دولة العدالة: حضور العقل والمعرفة

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

 

شبكة النبأ: العقل بطبيعته ينحو الى التعرّف على الاشياء التي لم تمر به سابقا، ولا يعرف عنها شيئا، لهذا غالبا ما نجده باحثا عن الجديد، متماهيا مع المعرفة، لأنها الشيء الوحيد الذي يشبع نهم العقل وشغفه باكتشاف سر الاشياء التي لا يعرفها.

لذلك لا يمكن للعقل أن يحقق الاشباع المعرفي، من دون الوسطاء، وهم أصحاب الفكر والرشد والفلسفة وما شابه، لهذا غالبا ما يبحث المصلحون في أكثر من محور فكري أو إرشادي، من اجل أن تعم الفائدة نسبة كبيرة من الناس، ممن يبحثون عن الرشد ويحتاجون إليه، وهذا هو دأب سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، إذ لم يترك مجالا من مجالات الحياة إلا وتحدث عنه وسبر أغواره وخاض في أعماقه، من أجل أن تكون الامور التي تهم حياة الناس قريبة من وعيهم وواضحة لهم، لكي يتجنبوا ما هو مؤذي لهم، ويتمسكوا بما هو مفيد لهم، ويساعدهم على تطوير حياتهم في الفكر والعمل.

حضور الحكمة والعقل

لاشك ان العقل يبحث عن المعرفة دائما وهذا شرط من شروط تحقيق دولة العدالة، ولكن ثمة شريطة ينبغي ان تلازم هذا البحث، ألا وهي الحكمة، ومن المعروف أن اكتمال العقل، مرتبة يسعى إليها الانسان الجاد الواعي الناجح في حياته ومساعيه المختلفة، لأن الوصول الى هذه المرتبة تعني نتائج نجاح مؤكدة، وهو ما يهدف إليه الانسان بطبيعته وسجاياه، واكتمال العقل يعني أول ما يعنيه، حضور الحكمة، والذكاء، والتأني في اتخاذ القرار، وحضور الحلم، وتجاوز الغضب، وطرد التعصب، وإشاعة اجواء السلام والاطمئنان، لأن العقل في أصله، يهدف الى حماية الانسان من الوقوع في الزلل بشتى درجاته، لذا في حالة اكتمال العقل ستنتفي حالات الظلم والقسوة والتفريق والكيل بمكيالين، والاهم من هذا كله، سيحب الانسان العاقل أو مكتمل العقل لأخيه ما يحبه لنفسه، وهنا تتحقق أعلى مراتب الانسانية.

يقول سماحة المرجع الشيرازي في كتاب (من عبق المرجعية) حول هذا الجانب: (اذا كمل عقل الانسان، لم يركض خلف أهوائه، فهل سيكون ثمة ظلم او فقر او بؤس؟ كلا بالطبع).

إن المسؤول عن شؤون غيره ينبغي ان يكون مكتمل العقل وراغب بالمعرفة حتى يكون قادرا على بناء دولة العدالة التي تحمي حقوق الجميع، ولا يتعلق اكتمال العقل بفرد دون غيره، لاسيما الانسان المسؤول عن ادارة شؤون غيره، مثل اصحاب المناصب الكبيرة، إذ كلما كان الانسان ذا وظيفة كبيرة في الدولة، كلما تصاعدت مسؤوليته، لأن قراره على درجة أعلى من الاهمية كونه يتعلق بعدد كبير من الناس، على العكس ممن لا يتسنم وظيفة عالية، حيث يكون قراره او كلامه او سلوكه محدود الضرر لنه لا يصل ولا يتعلق بكثرة من الناس، لذا على الموظف الكبير، أن يحسب لقراره او خطوته الادارية او سواها، ألف حساب، لأنها اما تضر او تفيد الآخرين. لهذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على أمر غاية في الاهمية حينما يقول سماحته في الكتاب المذكور نفسه: (الوظيفة شيء والرغبة شيء آخر، ويحسن الفصل بينهما جيدا).

ان المعرفة وسعة الاطلاع والحكمة ستقود حتما الى العدالة وهذا هو المطلوب، وسوف نتفق على أن الانسان الذي تهمه حياة الآخرين، سيخشى الله كثيرا، وسوف لا يقدم على خطوة او قرار يؤذي الناس، ويحسب لهذا الامر جيدا، وهو ما ينبغي أن يتحلى به الموظفون الكبار الذي ينخرطون في الحكومات، وحينما يكون المسؤولون ذوي عقول مكتملة تخاف الله فإنها تبتعد عن الخطأ والحرام ما أمكنها ذلك، أما العكس فهذا يعني ان المسؤول لا يهتم إلا برغبات نفسه وتحقيق ذاته حتى لو حدث الامر على حساب وحقوق الآخرين. هنا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على أن: (الذي يتخذ هواه إلها، فانه تهمّه ذاته قبل كل شيء، ولا يكترث إن عصى الله في هذا السبيل، فالمهم عنده توفير ذاته وتلبية رغباتها وتحقيق احترامها!)

من غشنا ليس منّا

لذلك من يتقاعس عن المعرفة سيبقى ناقص العقل وناقص الحكمة، وبالتالي غير قادر على الاسهام في بناء دولة العدالة، هذا الامر ينطبق على الانسان العادي، فكيف بالمسؤول الكبير او القائد، لإن من لم يكتمل عقله ولا يسعى لتحقيق هذا الهدف، سيكون عرضة للوقوع في الخطأ، ومنها الغش، وهي حالة رفضها الاسلام والعرف والاخلاق، إذ ورد في الحديث النبوي الشريف (من غشّنا ليس منا)، لذا يمكن للانسان الموظف وسواه أن يغش، ويمكن أن ينجح في غشه للآخرين، ولكن النتائج لن تكون في صالحه، لأن هناك من لا يعبر عليه الغش ابدا، يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (قد ننجح في غشّ من لا يعرف نوايانا، وما يدور في أذهاننا، ولكن هيهات أن نغش الله).

اذن ينبغي لنا السعي الدائم نحو اكتمال العقل، لأنه الطريق الى تجنب الوقوع في الزلل، وبالتالي تجنب الخطأ بحق الناس، ثم الوصول الى مرضاة الله، وهو امر يحلم به كل انسان سويّ، وحينما يصل الانسان الى هدفه الذي يسعى إليه سيكون فرحا راضا على نفسه، كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي حينما يقول سماحته: (من يبلغ الهدف الذي كان يسعى إليه، يحصل على لذة). هكذا علينا أن نتعلم كيف نحقق اهدافنا التي لا تضر الناس، بل تُسهم في مساعدتهم، وتلبية احتياجاتهم الفكرية والمادية، لأن خدمة الناس تكمن فيها أعلى درجات السعادة، فضلا عن الاحترام الكبير الذي يكنه الآخرون لمن يساعدهم ويقف الى جانبهم، سواءً كان مسؤولا أو حتى في العلاقات الاجتماعية وسواها، لذا علينا أن نستفيد من تجارب غيرنا في هذا المجال، وهي تجارب كثيرة جدا، قد لا ننتبه إليها ولا نستفيد منها، لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي: (ما أكثر القصص! وما أكثر العبر، لكن المهم ان نعتبر ولو بقصة واحدة).

الحصاد قبل الأوان

لاشك أن بناء دولة العدالة لا يتحقق بالتسرع والقفز على الوقائع، بل لابد من التأني والحكمة واحترام المعرفة، لذا هناك خلل يلازم الانسان منذ بواكير حياته، فهو يتعجل النتائج، ويريد أن يحصد ثمار ما زرعه قبل الأوان دائما، لكن هذا لا يمكن لانه لا يتسق مع طبيعة الاشياء، لذا ينبغي التدرج والتدريب والصبر والتعلم وبذل الجهد الكافي للوصول الى نتائج افضل، كما يؤكد على ذلك سماحة المرجع الشيرازي حينما يقول سماحته: (إن الاعتماد على الاستاذ، والوصول من خبرته وإرشاداته، والكتب التي يرشحها، والتدرب لدية، يعني الوصول الى الهدف بصورة أفضل وأسرع). ولكن نتيجة لتسرع الانسان في قطف النتائج، تحدث الاخطاء غالبا، فتكون النتائج على غير ما يرام بسبب التعجّل وقلة الصبر، إذ يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على ان: (الانسان بطبعه يتعجل النتائج).

وهكذا ينبغي أن يكون الصبر حاضرا بقوة، وكذلك طلب المعرفة والعلم بانتهاج السبل الصحيحة، وهي هدف الانسان الذي يبحث عن النجاح، على ان يكون النقاش مثمرا وجادا، في تنمية القوة العلمية للعقل، ولن يحدث هذا دونما سعي وصبر واصرار على تحقيق النتائج المثلى، وهو امر يعني جميع الناجحين، حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي في الكتاب نفسه: (النقاش المثمر طريق تنمية القوة العلمية).

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 31/كانون الثاني/2013 - 19/ربيع الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م