن تجاوز تركيا للحكومة المركزية. وحتى الآن، رفضت أنقرة
هذه المخاوف مستندة إلى قراءتها للدستور العراقي ووجود العديد من شركات
النفط الأمريكية في "حكومة إقليم كردستان". ويتلخص الموقف الأمريكي في
أن تصدير النفط العراقي بدون موافقة بغداد هو في الواقع أمر غير قانوني؛
وأحد الاسباب، إنه ينتهك قرار مجلس الأمن الدولي رقم 986. وتخشى واشنطن
أيضاً أن تُفضي صفقات المقايضة والاستثمار التركي في "حكومة إقليم
كردستان" إلى مواقف تركية أكثر تطرفاً في المستقبل ويدفع الوضع رويداً
رويداً إلى استقلال كردي وإلى حالة من الأزمات الدائمة بين بغداد
وأربيل.
وعلى وجه التحديد تركزت المخاوف التركية على مقترحات بإنشاء خط
أنابيب رئيسي بين تركيا و"حكومة إقليم كردستان" من شأنه أن يلتف على
مفهوم العراق الاتحادي فضلاً عن القرارات المتعلقة بالسماح بتصدير
كميات كبيرة من صادرات النفط من الأراضي التابعة لـ "حكومة إقليم
كردستان" بصورة مستقلة عن بغداد، مع تحويل بعض الإيرادات الناتجة على
الأقل مباشرة إلى أربيل. فإذا زادت هذه الصادرات عن عدة مئات من آلاف
البراميل يومياً -- وذلك لن يكون صعباً من الناحية الفنية -- فسيكون
لدى "حكومة إقليم كردستان" الإمكانات المالية اللازمة التي تجعلها تقطع
علاقاتها مع بغداد.
غير أن واشنطن قد تبالغ في النوايا التركية. فعندما يتعلق الأمر
بصادرات النفط يبدو أن أنقرة ملتزمة بتحقيق سيناريو "يكسب فيه الجميع"،
أي تركيا وبغداد و"حكومة إقليم كردستان". ويرى العديد من المسئولين
الأتراك أن صفقات المقايضة المنظمة جيداً وصغيرة الحجم والاستثمار في
قطاع النفط التابع لـ "حكومة إقليم كردستان" يقع دون الحد الذي يمكن أن
يتسبب في نشوب حرب في شمال العراق أو يعمل على تقسيم البلاد. وفي سياق
متصل لا تزال أنقرة تتخوف بصورة واضحة من تجاوز الخطوط الحمراء
الحقيقية لبغداد ألا وهي: إنشاء خطوط أنابيب بين تركيا و"حكومة إقليم
كردستان" وتصدير كميات كبيرة من النفط من أراضي "الإقليم" بدون موافقة
الحكومة الاتحادية. إن تجاوز أي من هذين الخطين يمكن أن يتسبب في نشوب
أزمة عميقة مع واشنطن وكذلك مع بغداد. وترى واشنطن أيضاً أن توقيع
اتفاقيات في هذا الصدد يعتبر أمراً غير ذي جدوى.
التبعات على السياسة الأمريكية
تعلم أنقرة وواشنطن أن كليهما ينتقد سياسات الآخر تجاه العراق. وعلى
وجه الخصوص، كان بمقدور الولايات المتحدة فعل المزيد لكبح جماح المالكي
على مدار السنوات القليلة الماضية، كما اتضح من نجاحها في تعبئة النفوذ
الدبلوماسي لمنعه من استخدام القوة ضد منافسه السياسي رافع العيساوي في
كانون الأول/ ديسمبر 2012. ومن خلال الاعتماد على التشجيع من هذا
النجاح، ينبغي على واشنطن فعل المزيد لدعوة المالكي على عدم المواظبة
في خطواته السلطوية المستمرة (على سبيل المثال، قيامه في وقت سابق من
هذا الشهر بإقالة رؤساء "هيئة المساءلة والعدالة"). كما ينبغي عليها
التراجع قليلاً فيما يتعلق بمسألة الاستثمار التركي في الامتيازات
النفطية الكردية مع تمييز الأوقات التي تهدد فيها بغداد باتخاذ خطوات
تصعيدية لإظهار نفوذها مثلما فعلت منذ دخول شركة "إكسون موبيل" السوق
في "حكومة إقليم كردستان" قبل ستة عشر شهراً مضت.
وفي مقابل تقديم تنازلات حول هذه القضايا، من المرجح أن تجد واشنطن
شريكاً هادئاً وشاكراً في تركيا، ويمكنها حينذاك استخدام هذه النوايا
الحسنة لتحقيق العديد من الأهداف. أولاً، يمكنها أن تعزز من التردد
المبرر من جانب أنقرة بشأن تنفيذ اتفاقيات خطوط أنابيب مباشرة مع
"حكومة إقليم كردستان" في هذه المرحلة الحاسمة. ثانياً، يمكنها تشجيع
الجهود التركية المتجددة لمساعدة الفصائل العراقية، التي تشمل الأكراد
أيضاً، في مسعاها البرلماني لاستصدار تشريع اتحادي خاص بتقاسم النفط
والإيرادات. ويعتبر تمرير قانون محدد المدة عبر أغلبية من المعارضة في
26 كانون الثاني/يناير -- والجهود اللاحقة للحيلولة دون رفض هذا
القانون من قبل "المحكمة العليا" -- من البوادر المشجعة على أن الوعي
البرلماني في العراق يشهد حراكاً ويمكن تقويته وتعزيزه. كما أن إحياء
النقاش حول تشريع جديد لتقاسم النفط والغاز وكذلك الإيرادات يمكن أن
يساعد على التقريب بين الفصائل للوصول إلى اتفاق جذري بشأن قضايا
الطاقة وتحقيق قدر أكبر من اللامركزية المالية. وباختصار، إذا دققت كل
من واشنطن وتركيا في التفاصيل، فسوف يدركان أن مواقفهما ليست متباعدة
كما تبدو.
* مايكل نايتس هو زميل ليفر في معهد واشنطن
ومقره في بوسطن.
http://www.washingtoninstitute.org |