إن المثقفين يشكلون الإسمنت العضوي الذي يربط
البنية الاجتماعية بالبنية الفوقية ويتيح تكوين كتلة تاريخية- أنطونيو
غرامشي
مرور سنتين على سقوط الدكتاتور في تونس (يوم 14 جانفي 2011) هي
مناسبة مواتية للتفكير بجدية في أسباب الفشل والخيبة التي منيت بها
قطاعات واسعة من الشارع الشبابي الذي شارك في الانتفاضة الثورية، ويمثل
لحظة فارقة للتمعن في مآل المسار الثوري والتحديات العولمية التي تعصف
بالمنطقة العربية والبلدان الضعيفة زمن هذه المرحلة الانتقالية وما
ترتب عن ذلك من تشظي قومي وتفكك قُطري وانتصاب حزبي وجمعياتي فوضوي
وتوسع امبريالي وحدوث مخاض امبراطوري ينبئ بنهاية عالم يقوده قطب واحد
غربي وولادة عالم متعدد الأقطاب.
اذا كان الاحتكام الى آلية الديمقراطية التمثيلية قد أوصل الى سدة
الحكم قوى يمينية هشمتها آلة نظام الاستبداد وباركتها دوائر غربية
وخليجية مهادنة خدمة للمشروع النيوليبرالي بعد أن رممت بيتها الداخلي
واستجمعت أنفاسها في وقت قياسي فإن ضعف المعارضة المحسوبة على القوى
التي شاركت في الثورة ووجودها في المكان الخطأ قريبة من النخب وبعيدة
عن الأوساط الشعبية وحالة التردد والارتباك والتعثر التي ميزت التوافق
الحاكم في معالجة القضايا العالقة والملفات الدقيقة وكثرة التحشيد ضدها
وتعطيل مسارها والتركة الثقيلة من الفساد والتجاوزات التي ورثتها عن
الهيئات السابقة قد دفع بقوى الثورة المضادة الى العودة بقوة الى
المشهد السياسي بعد أن اكتسبت مشروعية الحنين الى الماضي في ظل فراغ
الحاضر وعطالته وانسداد الآفاق وبعد قيامها بالتهيكل والتنظم وتوسيع
دائرة تحالفاتها اجتماعيا وسياسيا.
على هذا النحو يبدو أن المخرج من التورط في هذه الثورة المغدورة ليس
التمسك بالحكم من قبل الذين حازوا على شرعية انتخابية بكل الوسائل
وإعادة انتاج ممارسة تسلطية جديدة ولا الاستيلاء على السلطة بالنسبة
للمتعطشين الى الالتفاف عليها وإعادة انتاجها وإنما يكمن بالأساس في
الوصول اليها عن طريق تفعيل الشرعية الشعبية واستكمال المسار الثوري
بتفتيت السلطة وتأميم الثروة وتشييد مؤسسات التسيير الذاتي وبانخراط
الجميع في تجربة الثورة الثقافية والاحتكام الى مشروع المقاومة
والاستثبات وتفعيل القرار السياسي في اتجاه رفع المظالم وجبر الأضرار.
ان الخروج من مضيق الثورة المنقوصة يكون بالنضال ضد النزعة المحافظة
والسلوك التبريري والبنية الاقتصادية التابعة للرأسمال الاحتكاري
العالمي والتصدي للبرجوازية وبقايا الاقطاع ومواجهة التورم البيروقراطي
والتقاليد العشائرية والنفوذ الشخصي في اصدار القرارات والتعيين واسناد
الحقائب الهامة وتسيير دواليب الدولة.
من جهة مقابلة يقتضي الموقف النظري والالتزام القيمي الدفاع عن
الرأسمال الرمزي للأمة ضد كل احتكار أو تدجين وتخليص الاسلام من
الايديولوجيا اليمينية والإيمان بالتعريب كخيار استراتيجي والهوية
المركبة والتفاعلية للأمة العربية والشروع في بناء المشروع الوطني
الجامع وتبني خيارات اقتصادية واجتماعية متوازنة وعادلة توقف نزيف
التهميش للمناطق المحرومة وتعالج مشكلة البطالة والتنمية اللاّمتكافئة
بين الجهات الساحلية والحضرية والجهات الداخلية والريفية وتعيد بناء
مؤسسات التربية والثقافة والإعلام والقضاء والأمن والتجهيز والإسكان
والصحة والنقل على دعائم متينة وركائز صلبة.
هكذا تقوم الثورة الثقافية على مقولة الكتلة التاريخية التي تمثل
العروة الوثقى للوطن ونقط التقاء تيارات السياسة ومرجعيات متعددة على
مهام وطنية تحقق المصلحة المشتركة للشعب وتؤجل الصراعات الايديولوجية
الى حين وتتخطى التوافقات المستحيلة نحو تفاهمات معقولة.
حول هذا الموضوع يصرح محمد عابد الجابري في مقال له منشور في مجلة
المستقبل العربي الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت عام
1982: كتلة تجمع فئات عريضة من المجتمع حول أهداف واضحة تتعلق أولا
بالتحرر من هيمنة الاستعمار والإمبريالية، السياسية والاقتصادية
والفكرية، وتتعلق ثانـيا بإقامة علاقات اجتماعية متوازنة يحكمها، إلى
درجة كبيرة، التوزيع العادل للثروة في إطار مجهود متواصل للإنتاج. وبما
أن مشكلة التنمية مرتبطة في الوطن العربي بقضية الوحدة، فإن هذه الكتلة
التاريخية يجب أن تأخذ بعدا قوميا في جميع تنظيراتها وبرامجها
ونضالاتها. لكن هل تساعد الكتلة التاريخية الفاعلين للاندماج والانصهار
وتحقيق القفزة الجدلية من النظر الى الفعل ومن المعرفة الى الممارسة
ومن البراكسيس الفردي الى البراكسيس الجماعي والانخراط في حرب مواقع ضد
الفساد والاستبداد والاستعمار؟ وهل يكفي ابرام العقد الاجتماعي من قبل
الأطراف المكونة للمجتمع المدني والمجتمع السياسي في رحاب المجلس
التأسيسي في هذه الذكرى الثانية لكي يكمل الشعب الفترة الانتقالية في
أمان؟
* كاتب فلسفي |