الحرية قيمة إنسانية عليا، وهي قضية الإنسان منذ أن وهبه الله
الحياة، فمن طبيعة الإنسان بحثه عن حريته ليضمن بها حياته وكرامته
واعتقاده بما يؤمن به لا بما يُكره عليه، يقول الإمام الشيرازي(قده):
(الإنسان يولد حراً، ويختار طريقه بنفسه، وللإنسان كامل الحرية في إطار
الدين والعقل من حيث التصرف في نفسه وماله). ومنذ اليوم الأول الذي صدع
فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله) برسالة الإسلام، دعا الناس إلى
الالتزام بوحدانية الله(عزوجل)، ورفض كل القيود والأغلال التي تكبل
حرية الإنسان. يقول(قده): (الحرية في النظام الإسلامي كالقلب بالنسبة
للجسد، ففي الإسلام أوسع الحريات وأشملها، فالأصل في كل شيء الحرية إلا
المحرمات المعدودة، والحرية الإسلامية هي حرية إنسانية، ترفع من شأن
الإنسان وتوصله لمصاف الملائكة).
اصطلاحاً، فإن الحرية مفهوم له أبعاد انسانية شاملة، أما
الديمقراطية فهي مفهوم سياسي للحرية، أي إن الديمقراطية تعبير محدد
للحرية فى الأمور السياسية، وإن الحرية أو الديمقراطية قيمة منتجة
بتوفرها تتوفر الأنظمة الضابطة للدولة والشعب، وليس من محض المصادفة أن
المجتمع الذي يقوم على أساس الحرية أن ينتج سلاماً اجتماعياً، ورخاءاً
مادياً، ورقياً فكرياً، وتقدماً علمياً، وسمواً أخلاقياً، يقول(قده): (الديمقراطية
تعرّف الإنسان على الخطأ والصواب، وتجنبه الأخطاء والعثرات، وتأخذ بيده
إلى الطريق السليم). وكلما اتسعت مساحة الحرية تهذبت الطباع، وتجذرت في
النفوس ضرورة التعايش والتشارك والتعاون، ما ينعكس إيجابياً على الدولة
والمجتمع، يقول(قده): (إن العمل للحياة لا يكون إلا بالحرية، فإذا لم
تكن حرية لم يكن عمل للحياة، وإن الحرية أساس البقاء ثم التقدم،
والإنسان إذا لم يكن حراً لم يبق حياً فكيف يمكنه أن يتقدم).
وكما أن الحرية طريق لبناء دولة الإنسان، فإن هناك لغط في فهم
الحرية وممارستها، وهذا اللغط الخطير يتمظهر اليوم واضحاً في المشهد
(الديمقراطي) لدول تعيش تغييرات سياسية، مثل تونس ومصر وليبيا، وأيضاً
العراق، حيث الغالب على المشهد المناكفات والمماحكات والصراعات التي
انعكست سلباً على مؤسسات الدولة والحكومة وحياة الناس وأمنهم ورفاههم،
وبالتالي فإن هذه الدول (الفتية ديمقراطياً) لم تثمر مفهوماً واضحاً
للحرية حتى هذا اليوم، فقد بدا واضحاً على أعمال معظم الأحزاب
والتيارات السياسية وأقوالها أنها تستثمر الديمقراطية لتحقيق مصالح
خاصة، وإن كانت هذه المصالح تضر بالشعب، وهذه الأزمة (السياسية –
الأخلاقية) هي الأكثر شيوعاً في البلدان (جديدة العهد على الحرية)
والأكثر خطراً عليها، بل هي الكارثة التي جلبت وستجلب الويلات على
الشعوب حاضراً ومستقبلاً.
فإن الانحراف في ممارسة الحرية والديمقراطية خطر داهم طالما حذرت
منه كتابات عريقة في الفكر والسياسة والمجتمع، وقد أعطى الإمام
الشيرازي لهذا الموضوع الشائك اهتماماً واسعاً في معظم كتبه التي
تناولت الفكر السياسي في كلها أو بعضها، من هذه الكتب (فقه السياسة ج1،
ج2، ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين، طريق النجاة، الصياغة الجديدة،
طريق النجاة)، يقول(قده): (باتت الشعوب في البلاد التي تسمى
بالديمقراطية، تعرف جيداً تلاعب الساسة بمقدرات الناس، وإنهم
ديكتاتوريون في أثواب مهلهلة من الديمقراطية، وإنها تعرف إن معظم
السياسيين إنما يعملون لأجل أنفسهم أكثر مما يعملون لأجل شعوبهم، ولقد
أصبحت الديمقراطية جوفاء، فلم تعد وسيلة للحد من الاستبداد، بل آلة بيد
المقتدرين ضد المستضعفين).
ومن هنا فإن الديمقراطية عندنا لا يكتنفها التخبط فحسب, بل هي اليوم
مرآة تكشف عن قصور فكري وسياسي في فهم الديمقراطية، وهو ما يتضح جلياً
في صور الأزمات التي تعم البلاد، ومنذ سنوات.
الإمام الشيرازي لم يحصر الانحراف في ممارسة الحرية والديمقراطية
على مستوى السياسيين، بل أشار إلى إن هناك انحرافاً على مستوى فهم
الحرية من قبل عموم المجتمع، يقول(قده): (الحرية في الإسلام هي حرية
بناء وليست حرية هدم، حرية تقدم وليست حرية امتصاص ثروات الآخرين، حرية
ازدهار وليست حرية انحطاط، لذلك فالحرية يجب أن تكون مسؤولة، وعلى كل
فرد أن يفهم حدود الحرية المعطاة له، وألا يتجاوزها، وألا ينتهك حريات
الآخرين، وألا يضر بمصالحهم، فالحرية في غير المحرمات، تكون على أساس
قاعدة لا ضرر ولا إضرار في الإسلام).
كما أن الوقائع – خاصة في العراق – أكدت أن هناك فئة ألبست الفوضى
لباس الحرية، فهي تريد الفوضى لأنها تجد في الفوضى فرصة لممارسة عملها
اللامشروع لتحقيق هدفها غير المشروع، ولأن تلك الفئة لا تؤمن بشراكة
الآخر، ظلت تمارس أعمالاً تهدف من خلالها زعزعة استقرار البلاد وإعاقة
عملية البناء والازدهار، وكل أعمالها المحرّمة تلك مارستها باسم
الإسلام مستخدمة وسائل "ديمقراطية"، بينما الحرية التي جاء بها الإسلام،
والتي اتفقت عليها الأمم المتقدمة، ترفض هذه الأساليب مبدئياً، ومن ثم
فإنها قننت كوابح تمنع الفرد من الاستسلام لنزعة الطمع أو العدوان أو
التسلط حفاظاً على هيبة الدولة وسلامة المجتمع ورفاهه، يقول(قده): (الحرية
في الإسلام، هي التي يكون فيها الإنسان حراً حقيقة، فلا فوضى، ولا كبت
صريح أو مغلق، فالحرية في الإسلام مقيدة بالأحكام الشرعية، وإن الحرية
التي يمنحها الإسلام للأفراد، لا تعني التعدي على حقوق الآخرين والمساس
بكرامتهم بقول أو فعلٍ، فالمجتمع الذي يبغيه الإسلام، مجتمع حر وطاهر،
الكل فيه آمن، لا يخشى من أحد على أحد).
ليس من شك أن الحرية المطلقة تقود إلى فوضى مطلقة، وبالتالي لا بد
من وجود ضوابط لممارسة الحرية، فيخطئ من يجعل الحرية مركباً يستبيح بها
كل شيء دون ضوابط، كما يخطئ من يجعل مقاييسه الشخصية معياراً يتصرف في
ظلاله كما يشاء، فلا بد من حماية الحرية من خطر الحرية التي يمارسها
البعض بطريقة خاطئة، فالحرية لأجل الإنسان وليست للإساءة للإنسان، كما
أن الديمقراطية من أجل البناء لا من أجل تعطيل البناء والخراب، والحرية
لأجل الاستقرار الاجتماعي وليست لتهديد الاستقرار، والديمقراطية ممارسة
حق وليست سلاحاً ضد الآخر، والحرية أو الديمقراطية شجرة طيبة لا تؤتي
ثمارها في ظل الفوضى، سواء أكانت فوضى سياسية تبرز عبر استغلال السبل
الديمقراطية لأهداف سيئة، أو فوضى دينية تتضح من خلال "أشباه الفقهاء"
يفتون الناس دون علم فتكون فتاواهم مطية يركبها الجهلة والمتطرفون، أو
فوضى مجتمعية تتفجر من خلالها نزعات (الهمج الرعاع) فتحيل حياة المجتمع
إلى اضطراب وخوف، يقول المرجع الشيرازي: (السياسة التي تختزن العلم
والحرية والرحمة من صميم العمل الديني". مبيناً(دام ظله) أن السياسة في
الإسلام مزيج من العدل والقسط، والفضيلة والإدارة الرشيدة، وحفظ حياة
الإنسان وكرامته، وإن الإسلام يدعو إلى ألاّ تراق قطرة دم دون حق أو
تهان كرامة أحد جوراً أو يظلم إنسان، بل وحتى حيوان). ولأهمية السياسة
في بناء الإنسان الصالح ودولة الرفاه، دعا الإمام الشيرازي إلى التعمق
بالعلوم السياسية، يقول(قده): (على الساعين إلى التغيير والبناء فهم
السياسة ليتمكنوا من الشروع في العمل، وإنْ عَمِلَ فإنه لن يتمكن من
الاستقامة في أمره وإن تجلّد وقاوم، ولن يتمكن من الوصول إلى الهدف
المنشود، لذا ينبغي على المؤمن العامل في مجال السياسة أن يعكس أحكام
الإسلام وقيمه الإنسانية).
* أجوبة المسائل الشرعية
http://alshirazi.com/rflo/ajowbeh/ajowbeh.htm |