إنحسار المد الامريكي

حاتم حميد محسن

ثلاثة كتب جديدة لكبار المعلّقين تستشرف الصورة التي سيكون عليها العالم بدون القيادة الامريكية.

الكاتب (Raymond Aron) وصف السياسة الخارجية للولايات المتحدة كسلسلة من "التأرجحات بين الروح التبشيرية والانسحاب نحو عزلة بعيداً عن عالم فاسد رفض الانصياع للانجيل الامريكي". بعد العربدة الصليبية لفترة بوش، بدأت الولايات المتحدة تحت حكم اوباما بالانسحاب من افغانستان وكذلك من العراق في ديسمبر من العام الماضي. عدد من الكتب الصادرة حديثاً تتسائل ما اذا كان هذا الانسحاب هو مجرد تأرجح اعتيادي كما وصفهُ (ارون) ام انه بداية النهاية للعصر الامريكي.

الكتّاب الثلاثة (روبرت كاجان) Robert Kagan و(زيجينيف بريزينسكي) Zbigniew Brzezinski و(آين بريمير) Ian Bremmer يتحدثون نفس القصة ولكن بطرق مختلفة، قصة ما سيكون عليه العالم عندما تنحسر موجة القوة الامريكية تاركةً مخلفاتها على الشواطئ (امراض الفترة الانتقالية، التي يموت فيها النظام القديم بينما النظام الجديد لم يولد بعد حسب تعبير انطونيو غرامسكي). ورغم ان الكتّاب الثلاثة لم يزعموا ان الانحدار مقرر سلفاً، الا انهم من اوائل المعلقين الذين عكفوا على الاهتمام بالعواقب المترتبة على عالم ما بعد امريكا.

(كاجان) يبدأ بإفتراض ان الانحدار الامريكي هو مسألة خيار، في كتابه الملفت (العالم الذي صنعته امريكا) يسعى الى اقناع مواطنيه ان لا يرتكبوا ما يسميه (انتحار القوة العظمى) وذلك عبر طرحه رؤية قاتمة لعالم خال من الولايات المتحدة. يصف (كاجان) الخصائص الفريدة من نوعها للعقود القليلة الماضية المتمثلة بغياب صراعات القوى الكبرى، وانتشار الديمقراطية وسيادة النظام الاقتصادي الليبرالي. هو ايضا يوضح ان العصر الذهبي الامريكي لم يكن ذهبياً ولا هو هيمنة كما يصفه البعض :"الولايات المتحدة ليست قادرة على نيل ما تريد وهي سوف لن تستطيع ذلك".

(كاجان) يرفض بقوة الافتراض القائل بان النظام الليبرالي العالمي هو نتيجة حتمية للتقدم الانساني الناتج عن التطور في العلوم والتكنلوجيا، وترابط الاقتصاد العالمي، وتعاظم قوة المؤسسات الدولية، وبروز"قواعد السلوك الدولي"والانتصار التدريجي للديمقراطية الليبرالية. (كاجان) يرى كل هذه الاشياء نتيجة وليس سبباً :"الفكرة الجيدة لا يُشترط ان تفوز فقط لكونها جيدة، انها تتطلب قوة عظمى للفوز بها ". طبقا لرؤية كاجان المبنية على العالم القائم على القوة، هو يرى من الخطأ الاعتقاد ان الهيمنة الامريكية نالت القبول لأنها كانت متجسدة في التحالفات والمؤسسات. الولايات المتحدة كثيراً ما رسمت خطوط التحالفات وخرقت القواعد التي وضعتها. بالنسبة لكاجان كانت الاسباب الرئيسية للامتثال الدولي لأمريكا هي سياسية وجغرافية: الامريكان كانوا دائماً متحفظين في ممارسة القوة وهم محظوظين في كونهم معزولين جغرافيا عن اسيا والشرق الاوسط واوربا، حيث تتنافس الدول على النفوذ. وبالتالي، كانت الدول في جميع تلك المناطق اكثر قلقاً بشأن لعبة القوة التي يمارسها جيرانها منه الى القوة الامريكية الضاربة.

يرى كاجان ان النظام الليبرالي العالمي اكثر هشاشة مما يتصوره الناس في الغرب ومن غير المحتمل ان يبقى بعد انهيارالقوة الامريكية. اذا كانت القوى العظمى الناشئة لا تحمل نفس القيم الامريكية، فهي سوف تبني العالم وفق تصوراتها الخاصة بدلا من ان تكون قوى"مسؤولة" عن دعم النظام القائم. هو يقارن النظام العالمي ببناية كبيرة تمثل القوة الامريكية يحيط بها اطار من المؤسسات الليبرالية ( هذه المؤسسات لا تمسك البناية وانما البناية هي التي تمسك بتلك المؤسسات).

يرى كاجان ان العالم المتعدد القطبية يحتمل جداً ان ينهار نحو شكل من العنف الذي تميز به القرن التاسع عشر في اوربا بدلا من مساندة نظام ليبرالي لم يوجده. رؤية كاجان هي احادية تعترف فقط باهمية القوة العسكرية.

اما (بريزينسكي) المستشار السابق للأمن القومي الامريكي فقد أضاف بعداً سياسياً لمناقشة القوة العالمية. هو كما كاجان، يبدأ بمحاولة إخافة قرائه الامريكيين بعرض مقارنة ملفتة بين الاتحاد السوفيتي في السنوات التي سبقت سقوطه والولايات المتحدة في بداية القرن الواحد والعشرين.

وعلى الرغم من اطالته في توضيح ما تبقّى من القوة الامريكية، الا انه يتّهم حكومة امريكا بالجمود الشديد والانفاق العسكري المفرط والتورط في افغانستان، والتعثر الاقتصادي والتكنلوجي، واتساع الفوارق الاجتماعية والعزلة الذاتية عن الشؤون الخارجية.

 (بريزينسكي) لم يقتنع فقط بدراسة التحول في القوى من الغرب الى الشرق. كتابه يلقي الضوء على النزعة الثانية وربما الاكثر عمقاً التي يسميها "الصحوة السياسية العالمية". (بريزينسكي) يدّعي ان القوة العالمية انتشرت عبر تحرير الناس حول العالم: في معظم التاريخ، عاشت الانسانية ليس فقط في عزلة اجبارية وانما ايضا في حالة من اللاوعي السياسي". بكلمة اخرى، معظم الناس في معظم الاماكن كان تركيزهم منصباً على البقاء المادي لدرجة لم يكونوا واعين سياسيا. ولكن ارتفاع مستويات المعيشة، وانتشارالتعليم الالزامي والانترنيت منحهم الادوات والرغبة في تشكيل مستقبلهم.

ان فكرة الصحوة السياسية لطالما رددها بريزينسكي وبعدة اشكال منذ ان كان طالباً في مرحلة الدكتوراه، وهي تعطي احد أعمق التوضيحات لما يحصل حاليا من احداث (الربيع العربي). العنصر الابداعي في كتابه الاخير هو توضيح ان اجتماع هاتين النزعتين – تحوّل القوى من الغرب الى الشرق وبروز الصحوة السياسية- هو الذي جعل من الصعب جداً الاحتفاظ بالهيمنة الغربية. يقتبس بريزينسكي مقطعاً من كتابه الاول (رقعة الشطرنج الكبرى): في المدى البعيد، ستصبح السياسة الدولية غير ملائمة لتركيز القوة العظمى بيد دولة واحدة. وعليه فان امريكا ليست فقط اول دولة عظمى وانما ستكون ايضا الاخيرة".

يذهب بريزينسكي بعيداً بهذه الفكرة بتبيان ان العالم الحالي لما بعد الكولنيالية، فيه يشترك المستيقظ الجديد " بقصة تاريخية تفسر حرمانه النسبي...واستمرار النواقص الفردية كميراث جماعي للسيطرة الغربية". ولذلك عندما تحصل تلك الدول على فرصة للديمقراطية (كما في مصر وتونس)، هي عادة تستعملها لتحرر نفسها من القيم الغربية بدلاً من تبنّيها.

ان وصفْ بريزينسكي لشكل العالم بدون هيمنة الولايات المتحدة هو اكثر تماسكاً من وصف كاجان. هو يكتب عن التدافع الما بعد امريكي بين القوى في كل اقليم وعن خطر عودة العالم الغربي الى المنافسة السياسية، وهو يطرح فكرة"الدول المُهدّدة جيبوليتيكياً" التي سوف تخسر استقلالها في عالم ما بعد امريكا مثل جورجيا وتايوان وجنوب كوريا وبيلوراسيا وافغانستان وباكستان واسرائيل.

اما (بريمير) في كتابه كل دولة لذاتها (Every Nation For Itself) فهو يعرض تنبؤاً مقنعاً لكيفية الدور الذي ستلعبه السياسة في عالم ما بعد امريكا. هو يؤكد ان الخطر لا يحيق فقط بقيم الديمقراطية الليبرالية او بأمن التحالف، وانما جميع المؤسسات التي تحكم كل شيء بدءاً من التجارة الدولية ومروراً بالمناخ وصولاً الى سلامة الانترنيت كلها في خطر. "هذا ليس نظاماً عالمياً" كما يقول، وانما "كل امة هي لذاتها، فاذا لم تعد مجموعة السبع G7 ذات اهمية ولم تكن هناك فائدة عملية من مجموعة العشرين G20، عندئذ لم يتبق لدينا سوى مجموعة الصفر G-Zero". ان (بريمير) بالاضافة الى استخدامه تعبيرات انيقة لوصف الديناميكية السياسية لفترة التحول الامريكي، هو يصف بالتفصيل العالم الذي لم تعد تمتلك فيه الولايات المتحدة المصادر او الشرعية في ممارسة القيادة ولكن مع بقاء القوى الناهضة غير مستعدة او غير قادرة على ملء الفراغ. هو يحدد الرابحين والخاسرين في مثل هذا العالم كالتالي:

مجموعة الرابحين تضم

1- الدول المحورية"pivot states" ذات التأثير الاقليمي والدولي مثل البرازيل وكندا وتركيا حيث تستطيع هذه الدول تكييف نفسها مع مختلف القوى.

 2- الدول الماكرة " rogue states"التي تمتلك صداقات قوية مثل كوريا الشمالية وايران وبورما، حيث تجد من السهل عليها الالتفاف على العقوبات.

3- المعسكر الخاسر يضم المؤسسات الدولية الداعمة للنظام العالمي الامريكي مثل الناتو والامم المتحدة ومنظمات برتن وودز بالاضافة الى الدول التي ترتبط مصالحها بقوة مع الولايات المتحدة كالدول المعرضة للتهديد (endangered states) حسب تعبير بريزينسكي او تلك الدول غير القادرة على بناء علاقات مع الاخرين مثل بريطانيا.

الكتب الثلاثة السابقة، بقدر ما هي ملفتة هي توضح ايضا المحددات والقيود على مناقشة السياسة الخارجية للولايات المتحدة. امريكا ربما هي موطن الحرية لكن البحث والنقاش في هذه المواضيع لم يكن حراً بما يكفي والتحليل فيها لم ينل من الجرأة ليتناول بصدق فكرة الانحدار ذات الخطورة السياسية الشديدة. جميع المؤلفين الثلاثة ذهبوا وبشيء من الاطالة ليبيّنوا ان الولايات المتحدة لا تنحدر بالمعنى المطلق ولا حتى النسبي. هم يستخدمون المؤشرات الكلاسيكية للاقتصاد والقوة العسكرية والتكنلوجية لإظهار ان الولايات المتحدة هي فريدة من نوعها حسب وصف بريزينسكي.

غير ان القوة تتصل ايضا بالانطباعات عن القوة ذاتها. في الفترة الذهبية للهيمنة الامريكية، كانت الدول الاخرى تتعامل مع الولايات المتحدة كقائد، تخضع لأحكامه جزئياً لكون تلك الدول تميل للمبالغة في تقدير القوة الحقيقية لأمريكا. اما اليوم، بدأ العالم يخفظ تقديراته لها. وبالتالي، بدا حلفاء امريكا من مصر الى تركيا حريصين على تمتين علاقاتهم الاستراتيجية الاكثر أهمية بينما يتجاهلون الرغبات الامريكية في عدد من القضايا الاخرى.

حتى في آسيا، وحيث لقي اوباما ترحيباً من دولها القلقة من اعتمادها المفرط على الصين الصاعدة، كان الافتراض الاساسي هو ان الولايات المتحدة تضمحل. ولكن بدلاً من ان يأخذ الكتّاب الثلاثة النزعات التي يصفونها الى استنتاجاتها المنطقية، نراهم يختارون عرض رؤيتهم كمحاولة لإعادة اختراع القيادة الامريكية لعصر جديد.

بالنسبة للقارئ الاوربي،هناك ثغرة كبيرة: دور اوربا في "العالم الذي صنعته امريكا". احدى اكبر القصص في الستين سنة الماضية كانت خلق نظام قانوني مستلهم من اوربا في هيكل النظام الأمني للولايات المتحدة. الحقيقة هي ان الاوربيين وليس الامريكيين هم منْ سمح للنظام الامريكي لينال "ليبراليته" الشرفية. الاوربيون هم منْ وقف لأجل حقوق الافراد وتحريرهم من اضطهاد الدول. هم منْ كان وراء خلق منظمة التجارة العالمية التي تتجاوز السيادة الوطنية حين تتصدى للحماية. هم منْ ضغطوا لإيجاد أجوبة مؤسساتية لمشاكل العالم بدءاً من المناخ وحتى التطهير العرقي.

ربما يقول البعض اذا كانت الولايات المتحدة هي رائد النظام الليبرالي، فان الاتحاد الاوربي كان محكمته الدستورية،كونه يمنح الشرعية للنجاحات التي حققها ذلك النظام للسيادة القومية. مع ذلك لا احد من المؤلفين تحدث عن هذه المبادئ التي اصبحت "مهددة جيبوليتيكيا"بنفس المقدار من التهديد الذي يواجهه التحالف الامريكي المثير لقلق بريزينسكي. وفي ضوء خلفيات ازمة اليورو، يتضح ان الكتب الثلاثة لم تذكر شيئا ايجابيا عن مساهمات الحكومات الاوربية الحالية. من المدهش ان لا احد من المؤلفين فكر بجدية حول نتائج الموقف الامريكي النفعي الخالص تجاه اوربا.

من المهم معرفة حتى لو كان النظام الليبرالي سينجو بعد انهيار الهيمنة الامريكية، فهل بامكانه البقاء في ظل هامشيته للنظام القانوني الاوربي. بمعنى اخر، لو نجا النظام الليبرالي من انحدار امريكا، فهل بامكانه ان ينجو من انحدار اوربا؟. هذا السؤال الذي يجب على الاوربيين الاجابة عنه- رغم المناخ الحالي من القدرية والانطواء، ومن غير المحتمل ان تنتج اوربا كتباً بنفس فطنة وطموح كاجان وبريزينسكي او بريمير.

.........................................

Mark Leonard هو مؤسس مشارك ومدير المجلس الاوربي للعلاقات الخارجية وهو مؤلف كتاب"ماذا تفكر الصين؟".

NewStatesman عدد 2 مايو 2012.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 14/شباط/2013 - 4/ربيع الثاني/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م