دور الشيعة في الحضارة الاسلامية

اعداد: حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: في الذاكرة الجمعية الاسلامية، الاخر المختلف لا حظوظ له في ابراز هويته المختلفة تلك، واذا اخذ في الحديث عنها، يصبح طائفيا، تكال له جميع التهم... كثيرا ما سمعنا وقرأنا عن اناس اقل ما يقال عنهم انهم عادوا الى شيعيتهم حين يتحدثون عن بعض الادوار التي قام بها الشيعة في بناء الحضارة الاسلامية.. ادونيس على سبيل المثال في بعض كتاباته.

من حق الاخر ان يفخر ويفتخر، لكن الاقليات المذهبية لا تملك هذا الحظ بالمقابل.. ربما يعود ذلك، الى محاولة تجيير كل منجز في الحضارة الاسلامية الى الاخر الذي يرى نفسه مالكا لزمام السلطة في جميع الادوار التاريخية التي مرت بها تلك الحضارة، وان ذلك النتاج الثقافي والتراكم الحضاري مرده الى تلك السلطة. او ربما هو الخوف من انكشاف ضآلة المساهمة الحضارية في جميع العلوم مقارنة بهذا الاخر القليل والذي ليس له من حظوظ في تملك السلطة الا عبر فترات متباعدة وعلى اطراف السلطات السياسية في المركز.

او ربما هو عدم القدرة على الاعتراف بهذه المساهمة التي تنبع من تاثيرات وحوافز يمتلكها هذا الاخر وتمتد بتاثيرها حتى النتاج الثقافي لرجالاته ومثقفيه، كما نشهد ذلك في استلهام الرموز الشيعية في الادب العربي والاسلامي قديما وحديثا من شعراء وادباء وكتاب لا علاقة لهم بالتشيع من قريب او بعيد، في وقت لا نجد اديبا او شاعرا او كاتبا شيعيا يستلهم من رموز الطرف الاخر الا في ما ندر وقل.

في جميع المعارف والعلوم تجد دورا للشيعة واسماءا مبرزة منهم... ففي مجال الآداب العربية والعلوم الإنسانية نجد الفطاحل منهم كالمازني، وابن السكَّيت، وأبي إسحاق النحوي، وهم من أصحاب الإمام الكاظم (عليه السلام)، والخليل ابن أحمد الفَراهيدي، وابن دُرَيد، والصاحب بن عبَّاد، وغيرهم من الأدباء الشيعة الذين كان كلّ واحدٍ منهم قُطباً من أقطاب اللغة والنحو والصرف والشعر وعلم العَرُوض في عصره... ولا ننسى ابو الاسود الدؤلي.

وأما العلوم العقلية فقد تقدموا – أيضاً – على غيرهم من الطوائِف والفِرَق، كَعِلم الكلام، والفَلسفَة، لأن الشيعة يَمنحون العقلَ دوراً أكبرَ وأهمِّيَّةً أكثرَ مِمَّا يعطيه غيرهم من الفِرَق الإسلامية.

فَهُم بالاستلهام من أحاديث الإمام علي (عليه السلام)، وأبنائه المعصومين (عليهم السلام) سَعوا أكثر من غيرهم في بَيَان وشرحِ العقائد الإسلامية، وبهذا قَدَّمَت الشيعة للأمَّة الإسلامية جيلاً عظيماً من المتكلمين القَديرِين، ومن الفلاسفة الكبار.

ويُعدّ الكلام الشيعي من أغنى وأثرى المدارس الكلامية الإسلامية، فهو يحتوي – مضافاً إلى أدلة من الكتاب والسنة – على براهين قويَّة من العقل.

كما أنَّ أحد أُسُس الحضارة الإسلامية هو معرفة عالم الطبيعة وقوانينها، وقد تَخرَّج من مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) أشخاص معروفون كجَابِر ابن حَيَّان، وقد برعوا في مجال العلوم الطبيعية إلى درجة أن جابراً دُعِي في عصرنا هذا بأبي الكيمياء الحديثة.

وفي علم الجغرافيا كان أحمد بن أبي يعقوب – المعروف بـ (اليعقوبي) – أول عالم جغرافي سَاحَ في البلاد الإسلامية العريضة، وألَّفَ كتاباً باسم: (البُلدان)، وهو من عُلَماء الشيعة.

على أن جهود الشيعة لم تَتَرَكَّز على هذه العلوم فحسب، ولم تقتصر خدماتهم على هذه المجالات، بل خدموا الإسلام والعالم في غيرها من العلوم، كالتأريخ والمَغازي والرجال، والدرَاية، والشعر، والأدب، وغير ذلك مِمَّا لا يسعنا في هذا المختصر سَردَ أسمائِها.

وعلى مستوى المراكز الثقافية التي كانت منار اشعاع حضاري نذكر الكوفة، وريثة بابل، والتي كانت اولى المراكز الثقافية الشيعية في التاريخ.

في مدرسة الكوفة وجامعها الكبير اغتنم الإمام الصادق فرصة ذهبية أوجدتها الظروف السياسية آنذاك، وهي أن الحكومة العباسية كانت جديدة العهد بعد سقوط الدولة الأموية ولم يكن للعباسيين يومذاك قدرة على الوقوف في وجه الإمام لانشغالهم بأمور الدولة، بالإضافة إلى أنهم كانوا قد رفعوا شعار العلويين للوصول إلى السلطة، فلم يكن من مصلحتهم في تلك الفترة الوقوف في وجه الإمام (ع)، فعمد في زمن وجوده (ع) إلى نشر علوم جمة، وتخرج على يديه الكثير من الطلبة النابغين. هذا الحسن بن علي بن زياد الوشاء يحكي لنا ازدهار مدرسة الكوفة في تلك الظروف كما ينقله عنه النجاشي: أدركت في هذا المسجد - يعني مسجد الكوفة - تسعمائة شيخ كل يقول: حدثني جعفر بن محمد.

وكان من خريجي هذه المدرسة لفيف من الفقهاء الكوفيين، نظير أبان بن تغلب بن رباح الكوفي، ومحمد بن مسلم الطائفي، وزرارة بن أعين، إلى غير ذلك ممن تكفلت كتب الرجال بذكرهم والتعريف بهم.

ولقد ألف فقهاء الشيعة ومحدثوهم في هذه الظروف في الكوفة (6600) كتاب، ولقد امتاز من بينها (400) كتاب اشتهرت بالأصول الأربعمائة فهذه الكتب هي التي أدرجها أصحاب الجوامع الحديثية في كتبهم المختلفة. ولم تقتصر الدراسة آنذاك على الحديث والتفسير والفقه، بل شملت علوما أخرى ساعدت على تخريج جملة واسعة من المؤلفين الكبار الذين صنفوا كتبا كثيرة في علوم مختلفة ومتنوعة كهشام بن محمد بن السائب الكلبي الذي ألف أكثر من مائتي كتاب، وابن شاذان ألف 280 كتابا، وابن عمير صنف 194 كتابا، وابن دول الذي صنف 100 كتاب، وجابر بن حيان أستاذ الكيمياء والعلوم الطبيعية، إلى غير ذلك من المؤلفين العظام في كافة العلوم الإسلامية.

ولما دب الضعف في السلطة العباسية وصارت السلطة بيد البويهيين تنفس علماء الشيعة في أكثر مناطق العراق، فأسست مدرسة رابعة للشيعة في العاصمة أنجبت شخصيات مرموقة تفتخر بها الإنسانية نظير:

الشيخ المفيد (336 - 413 ه‍) السيد المرتضى علم الهدى (355 - 436 ه‍)، السيد الرضي (359 - 406 ه‍)، الشيخ الطوسي (385 - 460 ه‍)

وكانت مدرسة بغداد زاهرة في عهد هذه الأعلام واحد بعد الآخر، وقام كل منهم بدور كبير في تطوير العلوم وتقدمها، وكان يحضر في حلقات دروسهم مئات من المجتهدين والمحدثين من الشيعة والسنة.

واستمر هذا الحال إلى أن ضعفت سلطة البويهيين، ودخل طغرل بك الحاكم التركي بغداد، فأشعل نار الفتنة بين الطائفتين السنة والشيعة، وأحرق دورا في الكرخ، ولم يكتف بذلك حتى كبس دار الشيخ الطوسي وأخذ ما وجد من دفاتره وكتبه، وأحرق الكرسي الذي كان الشيخ يجلس عليه.

هذه الحادثة المؤلمة التي أدت إلى ضياع الثروة العلمية للشيعة وقتل العديد من الأبرياء، دفعت الشيخ الطوسي إلى مغادرة بغداد واللجوء إلى النجف الأشرف وتأسيس مدرسة علمية شيعية في جوار قبر أمير المؤمنين (ع)، أنجبت هذه المدرسة.

وفي الوقت الذي كانت جامعة النجف تزدهر وتنجب جملة من العلماء الأفذاذ، تأسست للشيعة في الحلة الفيحاء جامعة كبيرة أخرى كانت تحفل بكبار العلماء، وتزدهر بالنشاط الفكري، عقدت فيها ندوات البحث والجدل، وأنشئت فيها المدارس والمكاتب، وظهر في هذا الدور فقهاء كبار كان لهم الأثر الكبير في تطوير الفقه الشيعي وأصوله، نأتي بأسماء بعضهم:

 المحقق الحلي، نجم الدين أبو القاسم جعفر بن سعيد، من كبار فقهاء الشيعة، يصفه تلميذه ابن داود بقوله: الإمام العلامة، واحد عصره، كان ألسن أهل زمانه، وأقواهم بالحجة، وأسرعهم استحضاراً توفي عام (676 ه‍)

العلامة الحلي، جمال الدين حسن بن يوسف (648 - 726 ه‍) تخرج على يد خاله المحقق الحلي في الفقه، وعلى يد المحقق الطوسي في الفلسفة والرياضيات، وعرف بالنبوغ وهو بعد لم يتجاوز سن المراهقة، وقد بلغ الفقه الشيعي في عصره القمة، وله موسوعات فيه أجلها " تذكرة الفقهاء " ولعله لم يؤلف مثله.

فخر المحققين، محمد بن الحسن بن يوسف (682 - 771 ه‍) ولد العلامة الحلي، تتلمذ على يد أبيه، ونشأ تحت رعايته وعنايته، وألف والده قسما من كتبه بالتماس منه، وقد تتلمذ عليه إمام الفقه الشهيد الأول (734 - 786 ه‍).

إلى غير ذلك من رجال الفكر كابن طاووس، وابن ورام، وابن نما، وابن أبي الفوارس الحليين، الذين حفلت بهم مدرسة الحلة، ولهم على العلم وأهله أياد بيضاء، لا يسعنا ذكر حياتهم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 10/كانون الثاني/2013 - 27/صفر/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م