أسباب عدّة تدفع المرء اليوم إلى أن يولي تاريخ العبودية اهتماما،
فنحن الآن في مواجهة عودة ما يُسمّى "العبودية الجديدة" إلى الحياة
اليومية وإلى الحياة المهنية. وقد ارتفعت في العقود الأخيرة، في كل من
الوسطين الديني والسياسي، أصوات لا حصر لها تدين هذه الممارسة المنحرفة
التي تحدث بالفعل أمام أعيننا، ولا نحرك ساكنا لمناهضتها. كتاب
"العبودية في العصر الحديث" لِـباتريسيا دلبيانو المترجم من الإيطالية
من قبل أماني حبشي وبمراجعة عزالدين عناية، صدر عن "مشروع كلمة"
الإماراتي.
ذلك أن بحث دلبيانو لا يتجاوز دراسة التاريخ التقليدي للعبودية، من
حيث منهجية التناول فحسب، وإنما من حيث الفترة الزمنية التى اعتاد
المؤرخون للعبودية التركيز عليها أيضاً. ففضلاً عن القرون الأربعة
الأولى من تاريخ العبودية، يُوَسِّع الكتاب من دائرة البحث لتشمل مظاهر
العبودية في العصر الحديث. وتأتي أهمية هذه الدراسة، ليس فقط جراء
استعادة تاريخ العبودية في العصور القديمة، ولكن من تبيانها للمعايير
المزدوجة التى تبنتها المؤسسات المتنفّذة والحكومات الأوروبية، بما
ساعد على استمرارية مثل هذا النوع من الممارسات غير الآدمية والمخجلة
وغضّ الطرف عنها طالما كانت تخدم مصالحها.
حيث تستهلّ الباحثة دلبيانو حديثها عن العبودية، بتحوّلها مع
اليونان والرومان من نشاط تجاري بدائي في طابعه، إلى نشاط مؤسساتي
منظّم يهدف إلى توفير الخدم على مستوى كبير، سواءً في الريف أو في
المدينة. إذ أثرت العبودية تأثيراً واسعاً على الحياة الاقتصادية
والاجتماعية في فترة هيمنة الحضارة اليونانية-الرومانية (500ق.م –
500م)؛ بل وترك القانون الروماني، بصفة خاصة، مبدأ شرعية العبودية
ميراثاً للغرب.
لتوغل الباحثة لاحقا في حقبة تجارة الزنوج من خلال معالجة ارتباط
العبودية بمسألتي التنمية والتخلّف. فقد انطلقت تجارة الرقيق السود عبر
الأطلسي في الفترة الممتدة ما بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر،
وترسخت بالتدريج خلال القرن السابع عشر، لتنتشر في القرن الثامن عشر مع
ازدهار اقتصاد المزارع في المستعمرات البرتغالية والإسبانية.
ومع انضمام دول جديدة إلى المغامرة الاستعمارية، وهي دول كانت في
السابق تقف على هامش هذه الظاهرة، بدأت المرحلة الثانية لتجارة الرقيق
في أعقاب المرحلة الخاصة بجزيرة إيبيريا، وذلك في عشرينيات القرن
السابع عشر وعبر ما عُرِف آنذاك بالمقاطعات المتحدة (أو جمهورية هولندا)،
التي بدأت التغلغل تجارياً.
كان لانتشار العبودية في عالم المستعمرات وعلى نطاق واسع أثرٌ في ما
يلي، سواء بإيقاع سريع أو بطيء، على العلاقة بين النمو السكاني وأعداد
العبيد. فصدرت في البداية قوانين خاصة، تلتها أخرى عامة هدفت إلى وضع
نظام مؤسسي لممارسة تجارة العبيد: وظهر ما أُطلق عليه اسم قوانين
الزنوج أو قوانين العبيد (slaves codes)، لتنظيم وجود الزنوج، عبيداً
وأحراراً، والمولَّدين منهم والزامبوس (zambos)، الذين وُلدوا من
الزنوج وسكان أمريكا الأصليين، بيد أنها كانت قوانين تُفرض على البيض
أيضاً.
لقد استهدف هذا البحث تتبّع بدايات العبودية التقليدية حتى وصلت إلى
أشكالها الحديثة، والفترات التى بلغت فيها العبودية إلى ذروتها ثم
فترات أفولها، وذلك من خلال إبراز الملامح المحددة للعبودية سواء في
طرائقها القديمة أو في أشكالها المعاصرة. فضلاً عن الهدف الأساسي لهذا
الكتاب، وهو الكشف عن الكيفية التى خلَّفت بها العبودية آثارها على
الغرب لقرونٍ طويلة، يهتم أيضاً على نحوٍ ثانويٍ بإلقاء الضوء على
العبودية في حوض البحر المتوسط، الذي شهد تورّطا واسعا للعديد من القوى
في هذه الممارسة. مشيرة الباحثة إلى أن ممارسة العبودية قد وجدت لها
مبررات دينية أيضا.
فعندما انطلقت تجارة العبيد عبر الأطلسي لم تصدر أية إدانة من قبل
الهياكل القيادية في الفاتيكان تجاه الممارسة، بل أكثر من ذلك، قاموا
بإضفاء شرعية رسمية عليها. كان المرسوم البابوي "أثناء تواجد الأعداء"
(18 جوان 1452م) الذي أصدره البابا نيكولاس الخامس، واضحاً وصريحاً
بهذا الصدد: كانت الوثيقة الموجَّهة إلى ملك البرتغال ألفونسو الخامس
تخول له أن "يهاجم، ويغزو ويُخضع البرابرة الوثنيين وغير المؤمنين
الآخرين أعداء المسيح في عبودية أبدية". ومن خلال مرسوم "الحبر
الروماني" (8 جانفي 1454م) أقرّ البابا بنفسه للبرتغال حق غزو الأراضي
في إفريقيا، بالإضافة إلى الغزوات الإقليمية المقررة مستقبلا، مُشجعاً
ضمنياً التطبيق الفعلي لتجارة العبيد. كان الإقرار يتعلق إذن، ليس
بالأمريكتين المجهولتين آنذاك، ولكن بسبتة التي احتلتها البرتغال عام
1415م بالإضافة إلى المنطقة الممتدة على طول السواحل الغربية من رأس
بوجادور تجاه الجنوب حتى غينيا.
ولم يظهر في الغرب جدل قوي بين المؤيدين لتجارة العبيد وبين
المناهضين لها إلاّ مع القرن الثامن عشر، مع اتساع تجارة الرقيق التي
وصلت آنذاك إلى ذروتها. وبفضل ذلك الجدل، تصاعدت حدّة الاستنكار الرافض
للاتجار في البشر باسم النزعة الإنسانية المسيحية، من جهة، وباسم مبادئ
التنوير المتعلّقة بحقوق الإنسان، من جهة أخرى.
الكتاب من تأليف باتريسيا دلبيانو، وهي باحثة إيطالية في التاريخ
الحديث في كلية العلوم السياسية بجامعة تورينو. من أبحاثها المنشورة: "الإصلاح
ومبادئ التنوير" برافيا 2001، "سلطة القراءة" إيل مولينو 2007.
ومن ترجمة أماني حبشي، مترجمة مقيمة في المملكة المتحدة، من أعمالها
المترجمة إلى العربية: "شجاعة طائر الحناء" لماوريتسيو ماجاني، و"بلا
دماء" لأليساندرو باريكو.
تولى مراجعة الترجمة عزالدين عناية وهو أكاديمي تونسي مقيم في روما،
يشرف لفائدة مشروع كلمة في أبوظبي على قسم الترجمة من اللغة الإيطالية.
سبق وأن صدرت له مجموعة من الترجمات والأبحاث آخرها: "السوق الدينية في
الغرب" في دمشق و"نحن والمسيحية في العالم العربي وفي العالم" في
الرباط.

العبودية في العصر الحديث
تأليف: باتريسيا دلبيانو
ترجمة: أماني حبشي
مراجعة: د. عزالدين عناية
الناشر: "مشروع كلمة" أبوظبي
* أستاذ من تونس بجامعة لاسابيينسا في روما
tanayait@yahoo.it |