شبكة النبأ: اثبتت التجارب عبر
التاريخ البشري الطويل، أن الدول المدنية لا تتحقق إلا بالارادات
العظيمة والعقول الفذة، القادرة على بناء حضارة راسخة يسعى اليها
الشعب، بكل قدراته وطاقاته ومواهبه، من خلال تثبيت ركائز الدولة
المدنية، التي غالبا ما تكون هي والحضارة صنوان متلازمان، فأينما وجدت
الدولة المدنية نجد التمدّن والتحضّر، قويا وراسخا وحاضرا في كل تفاصيل
الحياة، والعكس يصح تماما، فأينما يكون الطغيان والاستبداد والدولة
المتسلطة، نجد التخلف والجهل حاضرا وشاخصا بقوة.
لذا فالشعب الحيوي هو الذي يستطيع بناء الحضارة، وبالتالي يتمكن من
تأسيس وتطوير المرتكزات والمستلزمات، التي تساعد على بناء الدولة
المدنية، القادرة على أن تحمي حقوق الجميع وحرياتهم، وتمنحهم الفرص
المتكافئة في الانتاج والابداع والتطور.
يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي
(رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (تحطم الحكومات الإسلامية
بمحاربة العلماء)، حول هذا الموضوع: إن (باني الحضارة هو الشعب الحر
الذي له مشّوق، فإذا أخذ الحكام بمخالفة العلماء ومحاربتهم وسلبوا
الحريات عن الشعب، فحينئذ لم ير الشعب في الحكام مظلة للتقدم، وكان ذلك
سبباً في خمود الشعب، فيتأخر الكل عن ركب الحضارة والتقدم).
قمع المواهب والطاقات المنتجة
إن الدولة ذات النظام المتخلف الفردي الجائر المتسلط، تحارب المواهب
ولا تسمح لها بالانطلاق في فضاء الابداع، والانتاج والتطور ويتمثل هذا
بمحاربة العلماء، لأن الامر لا يروق للحاكم المتفرد ولا لحكومته، التي
تسير وفق أهوائه ورغباته الخاطئة في الغالب، لذلك بمحاربة المواهب يصعب
تحقيق بناء الدولة المدنية، والسبب هم الحكام الجهلاء غالبا.
لذا يسرد لنا الامام الشيرازي بعض ذكرياته حول هذا الموضوع قائلا: (إني
أذكر أن رجلاً في بغداد صنع ساعة بلا فنر، فلما علم الحاكم بذلك أهلك
الرجل ولم يتركه وشأنه، وأخذ ساعته البدائية ووضعها في متحف بغداد، كما
إني أذكر أن في إيران نبغ طبيب كان يعالج كثيراً من الأمراض الصعبة
العلاج بالأعشاب فقط، وبسهولة ورخص، وكان يصدر مجلة باسم - راهنماي
نجات از مرك مصنوعي- أي طريق النجاة من الموت المصطنع، لكن الحاكم أهلك
الطبيب وذلك باصطناع حادث اصطدام سيارته).
لذلك فإن مثل هذه الاعمال السلطوية التي تعيق عجلة التقدم والتطور،
تلغي جميع الفرص المتاحة لبناء الدولة المدنية المأمولة، وذلك بسبب قمع
الطاقات والمواهب الخلاقة التي تهدد عرش الطغاة غالبا، وهذا هو التفسير
في تخلف المسلمين عن الركب العالمي، كما يرى ذلك الامام الشيرازي حيث
يتساءل سماحته في هذا الصدد: (وإلاّ كيف يكون من المعقول أن ألفي مليون
بشر وهم المسلمون كما في الإحصائيات الأخيرة ليس لهم من الصناعة شيء
يذكر، بينما الغرب تعج بالصناعات، مع أن الحضارة والصناعة والتقدم
والعلم كان للمسلمين ومنهم انتقل إلى الغرب، كما صرح بذلك علماؤهم).
وهكذا فإن بناء الحضارة يعتمد على وعي الشعب واصراره وثقافته، حيث
يشكل قوة ضاغطة على الحاكم وحكومته، وشكل الحكومة التي ينبغي ان تكون
منتخبة من لدن الشعب، لأن غياب ارادة الشعب تجعل الحكام خاضعين للارادة
الشعبية وملتزمين بها، أما اذا كانت الحكومة والعلماء في صراع دائم،
فإن هذا يؤدي الى مقت الحكومة والاطاحة بها حتما بسبب رفض الشعب لها،
كما نقرأ في قول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع قائلا في كتابه نفسه:
(إذن الحضارة تتولد من الشعوب ولا يتمكن الشعب من إيجاد الحضارة إلاّ
إذا أطاع الحكام العلماءَ وأعطوا للشعب كامل الحرية التي منحها الإسلام).
مخاطر سلب الحريات
ومن مظاهر ضعف الدولة المدنية سلب الحريات بمختلف اشكالها، وقمع
الرأي، ومصادرة الاعلام باشكاله وانواعه كافة، حيث يؤدي ذلك الى ضعف
عام في مفاصل الدولة والشعب معا، وتتضاعف حالات التخلف في معظم شرائح
المجتمع ومكوناته، وتضعف الصناعة والتعليم، وتنحسر حالة التحضّر
والتمدّن بصورة واضحة.
يقول الامام الشيرازي في هذا لخصوص بكتابه المذكور نفسه: (إن سلب
الحريات من الناس ليس فقط سبباً لتأخرهم الصناعي والحضاري، وإنما
يتأخرون عن الركب في السياسة والاجتماع والطب والاقتصاد والثقافة
وغيرها من مختلف شؤون الحياة فإن شأن الدين إعطاء الحريات، وشأن
العلماء حفظ هذه الحريات، ولكن إذا حاربهم الحكام سينفصل الشعب عنهم..
وتصبح حياتهم في خطر، أي خطر التبديد والقتل، لأنفسهم وذويهم).
ويبقى الخاسر في هذه الحالة الحكومة التي تقارع العلم والعلماء،
والمواهب والطاقات التي تصب في صالح مدنية الدولة وانتمائها للحضارة،
وعندما تلاحق الحكومة العلماء وتطاردهم وتضيّق الخناق عليهم، فإنها
تصنع جدارا عازلا بينها وبين الشعب، كما نقرأ ذلك في قول الامام
الشيرازي في هذا المجال: (ينشأ من جراء ابتعاد الحكومة عن العلماء
ابتعاد الشعب عن الحكومة، وبذلك تقع المحاربة بين الحكومة والشعب، إذ
الشعب تابع للعلماء، فكل من ابتعد عن العلماء ابتعد الشعب عنه ـ كما
سبق ـ وحينئذ تكون هناك حرب بين الشعب والحكومة).
وهكذا ستضيع فرصة بناء الدولة المدنية، بسبب سياسة الحكومة الحمقاء،
التي تبحث عن حماية العرش والمنصب فحسب، وتحارب العلم لأنه يبث الوعي
بين ابناء الشعب، وهذا يشكل خطرا عليها، لذا تسعى لابقاء الشعب جاهلا
لا يعرف ما هي حقوقه وكيف يدافع عنها، ولكن في كل الاحوال سوف تحدث
قطيعة قوية بين الشعب والحكومة، الامر الذي يؤدي حتما الى الاطاحة بها،
وهذا ما حدث في الغالب عبر التاريخ، كما نقرأ في قول الامام الشيرازي
بكتابه المذكور نفسه، إذ يقول سماحته في هذا المجال: إن (الشعب سوف
ينسف الحكومة وينتقصها ولا يحترم قوانينها، فيعمل حينئذ على خلاف ما
تريده الحكومة ويهرب من الضرائب ولا يعطي حتى رسوم الماء والكهرباء
والمواصلات، ويخرق قوانين الدولة في السفر والإقامة والعمارة وألف شيء
وشيء، وتأخذ الحكومة حينئذ بمحاربة الشعب اعتقالاً وسجناً وتعذيباً
ونفياً، وأحياناً إعداماً، وربما مصادرة للأموال وألف شيء وشيء). |