عامان بعد القذافي... ليبيا جمهورية خوف وميلشيات منفلتة

 

شبكة النبأ: مع الاحتفال بالذكرى الثانية لاندلاع الثورة الليبية التي أسهمت بإسقاط نظام معمر القذافي الذي حكم البلاد على مدى أربعة عقود، لايزال الكثير من أبناء ليبيا يخشى من تتحول بلادهم الى ساحة حرب جديدة بسبب فشل قادتها الجدد وضعف حكومتها الحالية، التي عجزت حتى الان من بناء مؤسسات الدولة المهمة مثل الجيش وقوى الأمن وغيرها من المؤسسات الأخرى.

فتلك الأمور كانت سبب مهم في تردي الوضع الأمني والاقتصادي في ليبيا التي تحولت من حكم النظام الدكتاتوري الى فوضى حكم المليشيات المسلحة التي تخضع لقيادات وأجندة سياسية وقبلية مختلفة، خصوصا بعد ان تسلحت بأحدث الأسلحة والإمكانيات التي تفوق أسلحة الحكومة نفسها وهو ما جعلها تفرض كلمتها وتوسع نفوذها بقوة.

وعقدة الأمن كما يرى بعض المراقبين هي  من أهم العقبات في ليبيا الجديدة وهو ما أكده المحلل السياسي سليمان ازقيم الذي قال ان "الملف الأمني هو احد التحديات التي تواجهها البلاد ولا سيما انتشار الأسلحة وفرار آلاف السجناء في أثناء ثورة 2011. وأضاف ان "السلطات الجديدة وجدت نفسها على الفور أمام مطالب اجتماعية تحول دون تطبيق استراتيجيات اقتصادية او أمنية على المدى المتوسط او الطويل".

وبالرغم من تنظيم الانتخابات الحرة الاولى في تاريخ البلاد في تموز/يوليو 2012 اعتبر ازقيم ان البلاد "ما زالت غير ناضجة" على المستوى السياسي بعد ديكتاتورية القذافي التي استمرت أكثر من أربعين عاما وحظر فيها تعدد الأحزاب. ويعاني البرلمان المختلط الذي انبثق عن تلك الانتخابات من صعوبات في إحراز تقدم في ملفات على غرار المصالحة الوطنية وتأسيس عدالة انتقالية وصياغة دستور لتحديد صورة المستقبل السياسي للبلاد ولتبرير بطئ الإصلاحات تتحدث السلطات عن ارث ثقيل للقذافي يتمثل في بلاد بلا مؤسسات وتهميش الجيش والشرطة فيما يتهم أنصار النظام السابق بعرقلة العملية الديموقراطية في ليبيا.

واتهمت الحكومة والثوار السابقون أنصار القذافي بالسعي الى "نشر الفوضى" في احتفالات العيد الثاني للثورة وهددوا باستخدام القوة ضد كل من "يحاول التشويش على الاحتفالات" وأعلنوا عن إجراءات صارمة لضمان امن البلاد وبالتالي أعلنت الحكومة عن إغلاق الحدود البرية مع تونس ومصر وتعليق الرحلات الدولية في مطارات البلاد باستثناء مطاري بنغازي وطرابلس. وقررت ليبيا في أواخر كانون الاول/ديسمبر إغلاق الحدود مع جيرانها الأربعة في الجنوب. ومنذ أيام أقيمت نقاط تفتيش على محاور ومداخل طرابلس الرئيسية.

كما نفذت الإجراءات نفسها في بنغازي حيث شكل سكان مجموعات للدفاع الذاتي في أحيائهم. وقد نظم آلاف المحتفلين في مدينة بنغازي (شرق) مسيرة راجلة تحاكي التظاهرة التي انطلقت في المدينة في 15 شباط/فبراير 2011 وكانت شرارة لثورة 17 شباط/فبراير التي انهت نظام معمر القذافي. وانطلق المتظاهرون من أمام مبنى مديرية امن بنغازي جنوب المدينة سيرا بعد ان أوقدوا "شعلة الثورة" التي تناوب على حملها عدد من قدامى الرياضيين الليبيين حتى وصولها الى ميدان التحرير بجانب محكمة شمال بنغازي.

وفي مثل هذا اليوم من عام 2011 تظاهر أهالي ضحايا مجزرة سجن ابوسليم وعدد من النشطاء السياسيين امام مبنى مديرية امن بنغازي بعد ان ألقت قوات النظام السابق القبض على منسق رابطة الأهالي فتحي تربل. وكانت تلك التظاهرة الاولى في البلاد التي تشهد دعوات علنية لإسقاط النظام. وردد المحتفلون شعارات وعبارات تمجد الشهداء والجرحى والمفقودين الذي سقطوا خلال الثورة المسلحة التي استمرت قرابة ثمانية اشهر، فيما شن عدد من المحتفلين هجوما لاذعا على المؤتمر الوطني العام (أعلى سلطة في البلاد) والحكومة ورئيس اركان الجيش الليبي بسبب ما قالوا انه "تهميش للمدينة التي كانت مهدا للثورة وحاضنا لها".

وذكروا في ساحة التحرير بعدد من المطالب كانت قد اعلنت قبل ايام عبر مواقع التواصل الاجتماعي وعدد من المنشورات تؤكد ضرورة "عودة عدد من المؤسسات الاقتصادية الى مدينة بنغازي كان النظام السابق قد نقلها الى العاصمة طرابلس". كما طالب المحتفلون "باقالة رئيس اركان الجيش الليبي اللواء يوسف المنقوش من منصبه" بسبب "ضعف ادائه" في بناء المؤسسة العسكرية بحسب وصفهم، بالاضافة الى تاكيدهم ضرورة "اقرار قانون العزل السياسي" و"تفتيت نظام المركزية الادارية للدولة".

وياتي هذا الحراك عقب دعوات جماعات معارضة لسياسات المؤتمر الوطني والحكومة المؤقتة، الليبيين الى "ثورة ثانية"، احتجاجا على عجز الحكومة عن فرض الأمن في أنحاء البلاد. وشهدت مدينة بنغازي خلال الايام الماضية انتشارا امنيا واسعا شارك فيه عدد من الاهالي بالاضافة الى قوات الامن والجيش والثوار السابقين بهدف حماية المؤسسات الحيوية والرئيسية في المدينة.

من جهة اخرى انفجرت سيارة لاحد قادة الثوار الليبيين السابقين على بعد امتار من مركز شرطة البركة في مدينة بنغازي (شرق) اثر القاء مجهولين قنبلة يدوية الصنع اسفلها. وقال مصدر امني ان السيارة "انفجرت دون ان تخلف اي اضرار بشرية"، موضحا انها "سيارة يستعملها امر كتيبة التدخل السريع بوزارة الدفاع ايمن العرق". واضاف ان العرق "تلقى تهديدات سابقة عبر هاتفه خلال المدة السابقة". وقال ان "سيارته استهدفت بينما كانت مركونة امام بيته بجوار مركز شرطة البركة".

وتدهور الوضع الأمني أمر معتاد في أرجاء هذه المدينة حيث ألقيت للتو قنبلة على سيارة دورية شرطة وأصيب ضابط. كان هذا هو الهجوم الأحدث في سلسلة هجمات تتعرض لها قوات الأمن المحلية. وقبل شهرين قتل مسلحون بالرصاص قائد الشرطة المنوط به تأمين المدينة أمام منزله. وبعد عامين من إطلاق المدينة شرارة الانتفاضة أصبحت بنغازي تجسد ثورة شعبية انحرفت عن مسارها. فخرجت ميليشيات متناحرة وإسلاميون مسلحون أكثر قوة من الشرطة ما دفع السكان للسؤال: أين هي الدولة؟

ويقول الناشط محمد بوجنة "تخيل مدينة تسيطر عليها ميليشيات في وقت يتطلب منك أن تدعم الدولة. الناس يشعرون بعدم الأمان. وهم مستاؤون جدا وغاضبون من ذلك." ووقعت هجمات على دبلوماسيين وبعثات دولية منها هجوم يوم 11 سبتمبر أيلول الماضي الذي أسفر عن مقتل السفير الأمريكي وسط موجة متصاعدة من عمليات خطف وتفجير واغتيالات تستهدف مسؤولي الأمن على وجه الخصوص.

ووسط الفوضى والقمامة التي تملأ الشوارع وتهاوي الخدمات البلدية زاد شعور السكان بالإهمال من جانب العاصمة طرابلس البعيدة ما جدد المطالب بالحكم الذاتي في منطقة تتركز فيها أغلب ثروة ليبيا النفطية. وقال مصدر دبلوماسي "الكل يشعر بقلق متزايد بشأن شرق ليبيا. الأوضاع تتدهور بشكل خطير."

وتحظى استعادة الأمن في ليبيا بالأولوية خاصة في بنغازي.التي ينظر إليها الآن باعتبارها معقلا أو قاعدة لانطلاق المتشددين الإسلاميين الذين كانوا مقموعين في عهد الزعيم الراحل. ويقول بعض المحللين إن الجماعات الإسلامية المتشددة تشحذ قوتها على الأرض. وتعترف الشرطة بأنها كثيرا ما تكون بلا حول ولا قوة وكثيرا ما تستهدف بهجمات. وقال قائد قسم شرطة في وسط المدينة "ليس لدينا سوى المسدسات والبنادق. وهم لديهم دبابات وأسلحة ثقيلة." وأضاف "نريد ان نقوم بعملنا لكن بعض ضباط الشرطة يشعرون بالخوف."

وحتى إذا نفذت قوات الأمن اعتقالات فإن ما يتلوها من هجمات تثبط عزيمة ممثلي الادعاء. ومازال محقق بالشرطة مفقودا منذ خطفه في أوائل يناير. وقال ضابط عرف نفسه باسم انيس "كل يوم أنظر أسفل سيارتي وأنظر في المرآة لما ورائي قبل ان انطلق بها." وتابع "انا فخور بأنني ضابط شرطة لكن أصبح يتعين علينا توخي الحذر الآن." وتنصب أعمال العنف أساسا على قوات الأمن وربما كان بعضها انتقاما من جانب سجناء سابقين أو متشددين يريدون إبراز نفوذهم. ولكن في غياب جيش وشرطة يعملان بكفاءة لا تملك السلطات قوة تذكر لمواجهة المشتبه فيهم. وقال ضابط طلب عدم نشر اسمه كذلك "أهل بنغازي يحتاجون للشرطة لكن اي شخص منا يخرج من منزله إلى عمله يكون مثل الشهيد."

هذه ليست هي الصورة التي يريدها أهل بنغازي لمدينتهم. وهم يقرون بأن الحياة تعطلت بأعمال العنف والاضطرابات إضافة إلى مطالبتهم بالحكم الذاتي أو ضخ استثمارات في المدينة التي تبعد ألف كيلومتر إلى الغرب من طرابلس. وإلى جانب المشكلات الأمنية تعاني بنغازي من فشل الحكومة في الوفاء بمطالب السكان الذين يتزايد إحباطهم منذ أن غادر زعماء المعارضة السابقين قاعدتهم الشرقية إلى طرابلس في اكتوبر تشرين الأول 2011.

وبعد أن كانت بنغازي مركزا للمطالبة بالحكم الذاتي وكانت وراء محاولات سابق للإطاحة بالقذافي أصبحت الآن محور شعور واسع النطاق بتجاهل السلطة الجديدة في طرابلس للشرق. ويشير سكان بنغازي إلى الشوارع التي تتناثر فيها القمامة والطرق غير الممهدة والمستشفيات والمدارس التي تحتاج للأساسيات. وافتتحت متاجر جديدة واستؤنفت أعمال البناء لكنهم يريدون المزيد.

والمسألة الأكبر هي ماذا سيكون وضع بنغازي في ليبيا الجديدة وكم ستكون حصتها من إمدادات النفط الليبية البالغة 1.6 مليون برميل يوميا أغلبها يأتي من الشرق. وأدى الاستياء إلى دعوات للعودة إلى هيكل سياسي فيدرالي. وعلى مدى عشر سنوات تقريبا بعد استقلال ليبيا عام 1951 كانت البلاد تدار بنظام فيدرالي يعطي سلطات لمناطق الشرق والغرب والجنوب. وكانت بنغازي العاصمة التجارية لليبيا وكان الشرق يفتخر بأنه مسقط رأس عائلة الملك إدريس. وبدأت ليبيا تتجه للمركزية في اواخر عهد الملكية. وسرع القذافي بهذه العملية بعد انقلابه عام 1969 وركز سلطة الدولة في طرابلس مهملا بنغازي.

وتقيم قلة من الغربيين في بنغازي التي تحملت عبئ موجة عنف استهدفت دبلوماسيين وهيئات دولية في وقت سابق. وطالبت بريطانيا مواطنيها في الآونة الأخيرة بمغادرة بنغازي فورا بسبب خطر "محدد ووشيك" على الغربيين مما ألقى الضوء على الافتقار للأمن في المدينة. وجذب الهجوم على البعثة الأمريكية الذي لم يقبض على أحد بعده اهتمام العالم. لكن كانت هناك هجمات كذلك على ممتلكات بريطانية وأخرى تخص الصليب الأحمر والامم المتحدة.

وقال راندي روبنسون مدير المدرسة الانجليزية في بنغازي "سرقت سيارة أحد عاملينا بالإكراه وتم السطو على مقرنا السكني وتم احتجاز المدرسين في حجرة تحت تهديد السلاح بينما أخذ اللصوص ينهبون ما في المبنى. علينا توخي الحذر." وقبل عامين كانت الانتفاضة ضد القذافي تحظى بأقوى تأييد لها في بنغازي. أما اليوم فيسود شعور مختلف تماما.

الى جانب ذلك ألغى زعماء جماعات تطالب بحكم ذاتي في شرق ليبيا احتجاجا كانوا يعتزمون تنظيمه خشية نشوب أعمال عنف مع خروج الآلاف للشوارع للاحتفال بالذكرى الثانية لانطلاق الثورة. وكانت الجماعات في بنغازي استعدت لتنظيم مظاهرات حاشدة للمطالبة بتعزيز الأمن والاستثمار في ثاني كبرى مدن ليبيا.

وقال الناشط زيد الرقاص إن الجميع يحملون سلاحا في بنغازي ولا تزال هناك حالة عامة من الفوضى والارتباك. وأضاف أن من مسؤولية النشطاء تقليص الضرر إلى أدنى مستوى ممكن في المدينة. وهناك دعوات في المنطقة التي تتركز فيها معظم ثروات البلاد النفطية للعودة إلى هيكل سياسي اتحادي ومزيد من الاستقلال للأقاليم وهو نظام كان قائما في ليبيا قبل استيلاء القذافي على السلطة في انقلاب عام 1969 . وتواجه الجماعات الداعية للنظام الاتحادي انتقادات من الحكومة المركزية والزعماء الدينيين ويتهمونها بالدعوة لفصل شرق ليبيا عن غربها وهو ما تنكره تلك الجماعات.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 19/شباط/2013 - 9/ربيع الثاني/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م