البيئة حاضنة التناقضات

رؤى من أفكار الامام الشيرازي

 

شبكة النبأ: أعطى سماحة الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، حيّزا مهما وكبيرا من الاهتمام بالبيئة، عبر عدد من محاضراته ومؤلفاته، لاسيما كتابه القيّم الموسوم بـ (الفقه: البيئة)، إذ طرح سماحته في هذا المؤلَّف، عددا من إشكاليات البيئة بأنواعها المتعددة، وطرح حلولا واقتراحات عملية غاية في الدقة وسهولة التنفيذ، فيما لو قرر المعنيون (الحكومات/ المنظمات العالمية والمحلية)، مكافحة الاضرار التي تنتج عن التعامل البشري الخاطئ مع البيئة.

وقد عرَّف الامام الشيرازي مفهوم البيئة في كتابه المذكور قائلا: ‘ن (البيئة بالمعنى العـام عبارة عـن مجموعة الظروف والمؤثرات الخارجية والداخلية، فالبيئـة المحيطة بأي كائن مـن إنسان أو حيوان أو نبات تشمل الظروف السلبية وتشمـل الآثار الطبيعية والكيماويـة والصحراوية والبحرية والجوية والنباتية والاجتماعية).

البيئتان الطبيعية والثقافية

اذن فالبيئة لا تعني الطبيعة والتضاريس والمناخ فقط، بل هناك بيئة ثقافية واخرى اجتماعية، وهكذا يمكن ان تتعدد البيئات وتمتد الى مجالات اخرى، لذا تشكل البيئة حاضنة لجميع التناقضات، البشرية منها او الطبيعية، علما أن البيئة الثقافية لها تأثيرها الكبير في صناعة المجتمع وطبيعة حياته ومساراته، إذ يقول الامام الشيرازي عن البيئة الثقافية: (نقصـد بالبيئة الثقافية المعرفـة والعقائد والعلـم والقانون والأخلاق والعُرف والعادة وما أشبه ذلك. بل ذكر جماعة من العلماء أن التفوّق العلمي والفكري هما من نتائج البيئة الثقافية).

وقد اثبتت التجارب أن الانسان لم يتعامل مع البيئة بطرق مناسبة، بسبب دوافعه النفسية وصفاته التي تميل الى الجشع والامتلاك، ونتج عن هذا التعامل الخاطئ مخاطر كثيرة، طالت حياة الكثير من البشر، وقد تتضاعف هذه الارقام والخسائر اذا بقي المعنيون يتعاملون مع البيئة وفق معايير لا علاقة لها بالانسانية، ولا تمت بصلة الى المبادئ والاخلاقيات والتعاليم التي دونتها الاديان، والافكار المتنورة للعلماء والفلاسفة المصلحين، علما أن الانسان يفهم ويعلم مدى التأثير البيئي الكبير عليه وعلى حياته حاضرا ومستقبلا، فهو يعرف كما يؤكد الامام الشيرازي في كتابه المذكور، أن: (للبيئة الطبيعية أثر كبير على حياة الإنسان، فمن كان يعيش بعيداً عن الشمس في طرف الشمال أو الجنوب ـ مثـلاً ـ حيث يبرد الهواء هناك ليصل إلـى ما يقارب الثلاثين تحت الصفر أو أكثر، نلاحظ أثر ذلك في أمزجتهم الباردة وأخلاقهم عادة، ونوعاً ما فـي أبدانهم. فعظمت أبدانهم وابيضت ألوانهم وانسدلت شعورهم. أما مَـن كان قريباً من خط معدّل النهار ومن خط الاستواء فإن أمزجتهـم تصبح حارة وبشرتهم مائلة إلى السواد، لكثرة تعرضهم لأشعة الشمس وربّما تغلظ شعورهم و مشاعرهم ليغلب عليها حدَّة الطبع في الجملة).

وهكذا ينبغي على الانسان أن يفهم البيئة بدقة، وأن يعرف بأنها حاضنة للتضارب واختلاف المسارات، وفي ضوء هذا الفهم يتعامل معها، بطرق لا تلحق الضرر بالبيئة، لأنها بالنتيجة ستعود عليه بخسائر وكوارث ربما لا تخطر على بال، وهنا يتصدر دور البيئة الثقافية امكانية توعية الانسان بصورة دقيقة، عن كيفية التعامل الصحيح، علما أن البيئتين الطبيعية والثقافية لهما تأثير كبير على الانسان وأنشطته كافة، يقول الامام الشيرازي في هذا الجانب: (إن البيئة الثقافية والطبيعية مؤثرتان في كل شيء من الإنسان، كما أن البيئة المناخية لها تأثيرها الكبير في شخصية الإنسان وطبيعته التكوينية، فيسهم المناخ بدور كبير في قدرات الإنسان على الحركة والعمل).

الاخلاص الحكومي والأهلي

يتضح من جميع الأدلة، أن الانسان أساء للبيئة، ولابد أن يقوم المعنيون بخطوات اجرائية عالمية، تضع حدا لخروقات الانسان ضد الطبيعة كأرض ومناخ ومياه وما شابه، فضلا عن أهمية البيئات المحايثة، وحتمية حمايتها وتطويرها، مثل البيئة الثقافية والاجتماعية والصحية، واتخاذ الاجراءات اللازمة للحد من انواع التلوث الخطيرة، التي اجتاحت الارض والانسان في العقود الاخيرة، لذا يتطلب الامر تخطيطا وتشريعا وتنظيما وتنفيذا دقيقا، يحدد التناقضات الخطيرة التي تحتضنها البيئة، وهو امر متعارف عليه، ثم اتخاذ الاجراءات المطلوبة من لدن المعنيين كافة، على أن يكون الاخلاص هو المهماز الاول لمواصلة العمل على صنع بيئة نظيفة ولائقة.

وهذا بطبيعة الحال يتطلب جهدا استثنائيا، تتبناه الحكومات والمؤسسات المعنية كافة، يقول الامام الشيرازي في هذا الخصوص بكتابه المذكور نفسه: (على الحكومات والجمعيات والمؤسسات والأفراد حماية الهواء من الملوثات وإيصـال نسبة التلوث إلى القدر الطبيعي الذي لا يضر بصحة الإنسان، وذلك بضبط مصادر التلوث مثل إنشاء أجهزة لتنقية الهواء من الغازات والجسيمات خصوصاً في الأماكن العامة كالمستشفيات والمدارس والدوائر الرسمية، ثم محاولة الاستفادة من العادمات ومعالجتها وإعادة استخدامها ثانية، والعمل على تطوير مصادر الطاقة النظيفة، وتطوير تقنية السيارات حتى لا تتسبب فـي تلوث الهواء واستخـدام بدائل أقل تلوثاً من البنـزين المستعمل في السيارات واستخدام مصادر جديدة للطاقة كالمصادر التي تعتمد على الهيدروجين أو على الطاقة الشمسيّة أو طاقة الأرض الحراريّة أو طاقة الرياح والأمواج).

بهذه الرؤية الواضحة والمفصلة، يطرح الامام الشيرازي حلولا دقيقة وبسيطة وسهلة التنفيذ، من اجل الحد من عبث الانسان بالبيئة، علما ان هذا العمل ينبغي أن يكون ذا طابع وتوجّه عالمي منضبط وملزِم للدول كافة، على ان يكون الاخلاص هو الفنار الذي يضيء الطريق لمن يسعى الى انتاج حياة تحفظ حاضر ومستقبل البشرية، يقول الامام الشيرازي حول الاخلاص في كتابه القيّم الموسوم بـ (الاخلاص سر التقدم): (إن الإخلاص في العمل ـ أيّ عمل كان ــ سيؤدي إلى الوصول إلى الأهداف المرجوة من ذلك العمل، بل هو أقرب الطرق وأكثرها استقامة إلى تلك الأهداف، لأنه طريق لا تعتريه عثرات الجهل، ولا يخيم عليه ظلام الشر، ولا يقود مرتاديه إلى مهاوي الردى والضلال).

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 11/شباط/2013 - 1/ربيع الثاني/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م