إن من يتطرق لأي موضوع في حياتنا المعاصرة في الادب أو الفن أو
الاقتصاد أو السياسة أو الاجتماع أو شؤون العشيرة أو شؤون الدين أو
العبادات أو الأديان أو المذاهب المقارنة أو حتى شؤون أسرته، لابد ان
يعرج على أحوال النفس ولايلبث أن يجد نفسه في مواجهة قضايا "النفس"،
أقصد بالتحديد قضايا النفس الانسانية وما ينتابها من هنات وإرهاصات
تنتهي بالنهاية أمام ظروفه وأحواله، وكيف ينظر الى تلك الامور، وكيف
يحللها، وكيف يغوص في أعمق تفصيلاتها، وفي النهاية وبعد أن ينتهي من
ذلك لابد له أن يبدأ منها وأن يبدأ بها.
وموضوعنا هذا يدور عن النفس وأحوالها واللاعنف كسمة ترتهن بالنفس،
كما هو العنف والسلوك العدواني، هذا التناقض بين اللاعنف والعنف هو في
الحقيقة صراع الحياة الذي تدور رحاه في أعماق كل نفس بشرية، صراع الهدم
والبناء، الفناء والبقاء، صراع إن تغلبت فيه قوى البقاء على الفناء كان
صرح البناء عالياً رغم كل الأعاصير والعناء، رغم أن كل إنسان ينشد
الأمل والغد المشرق والمستقبل البسام وإن اختلفت الأليات. فالنفس هي هي
في لجوئها للعنف والعدوان والنفس هي هي في لجوئها للاعنف والمسالمة.
ففي الخيار الأول "العنف" يرجح الإنسان غلبة قوى الهدم ويكون فيه
الخوف في الأعماق عاصفاً، مدمراً، حتى ليكاد يصبح شعار هذا الخائف
المذعور في أعماقه "من لم يقتل الناس يقُتل" وبذلك يكون قد اندفع في
سلوك العدوان ورجح كفة العنف على كفة العقل ويكون هذا الاندفاع في
عاصفة مجنونة شعارها القتل والتدمير وتترائى له صور عدة تنبع من أعماق
داخله وتصرخ فيه "فعل القتل إذن بقدر ما هو حماية للذات كما يعتقد، من
خطر يمثله الآخر ويهدد به إلا أنه في نفس الآن تحقيق لهذا الخطر وإثبات
له" لا مفر للقاتل من أن يرى نفسه مقتولاً في ذات القتيل.
أما اللاعنف فيعرف بأنه السلوك الذي بوساطته أن يعالج الانسان
الاشياء والمواقف سواء كان بناءً أو هداماً بكل لين ورفق كما يقول
السيد محمد الحسيني الشيرازي، وهو أيضاً السلوك الذي يبتعد فيه الانسان
عن سلوك الإفتراس وبه يفطن الإنسان إلى إنسانيته وحقيقته ككائن بشري
وليس كائن حي فحسب. فالإنسان باللاعنف يواجه نفسه ويخوض غمار أعنف
المعارك قاطبة، معركة إكتشاف الإنسان نفسه، فيواجه نفسه. هو في الحقيقة
جهاد لكشف طبيعة النفس البشرية، ويكون بذلك قد استطاع أن يوقن
بإستخدامه طريقة التعامل بسلوك اللاعنف إنه وقع على سر من أعظم أسرار
الطبيعة البشرية وتعامل تطبيقيا معها.
أما "النفس" وكلنا نعرف ما هي النفس وما هو نفسي، فهو كل ما يتعلق
بأصول ومسببات نفسية وليست عضوية ويضيف علماء النفس ايضا بقولهم يختص
المفهوم النفسي بظواهر تعود مسبباتها الى الحالة النفسية للفرد وقد
تبدو مظاهرها في سوء التوافق أو نقيضه على المستوى النفسي أو النفسجسمي
وهذا يشير إلى وحدة الفرد كظاهرة متكاملة.
إن الانسان في مسعاه لإكتساب الجديد واستبدال الحديث من التكنولوجيا
ومواكبة التطورات في أجهزة الاتصالات التي استفاد من قوانين
التكنولوجيا وطوعها لخدمته باستخدام تكنولوجيا البث والتواصل
التلفزيوني وما بعده بنقل ما يريد أن يراه أو يشاهده أو يتواصل معه فهو
أيضا الذي يختار مضمون إستمرار وجوده في الحياة، هذا المضمون هو الجانب
الانساني الخالص في الحياة، إذن العالم صار انسانياً بهذه التكنولوجيا
حيث اضافت لغة الاتصالات بُعداً إنسانياً عندما اخضع الإنسان الطبيعة
وعلوم التكنولوجيا وتطورها المذهل لصالحه، إذن يمكننا القول إن العالم
صار إنسانياً وابتعد عن سلوك التوحش، وبهذا صار العالم الإنساني أشبه
بأداة يقيس من خلالها التحضر وهو مبلغ ما وصلت له الإنسانية من إرادة
وإبداع وحرية، وفي نهاية المطاف تحمل الإنسان مسؤولية جديدة بسبب تحضره
هذا، صار الإنسان مسؤولاً عن عالمه بكل أجزاءه وتفاصيل الحياة فلماذا
إذن يلجأ إلى أساليب العنف، كان يلجأ للعنف عندما كان خائف من الآخر
حتى وإن كان حيوان او هيجان الطبيعية وكوراثها، اصبح العالم بفضل
التكنولوجيا ان يسيطر على ما يخيفه.. عليه أن يلجأ الى تغيير اساليبه
لمقاومة العنف، وأن يلجأ إلى اللاعنف كأسلوب في حل المشكلات.
إن القاتل "صاحب السلوك العنيف" رفض الإعتراف بالآخر وبندية الأخرين
وهو أساس منشأ ذلك التكوين الذي لا يمكن إلا أن يكون وعياً ممزقاً
شقيا. وعياً يحمل في ثناياه بذور ذلك الشعور بالعظمة والإضطهاد، وجهين
متناقضين متحدين ضروريين لشيء واحد، إنه يشعر بالقوة عبر العنف والقتل،
ويشعر مع غيره بأنه الأدنى والأحقر لانه لا يؤمن بالقوة والعدوان كسلوك
موصل لحل النزاعات مع الآخرين.. مع الأغيار.. مع المقربين..ويكون كل
إنسان ند له، يضمر له السوء.. ولسان حاله يقول : إنه يكرهني.. لا أحد
يحبني، فيلجأ لفعل العنف معتقداً إن بالعنف يحاول حماية الحياة.
إن من يمارس العنف مع الآخرين وخصوصاً (القاتل) الذي يرى نفسه
قتيلاً في ضحيته، هنا يستمر في فعل القتل وكأنه بذلك يهرب من صورته
مقتولاً من ضحاياه كما يقول "د.فرج أحمد فرج" ومن هنا نجد تفسير ذلك
القهر الذي لا يجد القاتل منه فكاكاً أن يستمر في القتل وفي سلوك العنف
كي لا يقُتل، ومع تزايد ضحاياه يتزايد خوفه من الثأر والإنتقام، وهذا
ما نلاحظه في حكام الدول الدكتاتورية التي توغل بالقتل والتصفيات فما
ان يحدث التغيير حتى يلوذ هارباً باحثا عن ارض تأويه، أو حتى بعض
الحكام الذين وصلوا بإنتخابات مشكوك فيها ومارسوا السلطة بقسوة مع
معارضيهم وأذاقوهم الويلات فما أن قاربت ولايته من الانتهاء راح يبحث
عن تمديد او تغيير قسري في الدستور لانه يحمي نفسه بهذا الحصن المنيع
وهو السلطة.
إن قضية الديمقراطية ترتبط بسلوك اللاعنف ارتباطاً مباشراً، ولكن
حينما تنحدر من قانون الشريعة إلى قانون الطبيعة تصبح المصالح الخاصة
للحزب أو للشخص ذاته أو للجماعة ولا يخدم بها الانسان، بل يخدم مصالحه
وغرائزه "غريزة التملك والبقاء في السلطة" فالانسان هو الكائن الوحيد
الذي يخضع هذه الطبيعة كلها للشريعة، للعقيدة التي يؤمن بها، للقانون
الوضعي الذي يخدمه هو وحده ويسترشد بقانون الطبيعة لانها تتيح له
استخدام العنف، أما قانون الشريعة فيتيح للانسان استخدام اللاعنف،
فباللاعنف وهو الطريق المضني والشاق للانتقال من الطبيعة الحيوانية إلى
الشريعة الإنسانية، يستطيع ان يصل إلى الصحة النفسية في الفرد والمجتمع
معاً، إنه مشروع الوجود الفردي – الجمعي، الآني والمستقبلي في الحكم
بالديمقراطية وفي التعامل الفردي الإنساني.
إن إنكار الإنسان لمبدأ اللاعنف واستخدامه نقيضه هو تجريح لإنسانية
الانسان ولا نغالي إذا قلنا إنه السقوط حتى يصبح سفاحاً مغتصباً، فلا
ديمقراطية لأي إنسان دون الإحتكام لمبدأ اللاعنف، ولا ديمقراطية إذا
فقد الإنسان القدرة على لغة الحوار والانصات ومن ثم القدرة على الكلام.
* استاذ جامعي وباحث نفسي
elemara_32@hotmail.com |