نادر دندون صحفي أم جاسوس

هادي جلو مرعي

ملاحظة أولى

في كل الأحوال فإن ماحدث في الأيام الماضية من إعتقال لصحفي فرنسي في بغداد، يعد من بين أولى العمليات النوعية والسرية التي قام بها جهاز المخابرات العراقي الذي يتزعمه جنرال شغل مناصب عدة في أجهزة الأمن العراقية خلال سنوات الصدام الطائفي الرهيب في هذه البلاد، والذي يجري تعديلات مهمة للنهوض بعمله بعد فترة من الجمود والمماحكات التي صاحبت نشأة ذلك الجهاز.

تحركت الهواجس وأستنفر مابقي من ذكريات في عقود مرت، بمجرد أن أعلنت السفارة الفرنسية نبأ إعتقال صحفي فرنسي من أصول جزائرية يعمل لحساب صحيفة ( ليموند دبلوماتيك) الباريسية.

الصحفي الذي أعتقل في يناير الماضي هو نادر دندون وكان زار العراق قبيل الحرب الأمريكية التي أدت الى إسقاط نظام صدام حسين في العام 2003 ليعمل درعا بشريا مع مجموعة من الناشطين من دول مختلفة، حاول بعض الصحفيين إثارة المخاوف من قصة إعتقال النظام العراقي السابق للصحفي البريطاني الجنسية والإيراني الأصل (بازوفت) الذي أتهم بالتجسس لحساب جهات خارجية، وأعدم لاحقا قبيل حرب تحرير الكويت.

سارعت منظمات محلية في مقدمتها مرصد الحريات الصحفية الى المطالبة بإطلاق سراح دندون على الفور، وحذرت من عواقب وخيمة في حال بقي محتجزا لدى السلطات المحلية التي أصرت على إبقائه في عهدتها لحين محاكمته برغم الضغط المحلي والدولي، وكذلك الاتصالات الموسعة التي أجرتها، والضغوط التي مارستها السفارة الفرنسية في العاصمة العراقية، حتى تم إطلاق سراحه بكفالة ضامنة من قبل قاضي في العاصمة بغداد.

بقي دندون معتقلا لدى جهاز المخابرات العراقي لأكثر من أسبوعين، ويبدو إن رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي اطلع على التفاصيل الكاملة من قبل المسئولين الأمنيين، ورأى أن يتم إكمال كافة الإجراءات اللازمة قبل إطلاق سراحه المشروط، وهو ماتم بالفعل حيث واجه الصحفي الفرنسي تحقيقا مطولا وسأل لأكثر من مرة عن ظروف دخوله التي كانت طبيعية إلا إنها تثير الشكوك على أية حال، خاصة مع المعلومات التي توفرت لدى المخابرات العراقية وكانت عناصر مهمة دفعت المسئولين للشعور بالقلق، وهو ماطرح تساؤلات مهمة قد تثير بعض الصدام بيننا كدعاة حريات ومدافعين عن عمل الصحفيين والداعين الى تغليب مصالح الأمن القومي، وهو السؤال الذي بادرني به ضابط عراقي كان يحقق مع دندون.

ماذا كنت ستفعل ياسيد هادي لو كنت مكان أي واحد منا، وحين تطلع على الطريقة التي تحرك فيها الصحفي الفرنسي، هل كنت ستجامل من أجل أن تطور علاقتك مع بعض المنظمات الدولية، أم إنك ستغلب المصلحة الوطنية ؟ فبحسب عناصر البيانات المتوفرة فإن عناصر من جهاز المخابرات العراقي تعقبوا دندون في تحركاته التي سجلت بدخوله الى أماكن حساسة وتصويره لأكثر من (300 ) موقع أمني وعسكري في عدة نقاط، وكذلك حواجز أمنية، وكان من بين ما صور مبنى جهاز المخابرات، وهو ما لم تكن لتسمح به فرنسا أو أي دولة، ولاحاجة للمغالطة والقول إن الفرنسيين يسمحون بتصوير مبنى المخابرات، ومواقع عسكرية خاصة.

تابعت مراحل التحقيق مع الصحفي نادر دندون، وكنت بالتزامن مع ذلك ادعوا كصحفي الى اطلاق سراحه على الفور مع علمي ان ماتقوم به الاجهزة الامنية ليس سيئا على الدوام او أنه مخالف لحاجات الدولة الملحة في تطوير العلاقات الخارجية وتحسين سمعة العراق في المنظومة الدولية.

سأل دندون الذي دخل بجواز سفر جزائري، وليس فرنسيا عن مكان إقامته ؟ وأبلغ المسؤولين العراقيين، إنه يسكن في فندق، لكنهم توجهوا الى إدارة الفندق الذي ذكره دندون، فوجدوا إنه لم يكن يسكن فيه، ثم إعترف إنه يسكن لدى صديق وزوجته الفرنسية في حي السيدية غرب بغداد، والذي ووجه بالأمر ليكشف تفاصيل مثيرة.. فقد ظهر إن الصديق متزوج من إمراة فرنسية لديها (دار رعاية للأطفال) في المنطقة، وتربطه بالصديق علاقة سابقة لسقوط حكومة صدام حسين، وإن دندون توجه في إحدى المرات الى تلك الدار، ودخل في مشادة مع الصديقة الفرنسية لسبب ما، وسبب لها مشكلة حين تحدث معها بلغة فرنسية عرفها المواطنون وفوجئوا بها، ليطرد من المنزل ويذهب الى مكان آخر مجهول.

يملك دندون جواز سفر فرنسي، وآخر استرالي، وثالث جزائري هو الذي دخل به الى العراق، وكان زار إسرائيل بجوازه الفرنسي لأربع مرات، وهو ما أثار الريبة لدى المحققين الذين إكتشفوا إنه دفن جواز سفر، وجهاز حاسوب، ومعدات حاسوبية أخرى، وجهاز هاتف نقال في حديقة منزل الصديق العراقي.

وضع المحققون المعطيات التالية للبحث فيها، والإستنتاج من خلالها ليتخذوا قرار إحتجاز دندون، هو جزائري الاصل، يحمل الجنسية الفرنسية، ويعمل لوسيلة إعلام باريسية متخصصة، يملك ايضا جواز سفر أسترالي وآخر جزائري، زار إسرائيل لأربع مرات بجوازه الفرنسي..

فكر المحققون بتلك العناصر التي كانت كافية بالنسبة لهم ليقرروا التحقيق معه بالفعل، وعبر هذه المعطيات المتصلة بطبيعة تغطيته الصحفية لأماكن حساسة للغاية، وتكرار زيارته لإسرائيل، ثم التفكير بعمل التنظيمات الدينية المتطرفة التي تعمل في الجزائر، ومجيئه للعراق قبل الحرب الأخيرة، وعدم كشفه عن مكان إقامته.

قدرنا كصحفيين عمل الأجهزة الأمنية العراقية، لكننا مدفوعون على الدوام بهاجس الحرص على مستقبل الديمقراطية وحرية التعبير، وهو ماقد يضع حاجزا بيننا وتلك الأجهزة التي تعمل بطريقة لاتنتظر معها إذا وجدت شخصا أجنبيا حتى لو كان صحفيا يقوم بالتصوير في تلك المواقع الإذن بإعتقاله من جهات عليا.

على أية حال نحن سعداء للغاية بما تحقق، ونأمل من الصحفيين الأجانب أن يتصلوا قبل مجيئهم الى العراق بمرصد الحريات الصحفية كمنظمة اولى في الدفاع عن الحريات في العراق والشرق الأوسط، أو بنقابة الصحفيين على الأقل لتأمين سلامتهم، خاصة وإن حالات إحتجاز مماثلة حصلت لصحفيين من بينهم الصحفي الأمريكي دانيال سمث في الصيف الماضي.

Ham83ada@yahoo.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 19/شباط/2013 - 9/ربيع الثاني/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م