فرنسا وحرب القارة الإفريقية... لعبة الأيدلوجيات وصراع الأجندات

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: الجماعات الاسلامية المسلحة، والتي تنضوي تحت عناوين ايديولوجية وجهادية متعددة، اخذت تطرق ابواب الدول الافريقية بقوة، لتنقل صراعها المحلي الى صراع دولي، لا يفيد معه الا مسارعة الدول ذات المصالح العملاقة في القارة الافريقية الى التدخل الى جانب جيوش تلك الدول، دون التوقف كبيرا عند مصطلحات السيادة الوطنية او القرار الوطني وغيرها، اخر احداث العنف الجهادي المسلح هو ما يحدث في دولة مالي، استدعى ذلك تدخلا فرنسيا، على اعتبار التاريخ الاستعماري لفرنسا في جزء كبير من قارة افريقيا ومن ضمنها دولة مالي. والتدخل العسكري الفرنسي لن يكون يسيرا أو قصير الأمد، نظرا لتسلح إسلامي مالي ودرايتهم بجغرافيا البلاد الوعرة.

اصبح واضحا بعد هذا التدخل، أن التفكير التقليدي بأن السيادة الوطنية مكمن الأمن والأمان عفا عليه الزمن، ولم يعد يجدي نفعا، فحكومة مالي تنازلت عن سيادتها طوعيا لإضفاء الشرعية على تدخل متعدد الجنسيات، لإنقاذها من تهديد الجماعات الجهادية، ولتؤكد أن أمن أفريقيا بات ينظر إليه بعدسات إقليمية وقارية ولا يقتصر على الداخل فقط، كما رأت صحيفة لوس انجليس تايمز في تحليلها لهذا الحدث الافريقي.

كان احتجاز مئات الرهائن في مجمع الغاز الجزائري اعلانا بأن جماعة (الموقعون بالدم) التي يتزعمها مختار بلمختار قررت تدويل برنامجها الجهادي، وقال بلمختار المعروف بلقب (الأعور) ان الهجوم على مجمع عين ميناس لاستخراج الغاز واحتجاز الرهائن كان ردا على التدخل العسكري الفرنسي وموافقة الجزائر على السماح للطائرات الحربية الفرنسية بالمرور عبر اجوائها الى مالي. ويؤكد الهجوم ان الحرب الأهلية في مالي فاضت عبر الحدود الى دول مجاورة، وقال دومنيك توماس الخبير بالحركات الجهادية لاذاعة فرانس انفو ان احتجاز الرهائن جزء من توجّه تتبناه الجماعات الاسلامية في المنطقة لتدويل الجهاد:

(اليوم ليس لدى الحركات الجهادية مثل تنظيم القاعدة وحركة التوحيد والجهاد في غرب افريقيا أجندة محلية ، ربما باستثناء انصار الدين. فان أجندتها أجندة أممية والهدف هو تدويل الأزمة وبناء جبهة عالمية للجهاد في المنطقة.  ويكون ذلك بعمليات جريئة لا بد ان تؤثر في دول الجوار)، ولاحظ ميشيل دوتي خبير الادارة السياسية في (مبادرة المجتمع المفتوح لغرب افريقيا) ان تحالف الجماعات الاسلامية في المنطقة يعكس توجهها العابر للحدود: (الفرق بين تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وجماعة التوحيد والجهاد في غرب افريقيا مثل الفرق بين كوكا كولا وبيبسي كولا لأنهما عملة واحدة ذاتُ وجهين.  ومَنْ يستطيع ان يجد اختلافا بينهما حين تدعو الجماعتان الى فرض الشريعة؟  هل تتعلق المسألة باختلاف لون البَشَرة فحسب؟  لأن بامكان المرء ان يرى ان عناصر حركة التوحيد والجهاد في غرب افريقيا ينتمون في الغالب الى بلدان غرب افريقية وخاصة نيجيريا وبنين وتوغو).

يجيء التدخل العسكري الفرنسي ليضع فصلا جديدا، من فصول الأزمة، وبعدا خارجيا، لم يكن في الأصل غائبا عن مشهدها. فمن دون سابق إنذار انفجرت «القنبلة الموقوتة» في منطقة الساحل، ونقلت فرنسا عدتها وعتادها على عجل إلى دولة مالي، وبدأت المواجهات بين الجيش الفرنسي والجماعات المسلحة التي ترى أنها نجحت في استدراج «الغربيين» إلى أرض معركة يعرفونها كما يعرفون تفاصيل أيديهم.

أطراف كثيرة تتصارع. ولكن الأبرز الآن هما جهتان.. فرنسا ومن خلفها المجتمع الدولي.. الغربي والأفريقي، والجماعات الإسلامية المسلحة بأطيافها ومن ورائهم تنظيم القاعدة بكل فروعه.

وليس سرا أن فرنسا ترتبط مع غالبية مستعمراتها السابقة باتفاقيات دفاعية ولها انتشار عسكري ملحوظ في القارة الأفريقية وبالتالي فإنها تتحمل «مسؤوليات» خاصة تجاهها ما يجعلها تلعب، بالفعل، دور «شرطي أفريقيا» رغم أن الرئيس الاشتراكي يريد «القطيعة» مع السياسات السابقة التي كانت تدفع إلى الاعتقاد أن فرنسا ما زالت تتصرف كأنها «القوة المستعمرة».

يقول الباحث الاستراتيجي الفرنسي أنطونان تيسرون إن مالي تقع على «تقاطعات إستراتيجية بالغة الأهمية» بالنسبة لفرنسا. وبرأيه أن تمدد النزاع في مالي إلى شمال النيجر «كان سيعني تهديد تموين شركة (أريفا) من اليورانيوم وتهديد أمن توفير الطاقة لفرنسا نفسها». وتستخرج شركة «أريفا» الضالعة في النووي الفرنسي نصف إنتاجها من اليورانيوم من مناجم النيجر ما يشغل ثلث المفاعلات الفرنسية. ومن هذا المنطلق، تتمتع النيجر بقيمة إستراتيجية بالغة الأهمية لفرنسا ما يدفعها بالتالي إلى التحوط من أي تطور من شأنه أن يهز أمنها واستقرارها.

ومن ناحية أخرى، لا تخفي باريس قلقها من انعكاسات الوضع في مالي على دول الجوار الأخرى وتحديدا موريتانيا وساحل العاج وخصوصا الجزائر إذ لفرنسا مصالح رئيسية فيها. فمالي غنية بالنفط وشركة «توتال» الفرنسية حاضرة فيها منذ عام 2005. أما ساحل العاج الذي تدخلت فرنسا فيه عسكريا لإزاحة الرئيس السابق وتسهيل تولي الرئيس الحالي مسؤولياته فتشكل العماد لمنطقة الفرنك الأفريقي أي عمليا منطقة النفوذ الاقتصادي الفرنسي في أفريقيا. أما الجزائر فإن قيمتها لا تقدر بالنسبة لفرنسا إذ أنها ثالث أهم شريك اقتصادي لها خارج إطار منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية.

لكن باحثين ومسؤولين إقليميين يشيرون إلى دور آخر لفرنسا. يقول إسلم ولد عبد القادر (الوزير الموريتاني السابق) إن «فرنسا لديها مصالح في هذه المنطقة، وهي لا تختلف كثيرا عن المصالح التي تسعى إليها الصين والولايات المتحدة في هذه المنطقة، حيث تعرف هذه القوى العظمى أن القارة الأفريقية قارة واعدة في الخمسين سنة القادمة».

وفي السياق نفسه يقول الدكتور يحيى ولد البراء، إن «فرنسا تتدخل لأنها تعتبر أن منطقة الساحل تابعة لها، وأي فوضى فيها تضر بمصالحها السياسية، ومصالحها الاقتصادية ذات الأهمية الكبرى، حيث تعتبر هذه المنطقة واعدة بالنفط واليورانيوم والذهب، وذلك ما يفسر السعي الفرنسي إلى إرغام المجموعة الدولية للتدخل في مالي، ويفسر أيضا تحفظ الجزائر على هذا التدخل، وبالتالي فإن الصراع إقليمي ودولي بامتياز».

ويتوقع خبراء أن تحقق الحرب أهدافها في «المنطقة الرخوة»، أي المثلث الواقع بين مدن غاو وكيدال وتمبكتو، والتي يمكن أن تصبح في يد القوات الفرنسية خلال أيام قليلة، نتيجة لقوة القصف الفرنسي، ولكن الجماعات المسلحة ستلجأ إلى الجبال وعندها سيكون الوصول إليها صعب جدا.. وبالتالي فإن مالي قد تستعيد السيطرة على المدن الكبرى، ولكن بقية المناطق الصحراوية والجبال ستبقى تحت رحمة هذه الجماعات المسلحة.

يقول المحلل السياسي الجزائري المقيم بفرنسا، أنور مالك ومنطقة الساحل، إن «العواقب وخيمة وخطيرة على استقرار الجزائر، وحتى وحدة ترابها التي ستبدأ في التزعزع من الجنوب مستقبلا». ويضيف «هذا الخطر يعود لاعتبارات كثيرة من بينها، أنه توجد نسبة كبيرة من عناصر تنظيم القاعدة هم من الجزائريين، وتدربوا على القتال في الجزائر وستكون وجهتهم الجزائر عبر مسالك مفتوحة ويعرفونها جيدا، وبأسلحة ثقيلة بينها حتى المضادة للطيران وهو ما سيعيق المراقبة الجوية الجزائرية وحتى الأجنبية.. وقد تضطر السلطات بأن تسمح للطيران الفرنسي للقيام بعمليات عسكرية على التراب الجزائري، وهذه كارثة حقيقية وتطور خطير».

وفي ذات السياق يقول الدكتور قوي بوحنية، باحث متخصص في التحولات السياسية وقضايا التحول الديمقراطي وعميد كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة ورقلة الجزائرية أن «كل الدراسات الاستراتيجية تشير إلى أن الجزائر ستجد نفسها أمام دولة فاشلة تجسدها الحالة المالية، لتكون أشبه بخصائص دولتي الصومال وأفغانستان»، ومثل الجزائر فإن شظايا الحرب ستمتد لتصل إلى دول مجاورة، أخرى، مثلما توعد بذلك أغلب زعماء الجماعات المسلحة، وعلى رأسهم أمير تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي أبو مصعب عبد الودود «دركودال».

كانت الأحداث ـ التي لا تزال مشتعلة وتشهد تداعيًا دوليًا وإقليميًا ـ قد بدأت شرارتها مع سقوط نظام معمر القذافي في ليبيا (أغسطس 2011) حيث شرع المئات من المسلحين الطوارق ممن كانوا يقاتلون في صفوف قوات القذافي حتى سقوطها في العودة إلى مواطنهم في النيجر ومالي وبرفقتهم سيارات عسكرية وأسلحة متطورة وذخائر.

وهناك تهيأ لمجموعات الطوارق المسلحين التجمع لخوض حرب في مواجهة الجيش النظامي كان من نتائجها وقوع انقلاب عسكري في العاصمة باماكو (22 مارس) نفذه جنود بالجيش أطاحوا بالرئيس (آمادو توماني تورى)، كما تمكنت حركة تحرير أزواد، العلمانية، بالتحالف مع جماعة أنصار الدين، (الجهادية) من السيطرة على المناطق الشمالية التي انسحب منها الجيش.

لكن هذا التحالف ـ وبالرغم مما بذل في سبيله من جهود - لم يدم طويلاً، إذ نشبت الخلافات سريعًا بين (الحركة الوطنية لتحرير أزواد) وحليفتها السابقة (جماعة أنصار الدين) التي تمكنت من بسط سيطرتها على الشمال، بعد معارك واسعة بين الطرفين في الأسبوع الأخير من يونيو/ الماضي، أدت إلى مقتل العشرات.

وإلى جانب (جماعة أنصار الدين) تتوزع السيطرة حاليا على مناطق شمال مالي ومدنها الكبرى (تمبكتو وغاو وكيدال) ـ والتي تمثل مجتمعة أكثر من نصف مساحة البلاد ـ بين كل من (حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا) و(تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي) المتحالفين معها، فضلا عن عدد من الكتائب والسرايا مثل كتيبتي (أنصار الشريعة) و(الملثمين).

ما هي هذه الجركات الجهادية التي توجد في افريقيا؟.

حركة أنصار الدين

(أنصار الدين)، جماعة إسلامية مسلحة، ذات توجه سلفي، تسعى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية على كامل التراب المالي، لكن لا تطالب باستقلال شمال البلاد على عكس حركة (تحرير أزواد) العلمانية التي تسعى إلى انفصال الشمال لإقامة دولة أزواد.

مؤسس أنصار الدين هو الزعيم التقليدي (إياد آغ غالي)، وهو من أبناء أسر القيادات القبلية التاريخية لقبائل (الإيفوغاس)، عسكري سابق، وشخصية بارزة، وزعيم تاريخي في تمرد قبائل الطوارق خلال التسعينيات من القرن الماضي، ينحدر من أسرة أزوادية عريقة في (كيدال) بأقصى الشمال الشرقي لمالي، كان إياد غالي مسؤولاً كبيرًا في مالي، تأثّر بالفكر السلفي خلال عمله كدبلوماسي بالخليج وخلال قيامه بالوساطة لتحرير رهائن غربيين مختطفين عام 2003 لدى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. معظم المنتمين للحركة من أبناء الطوارق على عكس جماعات أخرى أغلب عناصرها من العرب.

أنصار الدين هي أكبر الجماعات في شمال مالي وأهمها، يمكن اعتبارها بمثابة حركة طالبان في أفغانستان نظرا لأنها حركة محلية معظم قياداتها ومقاتليها من أبناء مالي، ويقال إن تفوق (أنصار الدين) العسكري والمكانة الخاصة التي يحظى بها التنظيم تعود في جانب كبير منها إلى تحالفه مع تنظيم القاعدة الذي أمدَّه بالمال والرجال حتى بات يحظى بأقوى حضور ميداني بين التنظيمات الإسلامية في المنطقة، تمكنت أنصار الدين من بسط سيطرتها بشكل كامل على مدينة تمبكتو الأثرية، شمال غرب مالي، وفي هذه المدينة الكبيرة عملت الجماعة السلفية على هدم أضرحة الصوفية والعتبات الدينية ـ التي أدرجتها اليونسكو على لائحة التراث العالمي عام 1988 ـ وهو ما لاقى ردود فعل شديدة على المستوى الدولي ولدى منظمة اليونسكو.

القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي

يقيم تنظيم (القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي)- المنبثق عن الجماعة السلفية للدعوة والقتال في الجزائر، والتي كانت قد ولدت، بدورها، من رحم الجماعة الإسلامية المسلحة ـ قواعد خلفية له في مناطق الصحراء الكبرى ومن بينها شمال مالي منذ سنوات، ينطلق منها لشن عملياته.

لذلك فهو التنظيم المسلح الأقدم في المنطقة والأكثر خبرة، وأيضا الأقدم في التواصل وإقامة للعلاقات مع شيوخ القبائل هناك؛ إذ يرتبط التنظيم الذي يتزعمه أبو مصعب عبد الودود(عبد المالك دروكدال) بعلاقات متشابكة مع سكان المنطقة من الطوارق والعرب، ويحتفظ بعلاقات قوية معهم، ويسود اعتقاد لدى متابعين للوضع بالمنطقة أن تنظيم القاعدة هو المحرك الحقيقي من بين كل الفصائل الإسلامية المسلحة في شمال مالي، وأنه حلقة الربط الأساسية بين التنظيمات المختلفة وصاحب اليد الطولى بالمنطقة، وغالبا ما تصفه المصادر المحلية بأنه الأكثـر تجذرًا ومعرفة وخبرة بمناطق الشمال، وتشير مصادر متطابقة إلى أن العناصر التي تعمل بين صفوف "أنصار الدين" أو حركة (التوحيد والجهاد) ليسوا في النهاية سوى مقاتلين سابقين لدى القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.

حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا

إحدى أهم الحركات الإسلامية المسلحة التي تنشط بالمناطق الشمالية، وهي حركة منبثقة عن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي ويقودها (محمد ولد نويمر)، ومعظم عناصرها من العربن تدعو الحركة إلى الجهاد في غرب أفريقيا، وتتمركز سيطرتها في مدينة (قاو) الواقعة على نهر النيجر في شمال شرق مالي، وكانت (التوحيد والجهاد) تتقاسم السيطرة على المدينة مع (الحركة الوطنية لتحرير أزواد) بعد طرد الجيش المالي منها، وقبل أن تطرد ـ فيما بعد ـ عناصر الحركة الأزوادية على خلفية صراع بين الطرفين استمر نحو شهرين.

كتيبة (أنصار الشريعة)

أسسها عمار ولد حماها، الذي سبق وطاف على كل الجماعات الإسلامية في مالي قبل أن يشكل كتيبته بعد خروجه مباشرة من جماعة (التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا)، كان ولد حماها ناشطاً في جماعة الدعوة والتبليغ لينتقل بعد ذلك إلى ما وصفه بـ(مرحلة السيف) مع تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي وكتيبة (الملثمين) ثم تنظيم (التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا) فحركة (أنصار الدين). رحلة مثيرة قال الرجل إنها لم تكن بسبب سخط جعله ينسحب من هذه الجماعات التي يعتقد أن هدفها واحد هو (العقيدة السليمة ورفع راية الجهاد).

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 30/كانون الثاني/2013 - 18/ربيع الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م