لطالما مررت وأنا في النادي الرياضي القريب من منزلنا شمال غرب
لندن، على الصالة الملحقة بالقاعة الرياضية، وشاهدت من خلف الزجاج
أناساً وهم يمارسون رياضة اليوغا التي تجمع بين الرياضة الجسدية
والروحية، فقررت ذات يوم أن ألج هذا العالم، فكان لي ذلك، وقبل الشروع
في الحصة الأولى سأل المدرب عن المتعلمين الجدد فرفعت يدي، فعقّب
المدرب موجهاً الكلام لي ولأمثالي الذين حلّوا ضيوفاً جدداً على
مملكته، بأن بعض الرياضات فيها شد عضلي يعقبه استرخاء، ولذا ليس
مطلوباً من المتمرنين الجدد مجاراته فيما يفعل، فالأمر بحاجة الى
ممارسة مع الزمن، فأخذت النصيحة على محمل الجد، وعندما شرع وشرعنا
وانتهى وانتهينا بعد ساعة من الزمن توجّه إليَّ مباشرة وسألني باستغراب
كيف تسنّى لي أداء التمارين وبعض الحركات التي تتطلب انحناءً شديداً
للجسد رغم ترهل بطني، وحداثتي على هذه الرياضة، فقلت له: أعرف مورد
استغرابك، ولكن بعض الحركات التي تراها معقدة بالنسبة للبدين مثلي
والجديد على هذه الرياضة هي أسهل من السهولة بالنسبة لي لأني أمارسها
منذ وعيت على الحياة وقبل بلوغي الجسماني، وممارستي لها يومية وفي خمس
مناسبات وجوبية وفي غيرها طوعية، ثم أفصحت له عن ديني وشرحت له باختصار
خطوات الصلاة اليومية للمسلم التي تنطوي على القيام والركوع والسجود
والجلوس وما فيها من الخشوع للرب، وعندها انكشفت له حقيقة أدائي لبعض
الحركات التي يصعب الإتيان بها من غير تمرين مستمر.
وبالطبع هناك ممارسات يومية غير الصلاة لها القدرة على خلق المطاوعة
في أعضاء جسد الإنسان مما يجعله قادراً على الإتيان ببعض حركات رياضة
اليوغا دون أن يحضر عند أشهر مدرب وأبرعهم، وبغض النظر عن كون الممارس
مسلماً أو غير مسلم، من قبيل تناول الطعام من جلوس ملتصقاً بالأرض،
والدراسة في حضرة الأستاذ من جلوس، والعمل من جلوس، فمن اعتاد على مثل
هذه الممارسات وما شابهها سهلت عنده رياضة اليوغا.
لم يستمر الأمر معي في اليوغا سوى حصتين ولساعتين فقط وكان ذلك عام
2010م، فلم أجد فيها ما يغريني لإزاحة طوق الزوائد اللحمية والشحمية
الذي يحيط بخاصرتي، صحيح أنِّي كسرت من حلقاته 35 كيلو خلال ستة أشهر
أبدلت خلالها ملابسي على دفعتين لمواكبة التغيرات الجسمانية، لكني أعدت
إليه عشرين حلقة بعد سنة من العزوف عن حضور دروس الرياضة الجسمانية،
جعلني أعيد شراء الملابس بالمقاسات الأكبر وعلى دفعات!، وهو اختبار
للتخسيس لم أوفق لمواصلة مشواره، مع هذا وذاك لم أفقد قدرة أداء حركات
اليوغا حتى وإن لم أمارسها عند الأستاذ، لأن الحضور اليومي في محراب
الصلاة لا يعادله حضور والمقارنة معدومة أساساً.
ذكريات تخسيس الوزن فتحت نوافذه قراءتي لآخر مطبوع وقع في يدي وهو
كتاب (شريعة السجود) في 64 صفحة من القطع الصغير للفقيه آية الله الشيخ
محمد صادق الكرباسي الصادر عن بيت العلم للنابهين ببيروت في العام
1433هـ (2012م)، وهو واحد من نحو ألف عنوان تعاهد المؤلف على كتابة كل
عنوان صبيحة كل يوم جمعة بشكل عام، فتكون لديه حتى الآن أكثر من 400
مخطوط في الشريعة تنتظر الطباعة تباعاً، ناهيك عن انشغاله في دائرة
المعارف الحسينية وفي غيرها من التأليفات والمشاريع الثقافية.
وكلٌ يسجد
السجود من حيث اللغة هو الخضوع ومن حيث الإصطلاح هو ملاصقة المواضع
السبعة بالأرض من الجبهة وباطن الكفين وأطراف القدمين والركبتين،
وأظهرها مصداقا مباشرة الجبهة بالأرض، وتأسيسا على هذا الفهم اللغوي
للسجود فما من مخلوق في الوجود إلا وهو ساجد للخالق، وفي نطاق الكرة
الأرضية وحصراً بالإنسان، فالكل هو ساجد لله من مؤمن أو كافر أو ملحد،
وهو السجود التكويني الذي لا محيص منه، فمن استطاع أن يخرج من مملكة
السماء وقوانينها وموازينها فيكون خارج تعريف السجود والخضوع، وحيث لا
أحد يشذ عن القاعدة الكونية التكوينية مهما بلغ من العلم وعلت أرنبة
أنفه، فالكل في مملكة الرب يخضع والكل على عتبة الإله يسجد، فلا يمكن
قطع العلاقة بين الخالق والمخلوق بين ممكن الوجود وواجب الوجود، وهذا
الفهم يؤكده الفقيه الشيخ حسن رضا الغديري وهو يقدم لهذا الكتيب ويعلق
عليه في 38 تعليقة، وذلك بقوله: (فكل موجود خاضع لله تعالى وساجد له
بوجوده وبموجوديته وإن كان هو غير ملتفت إلى ذلك كما هو الحال في عموم
الكفار والملحدين وحتى عبدة الأصنام، فالموجود بما هو هو خاضع ساجد،
وهذه هي السجدة التكوينية).
وإلى جانب السجدة التكوينية المتحققة في كل مخلوق شاء أم أبى كما
قال تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي
الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ)
سورة النحل: 49، وقوله تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ
وَالآصَالِ) سورة الرعد: 15، تتحقق السجدة التشريعية العبادية لكل من
آمن بالخالق بغض النظر عن الكيفية وجزئياتها، وفي الحديث النبوي الشريف:
(أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد)، وفيها إظهار للنعمة والشكر
عليها والإلتصاق بالأرض التي منها خلقنا الله وإليها عودتنا، وكما قال
تعالى في محكمه كتابه: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ
وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) سورة طه: 55.
من هنا يكون أبلغ السجود هو وضع الجبهة على الأرض مباشرة وتماس
الأنف بسطح الأرض، وبتعبير الفقيه الكرباسي وهو يمهد للكتيب معللا
فائدة السجود: (بل يزيد ليرغم أنفه بالتراب، ذلك العضو الذي طالما يضرب
به المثل في الكبرياء والعظمة) وهذا المعنى هو ما يؤكده الإمام جعفر
الصادق(ع) وهو يعلل السجود على التربة مباشرة بقوله: (السجود لا يجوز
إلا على الأرض أو ما أنبتت الأرض إلا ما أكُل أو لُبس، لأنَّ السجود
وهو الخضوع لله عزَّ وجل، فلا ينبغي أن يكون ما يؤكل ويُلبس لأنَّ
أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون، والساجد في سجوده هو في حالة
عبادة الله تعالى، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء
الدنيا الذين اغترّوا بغرورها، والسجود على الأرض أفضل لأنّه أبلغ في
التواضع والخضوع لله عز وجل).
بين سجود وسجود
يتابع الفقيه الكرباسي في 111 مسألة تفاصيل شريعة السجود وأحكامها،
والسجود على أنواع فهناك سجدة الصلاة والسجدة عن السهو في الصلاة
والسجدة أداءً لشكر الله والسجدة لسماع واحدة من آيات العزائم في
القرآن الكريم، والسجدة لتعظيم الآخر.
ويختلف الأمر بين سجود وسجود، فمن الناس من يسجد للخالق تعبداً
ومنهم يسجد للمعبود تعظيماً وآخر تكريماً وثالث تمجيداً، ورابع شكراً،
وهكذا، وفي كل الأحوال لا يصح إلا السجود للمعبود وإن كان ظاهره السجود
للعبد كسجود الملائكة لآدم، وسجود يعقوب وزوجه وبنيه ليوسف، وسجود
الزائر على عتبة المعصوم، فلم يكن سجود الملائكة تعبداً وإنما: (كان
منهم طاعة لله وتحية لآدم) كما قال الإمام علي بن الحسين السجاد(ع)،
ولم يكن سجود يعقوب(ع) وولده تعبّداً، وإنما كان: (شكراً لله باجتماع
شملهم) كما أكد الإمام السجاد(ع)، ومن ذلك كما يقول الفقيه الكرباسي في
المسألة الأربعين: (السجود الذي يقوم به بعض المؤمنين في العتبات
المقدسة هو من الشكر لتوفيقه لزيارة مراقد المعصومين(ع)، وإن نوى
السجدة للمعصوم فهو حرام بل هو من الكبائر)، فهي من التعظيم لصاحب
المرقد الذي أذهب الله عنه الرجس وطهّره تطهيراً، وبتعبير الفقيه
الغديري وهو يعلق على المسألة: (ويمكن القول بأنها سجدة تعظيمية ولأجل
حرمة صاحب المرقد الشريف، ولا بأس بذلك شرط أن لا يكون فيه عنوان
التعبد، وإلاّ فيحرم قطعاً، وأما إذا صار العمل مورداً للشبهة فالأحوط
تركه)، وهنا أميل إلى ما يذهب إليه الشيخ الغديري في الترك خشية الوقوع
في الشبهات بخاصة وأنّ الزائرين من طبقات مختلفة فيهم المتعلم وغير
المتعلم، ويستحسن توجيه الناس إلى حسن الزيارة بغلق باب الشبهات.
ولأنّ الأرض أقرب الموارد لبيان الخضوع، ومن الخضوع الشكر والتمجيد،
فإن الناس اعتادت على السجود في السراء والضراء، فمن تلمّ به مصيبة
ينزل إلى الأرض ساجداً داعياً، ومن طرقت الفرحة باب قلبه نزل ساجداً
شكراً، ومن ذلك سجود الرياضي عند الفوز أو تسجيل اللاعب الكرة في شباك
الخصم، أو سجود العائد إلى الوطن بعد غياب طال أو قصر، وفي معظم
الأحيان يصاحب السجود تقبيل الأرض أو العتبة، فكلها من الشكر، وكما
يقول الفقيه الكرباسي في المسألة 54: (السجود الذي يقوم به بعض الناس
عند الوصول إلى الوطن فهو من السجود لله شكراً على الوصول بالسلامة إلى
أرض الوطن، وما يفعله البعض من دون الإنتباه إلى وجه الشكر فهو من
الشكر أيضا حتى وإن أصبح عادة)، نعم: (السجود للملوك والشخصيات
والعلماء والمؤمنين محرّم بل إذا نوى العبادة فهو شرك، حيث إنَّ السجود
لله وحده، ولا يجوز السجود لغيره تعالى) كما يرى الفقيه الكرباسي، نعم:
(ويستثنى منه السجود للتعظيم والتكريم إذا قلنا بجوازه، ولكن الأمر
المتيقَّن أنَّ مثل تلك الأعمال تنجرّ إلى الشرك بالله، فالأفضل أن
يُجتنب عن مثلها، وحاشا أن يسجد إنسانٌ لإنسانٍ آخر مهما كانت شخصيته
عالية ومتعالية من حيث العلم والكمال والجاه والجلال، فالسجدة تختص
بالله تعالى وليس للسجدة التعظيمية مجال واسع غير محدود وفيه شرط أساسي
هو عدم قصد التعبد وحتى شائبته، وإلا فيحرم من دون شك، وكثيراً ما نرى
أن الإفراط في هذا يجرّ الإنسان إلى جانب التعبّد ولو من حيث لا يشعر
بذلك في نفسه) كما يقرر الفقيه الغديري في تعليقه على المسألة.
في الواقع لا يدرك معنى السجود إلا من أتى بها على حقيقتها المادية
والمعنوية الجسمانية والنفسية، وهي كما يقول الإمام علي بن أبي
طالب(ع): (السجود الجسماني هو وضع عتائق الوجود على التراب، واستقبال
الأرض بالراحتين والركبتين وأطراف القدمين مع خشوع القلب وإخلاص النية،
والسجود النفساني هو فراغ القلب من الفانيات، والإقبال بكنه الهمَّة
على الباقيات، وخلع الكبر والحميّة، وقطع العلائق الدنيوية، والتحلي
بالأخلاق النبوية)، وقد دلّت الأبحاث الأخيرة أن السجدة المباشرة على
الأرض تعمل عمل المفرغة للشحنات الكهربائية الزائدة والمضرة، وفي هذا
الصدد يقول الدكتور محمد ضياء الدين حامد رئيس قسم تشعيع الأغذية
بالهيئة المصرية للطاقة الذرية في مدينة نصر بالقاهرة: (في السجود
تنتقل الشحنات الموجبة من جسم الإنسان إلى الأرض التي تعتبر سالبة
الشحنة وبالتالي تتم عملية التفريغ خاصة أن الإنسان عند السجود تكون
هناك سبعة أعضاء ملتصقة بالأرض كما يقول الرسول الله صلى الله
عليه-وآله- وسلم إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب أي أعضاء وجهه وكفاه
وركبتاه وقدماه وبالتالي هناك سهولة في عملية تفريغ الشحنات حيث يتخلص
الإنسان بعدها من الصداع والإرهاق وكل الأمراض التي ذكرناها)، ويضيف
الدكتور محمد ضياء الدين حامد العضو في الجمعية المصرية لعلوم وأبحاث
الأهرام والإعلام الصحي في حديث مع مجلة (شمس النيل) الخاصة بالجمعية:
(تبين لي من خلال الدراسات أنه لكي تتم عملية تفريغ الشحنات بطريقة
صحيحة لابد من الاتجاه نحو مكة في السجود وهو ما نفعله في صلاتنا لأنَّ
مكة هي مركز اليابسة في العالم أجمع كما يقول الله تعالى "وَكَذَٰلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ
وَمَنْ حَوْلَهَا" الشورى: 7، وأوضحت نتائج الدراسات أنَّ الإتجاه إلى
مكة في السجود وهو أفضل الأوضاع لتفريغ الشحنات وتخليص الإنسان من
همومه ليشعر بعدها بالراحة النفسية إلى جانب أن أماكن السجود في كل
أنحاء العالم ثابتة إذا تم الاتجاه إلى مكة).
وهذه حقيقة شرحها المحقق الكرباسي في الجزء الأول من كتاب أضواء
على مدينة الحسين: 1/124- 127، وهو يتحدث عن خطوط الطول والعرض وموضع
مكة منها، فمكة المكرَّمة هي: (أول نقطة دحا الله الأرض منها وهي رمز
الوجود الأرضي حيث روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في جوابه على من
سأله لماذا سميت مكة؟: "لأنّ الله مسك الأرض من تحتها أي دحاها"، وقال
الإمام الحسن العسكري عليه السلام: "فلما خلق الله الأرض دحاها من تحت
الكعبة ثم بسطها على الماء فأحاطت بكل شيء")، ثم إنَّ زاوية الإنحراف
المغناطيسي عند مكة تساوي صفراً كما إنَّ خط الإستواء الحقيقي يمر من
مكة وهي وسط المعمورة (اليابسة)، ولذا جاء وصفها بأنها أمّ القرى ومن
حولها.
من هنا ندرك مغزى السجود، وأهميته في الحياة اليومية للإنسان بخاصة
وأن الإنسان يتقلب بيد الحياة بين الأفراح والأتراح، بين انقباض الروح
وانشراحها، وفي كلتيهما تنشدَّ النفس إلى السجود لتفريغ ما في القلب
وعرضه على الذي هو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، وتفريغ الشحنات
الجسدية على الحاضنة التي منها وإليها يعود الإنسان، فالطبيب الحكيم
تحت أقدامكم فأين تذهبون!
* الرأي الآخر للدراسات- لندن |