سفسطة الاقتصاديين

حاتم حميد محسن

قيل لا يمكن للاقتصاديين الاتفاق على مسألة واحدة. ذلك بسبب عدة عوامل يتعلق بعضها بطبيعة الاقتصاد كعلم مختلف عن العلوم الطبيعية. الاقتصادي لا يستطيع اختبار فرضياته عبر التجارب المختبرية التي يمكن التحكم بعناصرها في المختبر، بل هو يعمل في مختبر كبير هو المجتمع. فالعالم الذي يعمل به الاقتصادي شديد التعقيد لأن هناك عدة اشياء تتغير في وقت واحد. عالِم الفيزياء حينما يدرس اثر العامل (x) على (Y) يستطيع إبقاء العوامل الاخرى ثابتة اما الاقتصادي لا يستطيع ذلك.

انقسم الاقتصاديون الى فئتين متصارعتين مختلفتين جذرياً حول الطريقة التي تتم بها إعادة الاقتصاد العالمي الى مسار النمو الثابت بعد الازمة المالية الاخيرة.

نحن اما نتفق مع (بول كروجمان) Paul Krugman، استاذ الاقتصاد في جامعة برنستون الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2008 لعمله المتميز في نظرية التجارة، ومعه عدد من الاقتصاديين المناصرين بقوة للنظرية الكنزية، او اننا نقف بالضد منهم. فلا يوجد هناك خيار وسط.

ان غالبية الناس يساوون بين التفكير الكنزي وسيطرة الحكومة على الاقتصاد. اما الاقتصاديون الذين يستلهمون افكارهم من اليد اللامنظورة لآدم سمث فهم بمثابة المناصرين لفكرة المشروع الخاص والاسواق الحرة.

الفرق الحقيقي هو ان الكنزية التي تعود في جذورها للكساد الكبير في الثلاثينات من القرن الماضي انما هي مرتبطة بالاقتصاد الحالي: عندما يرى الكنزيون الحرائق فهم يسعون اولاً الى اطفائها ثم يطرحون الاسئلة لاحقا.

اما اللاكنزيون يعتقدون ان الحاضر مرتبط بشكل وثيق بالمستقبل، ومالم تتغير التوقعات بشكل دائم حول المستقبل فان محاولات التحسين والتأثير بالحاضر لن تجدي نفعاً. إخماد النيران في احد زوايا بناية محترقة لن يحول دون امتدادها الى الزوايا الاخرى.

ان العلوم الفيزيائية تستطيع البقاء مع وجود خلافات حادة في الرأي، حيث استمر النقاش القوي قرابة اربعة قرون حول ما اذا كان الضوء جُسيم ام موجة. ولكن بعد اختراع مصباح الضوء لتوماس اديسون لم نعد بحاجة للانتظار لحين انتهاء ذلك النقاش.

بالمقابل، الاقتصاد هو علم اجتماعي يخصص الموارد بين افراد المجتمع وكذلك بين المواطنين الحاليين واجيال المستقبل. ومع عدم وجود نظرية تبرر حرمان شخص ما والدفع للاخر، لم يعد هناك اساس للسياسيين المنتخبين كي يشرعوا السياسات.

الرئيس باراك اوباما مثلا في سعيه اليائس لتحفيز الاقتصاد، يواجه احد خيارين. هو بامكانه انفاق مليون دولار امريكي في بناء الطرق عن طريق فرض الضرائب على المواطنين، او اعطاء المواطنين مليون دولار عبر خصم مؤقت للضريبة. على الرئيس اوباما اختيار الطريق الذي يحقق اكبر انتعاش للاقتصاد. ولكن هل ان خفض الضرائب له تأثير مضاعف multiplier effect ((i اكبر من تأثير الانفاق الحكومي؟

من المؤسف ان لا يتفق الاقتصاديون على ذلك. في الحقيقة، ان الاقتصاديين البارزين مثل جون تايلور الذي عمل مع ادارة الرئيس بوش رفض عام 2009 ما اقترحه فريق اوباما الاقتصادي بان زيادة الانفاق الحكومي بنسبة 1% تؤدي الى زيادة الانتاج المحلي الامريكي بمقدار 1.6%. التأثير حسب رأيه اقل بكثير من ذلك.

حاليا ، يكتب مستر كروجمان في الـ نيويورك تايمز ويهاجم من موقعه الالكتروني كل منْ لا يتفق مع ارشادات كنز في مواجهة الكوارث الاقتصادية. وكلما تعمقت الازمة الاقتصادية كلما تزايد الاعداء له.

من بين خصوم كروجمان بول فولكر Paul Volcker الرئيس السابق للاحتياطي الامريكي الفدرالي الذي كتب مؤخرا بان الاحتياط الفيدرالي كان يزرع بذور التضخم المستقبلي. أجاب كروجمان: مخاطبا فولكر، من المؤسف ان اقول اننا نصارع السبعينات بينما نحن في الواقع نصارع الثلاثينات.

في السبعينات، واجهت الولايات المتحدة ركوداً تضخمياً مصحوبا بارتفاع الاسعار. حيث قام فولكر برفع سعر الفائدة الى 20% للحد من التضخم.

وعلى الجانب الاخر هناك - اللاكنزيون- الذين لا يعتبِرون هجوم كروجمن كذبا. يقول جون كوشرن John Cochrane الاقتصادي في جامعة شيكاغو" ان (بول) لا يقوم بعمله كما ينبغي. هو يُفترض ان يقرأ، يوضح وينتقد ما يكتبه الاقتصاديون من كتابات مهنية واقعية، لا الاكتفاء بالمقابلات او الردود في الويب".

ان الولايات المتحدة تندفع نحو ركود اقتصادي آخر، اوربا تصارع وسط انهيار الديون السيادية، الصين تتباطأ وبقية العالم تتوقع من الاقتصاديين إنارة الطريق. انظر الى النقاش التالي الذي جرى في اغسطس من العام الماضي بين كروجمن وكينيث روجوف الرئيس الاقتصادي السابق في صندوق النقد الدولي حسبما ورد في برنامج فريد زكريا في الـ CNN:

يقول كروجمن:" لو اكتشفنا ان سكاناً غرباء في الكواكب يخططون لمهاجمتنا ونحن نحتاج لبناء مشاريع ضخمة كي نستطيع التصدي لهم، ومع اعتبار ان التضخم وعجز الموازنة يأتيان في المرتبة الثانية لذلك التهديد، فان هذا الركود سينتهي في غضون 18 شهر".

أجابهُ روجوف:" وسنحتاج ايضا الى مسرحي بارز مثل اورسن ويليز Orson Welles ليذكر ما تقوله".

ردّ كروجمن: كلاّ هناك أحداث مشابهة لما ذكرت عرضتها مسلسلات تلفزيونية امريكية مثل Twilight Zone ". (ii)

الآن، اذا كانت هذه الحروب الدرامية حول تهديد سكان الكواكب كما قصها واخرجها ويليز أخافت الامريكيين بواقعيتها، نجد يقابلها وبنفس القدر من الدهشة حرباً اخرى بين الاقتصاديين. انها تصبح اكثر سخافة يوم بعد يوم. الجدال يسير حبيساً وفق نتائج لايمكن الحياد عنها وهي ان الناس ذوي الافكار التطبيقية لا احد يستمع لهم، الامر الذي يشكل خطورة كبيرة على السياسة.

ان الاقتصاد العالمي يعاني من مرض عضال، والاطباء يجادلون ما اذا كان جون ماينرد كنز صائبا في الافتراض بان الاستهلاك هو وظيفة للدخل الحالي ام ملتون فريدمن في فرضيته بان الاستهلاك يعتمد على احساس المستهلك بالدخل الدائم(iii).

المجتمع بشكله الأعم يشعر بالاحباط: جائزة نوبل في الاقتصاد يجب ان تُلغى. قد لا يحصل ذلك، ولكنه يجب ان يحصل، فالاقتصاديون لم يتركوا لنا خياراً آخر.

...........................................................................

الهوامش

 (i) يعتبر المتعدد او المضاعف من الافكار الهامة في الاقتصاد الكلي ويُستخدم لقياس حجم التغير في الدخل القومي استجابة للتغيرات في الانفاق المتراكم. ونسبة المتعدد تكون دائما اكبر من واحد. فاذا ارادت الدولة تحفيز الاقتصاد بانفاق مائة مليون دولار في بناء مصانع جديدة فان هذا الانفاق سيخلق طلبا بما يعادل مائة مليون دولار على السلع المنتجة وكذلك مبلغ مشابه كاجور اضافية للعمال وارباح للشركات. لن يتوقف الامر عند هذا الحد، فالعمال الذين يحصلون على دخل جديد من بناء المصانع سوف ينفقون جزء منه على شراء السلع الاستهلاكية ذلك يؤدي بدوره الى زيادة الانتاج وزيادة الطلب على العمال لمواجهة الطلب المتزايد. وهكذا مع كل زيادة في الانفاق الحكومي تزداد المخرجات وتزداد العمالة. فاذا كانت الزيادة الاولى للمائة مليون دولار خلقت زيادة في الدخل القومي بمقدار ثلاثمائة مليون دولار هنا ستكون قيمة المتعدد 3.

(ii) انظر The Straits Times عدد 6 اكتوبر 2011.

(iii) يرى كنز ان الانفاق الحالي يعتمد فقط على الدخل الحالي، فالفرد عندما يحصل على اجور عالية من عمله فهو سيزيد من الاستهلاك، وفي اوقات الركود سيقلل من انفاقه بسبب انخفاض دخله. اما بالنسبة لملتن فريدمن فهو حلّل سلوك المستهلك الحذر على مدى حياته، فهو اعتبر الفرد حذراً ينظر الى الامام ويفكر بالايام الصعبة فيضع الخطط على مدى سنوات حياته. هذا الفرد يجعل نفقاته مرتبطة مباشرة بمتوسط الدخل الدائم وان التغيرات في دخله الحالي لن يكون لها تأثير كبير على نفقاته الحالية ما لم تؤثر على توقعاته البعيدة المدى.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 11/شباط/2013 - 1/ربيع الثاني/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م