لقَدّ انتقَلَ نِظَامُ الدّولةِ في العراق، مِنْ دوّلةِ القوّة إلى
دوّلةِ الدّيمقراطيّةِ. والمفارقةُ الكبيرة، أنْ أصبحتْ إدارة مؤسسات
الدّولة الدّيمقراطيّة، بيَدِّ أشخاصٍ يتصوّرن أنَّ عِلْمَ السّياسةِ
والإدارةِ وفنونيّهما، تَكْمِنُ في بيروقراطيّة الإدارة. فيَصْدِقُ من
يقول أنَّ العراق، دَوّلَة ذات نظام ديمقراطيّ، لكنّها تُدار بإدارات
بيروقراطيّة غير منسجمة مع بعضها بامتياز. وبكلمةٍ أخرى؛ أنَّ نِظَامَ
الحُكْم في العراق ديمقراطيّ، لكنْ بدون قيادَاتٍ ديمقراطيّة.
فالدّيمقراطيّة وفق النّظرة الحديثة لها، تختلف عن النّظرة
الكلاسيكيّة السّائدة عنها، على أنّها الحُكْم بإرادة الشعب. فالمنظور
الحديث لها يعتبرها، نمط معيّن لممارسات مدنيّة واسعة، تشمل جوانب
كثيرة من حياة الفرد والمجتمع. فهي حزمة من القوانين، لتحقيق المصالح
المشروعة والتعاملات الإيجابيّة، بيّن الفرد والمجتمع والدّولة. فأصبحت
الدّيمقراطيّة، نمطاً محدداً لنظام إجتماعي متكامل. وتَجدُر الإشارة،
أنّ الأنظمة الدّيمقراطيّة المتطوّرة في العَالَمْ، تمُرّ بعمليّات
إصلاح وتطّوير وتعديلات مستمرّة وفّق آليات قانونيّة، مِنْ أجلِ
مواكَبَةِ تطوّر الحَياة، واحتياجات المُجتمع ومُتَطَلَباتِه.
كمَا أنَّ عمليّةَ الإصلاح، لا تختَصُّ بالنظم الدّيمقراطيّة فحسّبْ،
وإنّما تحتاجها حتى أنظمة الحزب الحاكم والأنظمة الآيديولوجيّة. فمثلاً
شَهِدَ الإتحاد السّوفييتي، في فترة حكم (ميخائيل غورباتشوف/ 1988 -
1991)، عملية اصلاح كبرى، أُطلِقَ عليها بالرّوسيّة أسم (البيريسترويكا)
أي (إعادة البناء). أدّت إلى تغيّير السّياسة الإقتصاديّة للإتّحاد
السّوفييتي، وتحويلها من الاقتصاد الاشتراكي إلى الاقتصاد الحُرّ،
بطريقةٍ مُتسلسلةِ المراحل، ومتدرجةِ الأطوار.
إنَّ بعضَّ السّياسيّين العراقيّين، المُشتَرِكين في قيادة العمليّة
السّياسيّة، لا يُدركون أهميّة الإصلاح في الدّولة، أمّا بسبب نقّص
الخبرة أو لعدم إدراك أهميّة الإصلاح، أو بسبب الإنسياق وراء الإرادات
الخارجيّة، المؤثرة في العمل السّياسي الذي يمارسونه. لقَدّ أُهمِلَتْ
عمليّة الإصلاح في الدّولة الدّيمقراطيّة العراقيّة، على مدى سنين
متواصلة. وانشغل السّياسيّون، في دوّاماتِ الصّراعاتِ السّياسيّة.
وأصبح المواطن العراقي الطرف الأكثر تضرراً، في ظلّ النّظام
الدّيمقراطي الجَديدْ.
وعمليّة الإصلاح يجبُ أنْ تخضعَ لمعياريّة خاصّة، يتمّ الحكم
بموجبها على مَدَيات نجاح عمليّة الإصلاح. ذلك باعتماد منهجٍ علميّ،
يعتمد على البيانات والمِسُوحات الميّدانيّة، قبل وبعد عمليّة الإصلاح.
حتّى يقيّم أداء العمل السياسي، سواءً كان على المستوى الفردي أو
الجماعي. للوصول إلى نتائج ملموسة، بموجبها يكون الحكم على نجاح أو
فشل، النّشاط السّياسيّ الخاضع للبَحث. وفي هذا المجال، يجبُ تحديد
ثلاثة عناصر، تتحكّم في نجاح أو فشل العمليّة السّياسيّة هي:
1. عنصر الزمن، (مدة تطبيق العمليّة السّياسيّة على أرض الواقع).
2. المُدخَلات، (وهي الحاجات والمطالب والخدمات، التي يحتاجها الفرد
والمجتمع).
3. المُخرَجَات، (وهي المُنجزات التي تمّ تحقيقها، من قبل السياسي
(فرداً أو فريقاً)، خلال مدّة تولي المسؤوليّة).
كذلك المَنّطِق العلميّ يؤكدُ، بأنَّ عمليّة إصلاح الدّولة، لابدَّ
أنْ تتولاها الحُكومة، وتفرضُها بقوّة السُلطة. والسُلطةُ تحتاجُ
لتشريعاتٍ قانونيّةٍ حتّى تستمدّ مشروعيّة قوّتها مِنْ تفويضِ القانون
لها. فوجود الدّولة يرتبط بوجود الحكومة، والحكومة لابدّ لها من أنْ
تُمارسَ السُلطة لحفظِ كيَانِ الدّولة. (سُلطة الدّولة التي تقوم
الحكومة بممارستها، وهي سلطة مطلقة تعتمد على القانون والقوّة معاً،
وهي سلطة هرميّة تُمَارَسُ بواسطة مؤسّسات وأجهزة تشريعيّة وتنفيذيّة
وأمنيّة وعسكريّة، وسُلطة عامّة مُلزِمَة لكلّ أفراد وجماعات مجتمع
الدّولة..... إنّ سُلطة الحكومة هي تجسيد لإرادة الدّولة، وتعبير عن
سيادتها بصرف النظر عن شخصية الحكّام، الذين يمارسونها.)(مبادئ علم
السياسة/ د. نظام بركات وآخرين ص/ 191).
إنّ صناعة الأزمات السّياسيّة في العراق، وتكبيل سُلطة الحكومة،
عمليّة مقصودة ومدّروسة. تخطّط لها جهات أجنبيّة، كمشروع لإعاقة إصلاح
أوضاع العراق. ويُنَفِّذُ هذا المخطّط بعض السياسيين العاملين في
الحكومة. من جهة ثانيّة أنَّ هناك بعداً آخر يقف وراء هذه الأزمات،
يتضمّن صفحة من صفحات الحرب النّفسيّة، الموجّهة ضدّ العراقيين. فهذه
الحرّب المُنَسّقَة والمدروسة، تحاول غسل أدمغة البسطاء من العراقيين،
وهم يشكّلون السّواد الأعظم مِنَ الشّعب العراقي، لغرض شلّ تفكيرهم
واعاقته عن إدراك الحقائق، وجعلهم ينساقون بشكل جماعي، وراء التصوّرات
والأفكار، التي يَرسِمُها سياسيو الأزمات، وتسوّقها لهم أجهزة إعلاميّة
متخصّصة. ولا يحسَبَنَّ أحدٌ أبداً، أنَّ مَا حصَلَ سابقاً ويَحصلُ
الآن في العراق، هو بِحُكّم محضّ الصّدفة. إنّه جهد يُدَبَّرُ بتخطّيطٍ
مُحّكَمٍ، تَنسِجُ خُيوطَهُ مراكزُ أبحاثٍ ودراساتٍ متخصّصةٍ، في
التّخطيطِ السّياسيّ والاقتصاديّ والاستراتيجيّ، مِنْ داخلِ المنطقةِ
وخارجها.
ولا بُدَّ مِنَ الانتباه، بأنَّ الصّراعات بيّن السّياسيّين، تنسحبُ
تأثيراتُها على الرأي العامّ، بمظهريّن شديديّ الخطورة. الأوّل؛
الاحتقان الطائفيّ والقوميّ، والثاني؛ تدمير ثقة المواطن بالعمليّة
السّياسيّة، وتشّتيت ذهنه حتّى يصبحَ عاجزاً، عن اتخاذ أيّ موقف صائب،
تجاه ما يدور حوّله. وفي كلّ الأحوال تُعتبَر صِراعَات السّياسيّين،
مصدر خطر على سلامة العراق، خصوصاً إذا ما نَجَحَتْ إرادات إقليميّة
ودوليّة، من استغلال وتوّظيف هذا الجانب، لصالح مشاريعها الطائفيّة في
المَنطِقة، والإضرار بالعراق كلاً لا جزءاً.
السّياسيّ العلميّ يَفهمُ السّياسَةَ على أنّها (فن حكم المجتمعات
الإنسانيّة) (معجم روبير). لكنْ في العراق الجَدِيد، مَارسَ البَعضُ
السّياسةَ لترسيخ مفهوم، أنّ السّياسَةَ هي فَنُّ تَجزيئِ المُجتمع
العراقيّ. مِنْ خلال تبنّي مفهومِ تحقيق مصالح الفئة. وإنْ كان ذلك على
حساب التّجاوز، على مصالح المجموع. وحتّى إنْ كانت ممارسة هذا
السّياسيّ لهذا النّشَاط، بدون إجماع كلّ الفئة، التي ينادي مِنْ أجل
تحقيق مصالحها، كما يدّعي ذلك السّياسي. وتلك طامّة قيميّة وثقافيّة
واجتماعيّة وإنسانيّة كبرى.
وبنَاءً على ما تقدّم، فإنَّ عمليّةَ الإصلاحِ عندَنا لا تُنَفَذّ،
بسبب البرنامج السياسي الذي طبّق في العراق، والذي صُمِّمَ على أساس
التّوافق بيّن السياسيّين في عام 2006. لكنْ أثبتت الوقائع بشَكلٍ
قاطِع، فشل هذا الإسلوب في التّعاطي السّياسي، مع مُتطلبات المُجتمع
العراقي. وبعد ذلك تمّ اعتماد أسلوب الشراكة السّياسيّة في عام 2009.
ونظراً لانعدام الشّراكة في إدارة العمل السّياسيّ، وانعدام العمل بروح
الفريق الواحد، إضافةً لعَدَمِ وضوح معَالم المشروع السياسي الوطني،
انعَدَمَتْ عمليّة الإصلاح لدينا بكلّ مراحلها.
وعندَما اقترب مخطّط تمزيق الإرادة السّياسيّة المُوَحَّدَة، مِن
مراحل تنفيذه النهائيّة، تَرَكَ الشَريك السِياسيّ مَوْقع مسؤوليّته
الرّسمي، واتّجه صَوْبَ الجَماهيّر ينادي بحقوقِها المهدورة. متناسياً
أنّهُ شريك يتَحمّل وِزّرَ مَا ضَاعَ مِنَ المواطن، مِنْ حقوق وأموال
وأرواح. ليضَعَ الكُرَةَ في ملعبِ الجَماهير، مُتَنَصِّلاً عَنْ
مسؤوليّتهِ المباشرة. في 21/12/2012، انطلقت التّظاهُرات أولاً، بتوجيه
مِنْ بعض نّواب القائمة العراقيّة، على خلفيّة اعتقال حماية السيّد
رافع العيساوي، بتُهمٍ تتعلقُ بالارهاب. لكنْ سرعانَ مَا أعلَنَ
المُتَظَاهِرون، بأنْ لا أحَد مِنَ السّياسيّين يُمَثِلُهم، فاختلطَ
الحابلُ بالنابلِ، وظَهرَ دوّرُ الأنشِطة المخابراتيّة الإقليميّة في
العراق بشكلٍ واضح.
كمَا لا يَشُكّ أحد الآن، بأنّ إدارة موقف المُتظاهِرين، أصبحَ
بيَدِ جماعاتٍ متطرفةٍ، تَعتَلي مَنصات الخِطابة، وتطالب بالمَشْروعِ
مِنَ الحقوقِ، وغيرِ المَشْروعِ مِنها أيضاً. ولمّ يتحرّج السيّد
أُسَامَة النُجيفي، عندما خاطَبَ المُحتَجّين في مدينة سامراء يوم 3
شباط 2013، مِنْ توجيّه الخطاب التالي للمتظاهرين، كما نقلته بعضّ
الفضائيّات حيث قال:( لَنْ تهدأ الثوّرة إلاّ أنْ تصل الحقوق كاملة.
ولَنْ نَقبَل أنْ تُخدَعوا بعد الآن، رددّ المتظاهرون: (تكبير... نعم
نعم للاقليم). وأيّمُ اللهِ أنّي لأَعْجَبُ أشدّ العَجَبْ، مِنْ رجُلٍ
لازال يؤمِنُ بالثوّرة وربما بالانقلابات العسكريّة أيضاً، وهو يتَرأسُ
مؤسّسة تشريعيّة في بلدٍ ديمقراطيّ.
ينّبغي أنْ يَفهمَ السّياسيّ العراقيّ المُتَطيّفْ، أنَّ إصلاحَ
الشَّأن العَامّ، هُوَ أولاً وأخيراً، إصلاح شامل لبُنيَةِ وهيكليّةِ
مؤسّساتِ الدّولةِ؛ التنفيذيّةِ والتشريعيّةِ والقضائيّةِ
والاقتصاديّةِ والاجتماعيّةِ والخدميّةِ. ولا يُمكنُ أنْ يكونَ هذا
النّوع مِنَ الإصلاح، جهداً فردياً بأيّ حالٍ مِنَ الأحوال. وسياسَة
الشّحن والتحريّض، ستكونُ هي الأداة الفعليّة التّي ستَقضِي على
السّياسيّ المُتَطَيّفِ عاجلاً أمْ آجلاً. وإذا كانَ المُجتمعُ
العراقيّ اليوّم، يمتلك بَعضاً مِنَ الوَعي، فإنَّ التّجرِبَة القاسيَة
ومرارة الآلام التي ذاقَها، سَتُنضِجُ وَعيَه قَريباً. وسَيَجِدُ كلّ
الّذين انتَهَكوا حُرُمَاتِه، بأنَّ إرادةَ الله تعالى ستُحاسِبُهُم،
وإنَّ الشّعبَ سيُطارِدُهُم ليَقتصَّ مِنهم وفْقَ إرادة القانون
والعَدْل.
* كاتب و باحث عراقي
Mjsunbah1@gmail.com |