الشعب يريد اسقاط الاوهام

د. منذر سليمان

كتبت هذه المساهمة لـ18 شهرا مضت لاستقراء الحالة السورية في ميزان المقارنة مع هبات الجماهير العربية في اقطار عربية اخرى، والتحذير من اسقاطات خاطئة تحاكي الوقوع في فخ الاستجداء بالاجنبي لاحداث الاصلاح والتغيير المطلوبين، وينبه إلى مخاطر عدم اعتماد المقاربات السلمية التدريجية لانها قد تؤدي إلى تدمير الوطن والدولة وتمزيق وحدة الشعب. وعندما تنادت أصوات البعض طلبا للحوار كمدخل للحل، بعد ما حل بسورية من دمار ممنهج لمرافق الدولة ومقدرات الوطن ومن خسائر بشرية جسيمة. نعيد نشرها دون تعديل حرف واحد لتبقى شاهدا على صوابية موقفنا وواقعيته لا بل استشرافه الدقيق لما سيحدث مقابل الاتهامات الباطلة التي تصدر عن الذين روّجوا للاوهام واعماهم الحقد ومنطق الثأر وآمال التربع على السلطة بوصاية اجنبية دون اكتراث لمصير الوطن والمواطن يتنصلون من اية مسؤولية في تحول سوريا الى مأساة انسانية مفتوحة تدمي القلوب حزنا وحسرة.

 تتنافر وتتنافس السرديات المتنوعة في توصيف او تفسير ما يجري في سورية من احداث على وشك ان تدخل شهرها السادس، ويزعم البعض انها مرشحة للاستمرار دون افق واضح لخواتم فاصلة.

 ويبدو ان مبعث التنافر يعود لوقوع معظم، ان لم نقل كل، المعنيين بالاحداث، او الذين تناولوها، في اسقاطات ناسخة او قراءات انتقائية سهلة، لواقع افتراضي يتلاءم او يتطابق مع نزعة رغبوية جامحة في تصوير الامور وفق رؤية خاصة مسبقة مشبّعة بالتمنيات التي تراود اصحابها عادة.

 قبل الحديث الموجز عن سرديات النظام والمعارضات لا بد للمرء من التوقف امام "الهبة" الدولية والخليجية العربية والتركية الجديدة التي تتحرك اطرافها في تناغم عال مثل عزف الاوركسترا نغمات الضغط والعزل والعقوبات والقرارات والتصريحات النارية والمهل الزمنية والوعيد بمصير محزن لسورية ورئيسها.

 يبدو ان مخزون التجربة الديموقراطية العريقة في المحميات النفطية الاميركية في الخليج العربي، ذات الاصطفاف المذهبي المتقارب وعائلاتها المتصالحة مع الكيان الصهيوني والمتخاصمة فيما بينها، يفيض عن اللزوم لتتوعد النظام السوري بالويل والثبور وعظائم الامور ان لم يتدارك الامر ويستمع او يتعلم من تجاربها في الديموقراطية ويسرع في عمليات الاصلاح الجذرية التي انجزتها هذه المحميات بغيرة محسودة عليها. ألم تعلن بعضها عن انتخابات محلية للبلديات بالاضافة الى التعيين بمراسيم ملكية وأميرية وتفكر جديا بدخول العصر ما فوق الرملي وتسمح للنساء بقيادة السيارة؟

 انها من علامات الساعة؛ طبعا مثل اقدام مثقفين يزعمون اليسارية والعلمانية يتحركون في احضان هذه المحميات واذرعها الاعلامية يتقمصون موقع المرشدين للثورات العربية وفي كل الاقطار ما عدا المحميات التي انجزت الثورة الوطنية والبناء الديموقراطي التعددي طبعا، ويتقنون فن التعبير عن ايحاءات وايماءات انزعاج حلف التبعية السنية السياسية العربية الافتراضي من تنامي حلف الشيعية السياسية الافتراضي الآخر الذي تقوده ايران، والذي يرمز اليه بمحور المقاومة من طهران الى دمشق وبيروت وغزة مرورا بالعراق. لا غضاضة ابدا في ان يبشر هؤلاء المثقفين/المرشدين يغمرهم احيانا خجل نفي تهمة التحريض المذهبي في الوطن العربي بترجيح فكرة ومنطق الفالق السني – الشيعي على حساب الفالق الحقيقي العربي – الصهيواميركي.

 وبعد دخول حلف الناتو في "شراكة استراتيجية" مع المنتقلين بقدرة قادر الى وضعية "ثوار" الربيع العربي اضحى مجلس ومنطق بعض المثقفين والمحسوبين على التيار القومي العربي او اليساري لا يتلعثم وهو ينظّر او يفلسف دعم "ثورات" عربية تسندها واشنطن وباريس ولندن وحلف الناتو، سايكس بيكو المتجدد، وترشق السفير الاميركي بالورود والرياحين في مسيراتها "الثورية."

 ما عدا بعض اللمحات الخاطفة، بدت سردية النظام ناقصة، متعثرة ومرتبكة احيانا، لا بل مغلوبة. كيف لا يتم ذلك في ظل ضعف بنيوي تاريخي من اداء اعلامه الرسمي – على اية حال بتقديري كل اعلام رسمي محكوم برداءة الاداء اصلا – وتتحايل سلطات المجتمعات الرأسمالية في الغرب بالادعاء بغياب اعلامها الرسمي. ولكنها تستعيض عنه بالاعلام الخاضع مثلها لنفوذ اصحاب الثروة في حلف سري يتقن خداع وترويض العامة: دققوا قليلا في فضيحة امبراطورية ميردوخ الاعلامية المترامية الاطراف على ضفتي الاطلسي.

 لكن السردية الاخرى التي تبنت حراك الشارع اعلاميا لتصفه بالانتفاضة احيانا وبالثورة احيانا اخرى، قدمت عبر الفضائيات الموجهة والغالبة انتشارا ومهارة فنية وقدرات مالية، نموذجا صارخا لمحاولات تصنيع الاحداث و"الثورات" وادارتها وتوجيهها.

 بين سردية النظام المتعثرة وسردية الفضائيات المعادية له، كانت تتسرب احيانا سرديات اخرى متفرعة بواسطة الاعلام المكتوب او الالكتروني. لكن منابر الفضائيات "تميزت" في صناعة "النجوم" و"الثوار" من استوديوهاتها، وبعضهم تحول الى شاهد عيان – حتى لو "ما شافش حاجة" كما يقول اخوتنا المصريين بلهجهتم المحببة. اتقنت هذه الفضائيات اعداد تقاريرها الاخبارية وكأنها "مطبوخة" على نار هادئة في غرفة عمليات مكيفة لتيار او حزب معين من الاطراف المحسوبة على المعارضة، يتم رش بعض التقارير كمبيدات فكرية وايديولوجية سامة ترددها في نشرات الاخبار او فواصل البرامج الحوارية.

 سردية النظام تجاهلت التركيز على الاسباب الداخلية للاحتجاج من مظالم ذات طابع اقتصادي، معيشي او اجتماعي وقانوني وسياسي، او على الاصح لم تسلط الاضواء الكاشفة عليها. بالمقابل تجاهلت سردية الفضائيات والابواق الاعلامية للمعارضة حتى الاشارة الى المنحى المبكر لاعتماد شعارات وهتافات طائفية بغيضة معطوفة على ممارسات طائفية واجرامية بشعة لم تبدأ بالقتل والتنكيل والحرق والتدمير، ولم تنتهي عند الشتائم البذيئة ضد حزب الله وايران وكل من يقف مؤيدا لسياسات النظام الاقليمية في دعم المقاومات العربية، وتوجيه اتهامات باطلة بالتدخل الميداني العسكري والامني الى جانب اجهزة النظام.

 هناك عملية استنساخ زرعتها الفضائيات لتطورات الحراك الشعبي المعارض للنظام في سورية. فجأة وصل الاستنساخ وبسرعة البرق الى رفع شعار اسقاط النظام على غرار الشعارات التي رددها الشارعين التونسي والمصري، وليبيا واليمن فيما بعد، رغم المسافة الضوئية بين سياسات هذه الانظمة التابعة والنظام السوري فيما يتعلق بالمسالة القومية، والموقف من المقاومة في لبنان وفلسطين.

 لذلك بتقديري عندما سينجلي غبار المعارك الفعلية والافتراضية على وفي سورية ويكتب عن تاريخ هذه الحقبة، قد يستفيق بعض ممن تصدر المعارضة الوطنية في الداخل من احلامهم عندما استسهلوا الانجرار والانجراف وراء شعار اسقاط النظام ورفض الحوار غير المشروط معه. وقد يتذكرون قصة الفأر الذي كان يلحس المبرد ويتلذذ بلعق دمه.

 لقد استساغ البعض ركوب شعار اسقاط النظام، وهو الشعار/المبرد، الذي اعمى البصيرة عن القراءة الدقيقة والمتوازنة للمشهد السوري وحدود وآفاق الاصلاح والتغيير الممكن والمتاح في المرحلة الراهنة. لقد ارتفعت امام بعض الشخصيات الوطنية المعارضة احقاد الماضي المرتبطة بظلم السجن الطويل وكأنهم يلتقطون فرصة لن تتكرر للثأر من نظام الحق بهم الاذى وحان، برأيهم، وقت تصفية الحساب معه بركوب موجة الاحتجاجات الشعبية.

 قد يتبين لهؤلاء مدى الاذى والتفريط الذي الحقوه بعملية التغيير والاصلاح في سورية والتي لا يمكن لاعتبارات موضوعية حاكمة الا ان تكون متدرجة وسلمية وتراعي وحدة الوطن والشعب. لقد اغراهم "مطبخ الفضائيات الحامي" بنضوج مبكر وقبل الاوان لطبخة التغيير بالاعتماد على نار الضغوط الاقليمية والدولية المستدرجة. والغريب ان تمر الاسابيع والشهور ويستمرون بتجاهل استعصاء اسقاط النظام وبؤس طرحه كشعار دون توفر شروط موضوعية لتحقيقه.

 ان ابجديات العمل الثوري للتغيير تتطلب انضاج توفر العوامل التالية لاسقاط اي نظام:

1. انهيار وتفكك السلطة المركزية وحدوث انشقاقات ذات مغزى تؤدي الى تعطيل فعالية اجهزته الأمنية مما يحدث فراغا في السلطة.

2. توفر اجماع وطني وشعبي على ضرورة تغيير النظام وتولد قناعة بتوفر بديل مرحلي موثوق يشرف على عملية الانتقال السلمي الى نظام جديد منتخب ديموقراطيا.

3. حياد الجيش بوصفه ذراع أمني اضافي للنظام في الصراع الداخلي او تعاطفه او اعلانه عن دعم الحراك الجماهيري الهادف الى تغيير النظام.

4. قيام انتفاضة شعبية مسلحة مدعومة من جبهة وطنية عريضة لاحزاب لها وزنها في الشارع وتحظى بتأييد من قطاع وازن منشق من الجيش.

كل هذه الشروط او احدها غير متوفرة في المشهد السوري الا اذا كانت المراهنة على حلف الناتو او تركيا او الكيان الصهيوني للقيام بهذه المهمة، والتي ستكون شبه مستحيلة ايضا لأن المسّ بسورية الوطن والشعب والدولة والموقع والدور هو كالمسّ بكرة نار متدحرجة ستحرق اصابع من يحركها اقليميا او دوليا.

 ان الاصرار على شعار اسقاط النظام وليس التغيير عبر الحوار والاصلاح هو اصرار على دفع الشعب والوطن والنظام والمعارضة الى خيارات انتحارية مدمرة يخسر فيها الجميع مرحليا ويكسب فيها النظام في نهاية المطاف.

 قد تزرع الفضائيات المحرضة والمغرضة آمالا كاذبة لدى البعض، وقد تغري تصريحات بعض الزعماء الاقليميين والدوليين هؤلاء ايضا حول فقدان شرعية رأس النظام والدعوة الى رحيله للمزيد من المراهنات والاوهام، وبالنتيجة اطالة عذابات وآلام الشعب السوري فترة اطول مما جرى حتى الآن، ولكن الدرس الأهم الذي يتوجب على الجميع استخلاصه ان اي عمل ثوري عربي حقيقي لا تكن بوصلته استكمال عملية التحرر الوطني وهزيمة المشروع الصهيوني وحلفاءه بالقول والممارسة، سيبقى عملا ثوريا في الشكل ومحاكاة لاسقاطات حدثت في مناطق اخرى من العالم. بئس الثورات العربية التي يلهمها ويديرها الصهيوني برنار هنري ليفي، وتستجدي علنا او سراً خجلاً او بوقاحة حلف الناتو ليحقق شعاراتها الداخلية؛ وتلتزم الانكار والصمت على حقها وكرامتها القومية.

 الكرامة الانسانية الحقيقية هي الكرامة الوطنية والقومية بانجاز الاستقلال الوطني الحقيقي، وليست التلويح باصابع ملونة امام صناديق خشبية تحوي اوراق الديموقراطية الزائفة المزعومة تحت حراب المحتلين.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 14/شباط/2013 - 4/ربيع الثاني/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م