في تونس وكما في مصر، يرى الاسلاميون الذين استلموا السلطة عبر
صناديق الاقتراع ان شعبيتهم تتآكل بسرعة وانهم يميلون للاحتفاظ بالسلطة
عبر الوسائل الاستبدادية. غير انهم لابد ان يتعاملوا مع وصايا الربيع
العربي. هم يواجهون ثقافة سياسية جديدة، حيث تأخذ الجماهير الرافضة
للحكومة طريقها الى الشارع، وحيث لا توجد هيبة للسلطة القائمة، ولم يعد
هناك اي خوف من قوات الجيش او الشرطة.
ان الاسلاميين مجبرون للبحث عن حلفاء لأنهم لم تعد لهم سيطرة لا على
الجيش ولا على القوى الدينية. واذا كانوا قادرين على ايجاد حلفاء من
بين السلفيين – المحافظين الدينيين – وفي اوساط الجيش، فان هاتين
المجموعتين هما ايضا غير مستعدتين للسماح لهما بالهيمنة. اذاً لا بد
للإسلاميين ان يتفاوضوا. هناك منطق كلاسيكي للسلطة يجري العمل به حاليا،
حيث ان الجماعة السياسية المسيطرة تجد من الصعب القبول بتداول السلطة
ولذا هي تسعى للاحتفاظ بها باي وسيلة كانت. علاوة على ذلك، لا توجد
هناك ديناميكية ثورية بين جموع الجماهير تسمح للجماعة الحاكمة بالسيادة
عبر الاحتكام للعواطف الشعبية في الشوارع العامة.
لا بد من دراسة الطبيعة الدقيقة لهذا التحول الاستبدادي لأنه لا
يحمل اي شبه بـ "الثورة الاسلامية" التي عادة ما ارتبط بها الاخوان
المسلمون في مصر وحزب النهضة التونسي. هي عكس ذلك، طبيعة محافظة ومن
المفارقة انها مؤيدة للغرب في مواجهة الثورات. لننظر الى مصر. اذا كان
الرئيس محمد مرسي نُدد به في ساحة التحرير كمبارك جديد وليس كامام
خميني جديد، ذلك بسبب ان خصومه تعلموا ان هدفه هو تأسيس نظام سلطوي
يستعمل الوسائل الكلاسيكية باللجوء الى الجيش والسيطرة على أجهزة
الدولة.
ان الاساس الانتخابي والاجتماعي للنظام المصري هو ليس ثورياً. انما
هو يحاول الوصول الى تسوية مع الجهات الاساسية الفاعلة في الربيع
العربي وذلك بالسعي لجعل جميع المؤيدين لنظامه الجديد يقفون الى جانبه.
التحالف الذي بناه يرتكز على شركات الاعمال والجيش والسلفيين وعلى بعض
العناصر المجتمعية التي يُفترض انها تعبت من الفوضى.
ان النموذج الاقتصادي لمرسي هو نموذج ليبرالي جديد مؤمن بحرية السوق.
هو يفضل سياسات التحرير وإنهاء الدعم والانفتاح على السوق العالمي.
حكومته وقّعت للتو على صفقة مع صندوق النقد الدولي تتضمن قرض بفائدة
جرى تبريره على اساس من الضرورة. قبل مرسي بتوقعات صندوق النقد الدولي
ليس لأنه اُجبر لهذا وانما لكونه الاتجاه الذي يؤمن به. هذا الاتجاه
سيجلب منافسة وخصصة اخرى. وبما ان الثمن الذي دفعته فئات واسعة من
الشعب كان باهضاً فان الحكومة ستحتاج الى تفعيل اجهزة القمع وتحطيم
النقابات. عليها ايضا ان تكسب إذعان الجيش مقابل الحصانة والحق في
تنظيم شؤونه الخاصة بما في ذلك المجال الاقتصادي.
ولكي تجذب الحكومة السلفيين الى جانبها، فان الأسلمة التجميلية
للمجتمع وفق النموذج السعودي وليس الايراني لابد ان تفي بالغرض، ذلك
يتضمن فرض ارتداء الحجاب، التمييز المستمر ضد المسيحيين الاقباط،
متطلبات احترام المعتقدات الدينية في الاماكن العامة والقيود على
الممارسات الدينية اللاارثودكسية (خاصة المراسم الصوفية التي يجريها
اتباع الصوفية الاسلامية).
الميدان الاوسع
ان الاسلاميين ولكي يطلقوا ايديهم داخلياً، يجب ان يجعلوا انفسهم
ضرورة لا غنى عنها للغرب- ذلك يتضح في الدور الوسيط الذي لعبته مصر في
ازمة غزة الاخيرة. تمكّن مرسي من اداء دور رائع في الساحة الدولية
حائزاً على موافقة الامريكيين على العملية. هو قاتل الاسلاميين
الراديكاليين في سيناء وأبعد نفسه عن ايران وسوريا. هو كان قادراً على
الحفاظ على تأثير السياسة الخارجية المصرية دون الانزلاق نحو قومية
ناصرية متشددة او حركة اسلامية. ان نجاح مرسي على المسرح الدولي شجعه
على اطلاق عضلاته في الداخل. وعلى الرغم من وجود مخالفات في الانتخابات
التي اوصلته للحكم، والتي قادت الى مواجهة قانونية مع القضاء، لا احد
يشك جديا انه ربح بواسطة الاخوان المسلمين والسلفيين. لكن مرسي ذهب
بعيداً وسريعا في محاولته تعزيز سلطة الرئاسة على حساب الجهاز القضائي
الذي كان قادراً على الاحتفاظ بدرجة من الاستقلال تحت حكم مبارك. ان
فشله في توقّع وادراك قوة الرأي العام جعل الموقف اكثر سوءاً.
المظاهرات التي انطلقت من قطاعات واسعة في المجتمع كانت اكبر بكثير مما
هو متوقع، وهي اضعفت الثقة بالاخوان المسلمين. الاصوات ارتفعت داخل
الاخوان المسلمين ضد هذا الصعود المفاجئ للاستبداد.
ان الوقت يسير ضد مرسي لأن الاجراءات الاقتصادية التي يريد ادخالها
ستجعل الحكومة وبشكل متزايد غير شعبية. وعلى الجهة الاخرى، الاحتجاجات
الشعبية المستمرة سوف تتطلب منه استدعاء الجيش الذي سوف يساعده ولكن
بثمن – لأن الاستقلال السياسي والاقتصادي الذي ينشده العسكر يتعارض مع
برنامج اخوان المسلمين في التحرر الاقتصادي. باختصار، النظام الجديد
معزول سياسيا.
والى جانب المسرح السياسي والشعبي، فان ساحة المعركة الاخرى للاخوان
المسلمين هي السيطرة على الوسط الديني. وكما في حالة النهضة في تونس،
تبين ان هذا الوسط اكثر تنوعا مما كان يُظن. اضافة الى ذلك، شاهدنا كيف
ان الرموز الدينية التي كانت طيعة نسبيا مثل احمد الطيب إمام الازهر،
أعادوا التأكيد مرة اخرى على الحرية التي منحها الربيع العربي. هذا
يعني ان الطريقة الوحيدة التي تستطيع بها الحكومة السيطرة على القوى
الدينية هي وضعها تحت سلطة الدولة (خاصة إخضاع المساجد الى اوامر وزارة
الشؤون الدينية).
في الحقيقة، ان سيطرة الدولة على الدين قد تجاوزت المؤسسات لتصل الى
الارثودكسية الدينية، مما قاد الى وضع القيود على الممارسات الصوفية
والنقاشات الثيولوجية. وحتى لو نجح الاخوان المسلمون في الجزء الاول من
العملية- تأميم المؤسسات الايمانية- فان الثمن الذي يتوجب عليهم دفعه
سيكون غالياً، لأن الائمة سوف لن يقبلوا بتحويلهم الى خدام مدنيين. هم
ايضا يخاطرون في تحطيم الديناميكية الدينية لحركتهم، فلو سيطرت الدولة
على الدين، ما الفائدة اذاً من اخوة المسلمين الدينية؟ واذا اصبح الدين
متجسد بالدولة سيكون هناك خطراً كبيراً في تأثير فقدان شعبية الحكومة
على المؤسسات الايمانية.
سيتم تحديد هوية الاخوان المسلمين بجناحهم السياسي فقط. ان تأميم
الدين يهدد اما بتصاعد الممارسات غير الارثودكسية او بعلمانية المجتمع.
الاخوان المسلمين سيفقدون روحهم. وهم في هذه العملية سيفقدون المسيحيين
الاقباط والليبراليين والعديد من النساء الخائفات من مستقبل الأسلمة
المفروضة من الدولة.
ان الاخوان المسلمين جازفوا كثيرا بمحاولة السيطرة بالقوة. ان اولى
ضحايا الطريقة التي مارسوا فيها الحكم هي ايديولوجيتهم. لم يأت الاسلام
لهم بالحل وانما هم استخدموه كخطاب لحشد السلفيين.
فاذا كان ما يسمى بالمعارضة الليبرالية (التي تحتوي ايضا على القليل
من العناصر الديمقراطية) ترى انها لا تستطيع الاقدام على صدام مباشر مع
الحكومة وبدلا من ذلك تعرض نفسها كبديل سياسي موثوق، فان الاخوان
المسلمين سيدفعون ثمنا باهضاً في مغازلتهم للسلطوية التي تسعى الى
علمنة السياسة في مصر. سيصبح الدين مجرد اداة واحدة للسيطرة من بين
الوسائل الاخرى- بدلا من ان يكون خياراً ايديولوجياً اجتماعياً
اقتصادياً. هذا باختصار هو فشل الاسلام السياسي.
ممارسة نفس اللعبة
في تونس، تتكرر نفس اللعبة. النهضة لم تكن حركة قوية ولا هي متجذرة
كالاخوان المسلمين. هي حركة متنوعة الاطياف احد فروعها هو اكثر واقعية
ان لم يكن اكثر ليبرالية. اما السلفيون التونسيون فهم ليسوا حلفاءاً
موثوق بهم بسبب تبنيهم العنف. ان المجتمع التونسي استوعب ثقافة
الاحتجاج بصورة اكثر عمقا مما كان في مصر. وعلى المستوى المحلي، اصبحت
المظاهرات والاحتجاجات ضد الحكومة امراً شائعا مع انه يصعب احيانا فهم
دوافع واستراتيجية هؤلاء النشطاء والمنظمين المحليين (بعضهم مجرمون او
زمر تسعى بقوة لممارسة دور لا يجب التقليل من اهميته).
وفي تونس ايضا توجد اقوى الحركات النقابية في العالم العربي. اتحاد
العمال التونسيين لديه شبكة وطنية من النشطاء المنظمين جيدا قادرين على
توجيه الاحتجاجات الشعبية. حزب النهضة هو في صدام مع النقابات اما لنفس
الاسباب القائمة في مصر (الإعجاب بحرية الاسواق) او لأسباب اكثر
ارتباطاً بتونس (هي ترغب بتحالف مع اليسار لكنها لا تقوى على المنافسة
مع الحركة الشعبية الحقيقية للنشطاء الشعبيين).
كذلك، لا تسيطر النهضة على قوات الامن. الجيش يسعى بالتأكيد للحفاظ
على الامن، لكنه لا يخاطر بإظهار نفسه كأداة قمع ضد الشعب التونسي.
اخيراُ، لم تنجح النهضة في السيطرة على الشأن الديني ولديها القليل من
الوسائل للقيام بهذا مقارنة بالاخوان المسلمين في مصر. في اكتوبر، قام
مئات الأئمة بتوقيع عريضة صوتوا فيها للنهضة لكنهم عارضوا جميع محاولات
إخضاع المساجد والمؤسسات الايمانية لفلك الدولة. وكما في مصر، ترغب
النهضة باستخدام وزارتها الخاصة للشؤون الدينية للسيطرة على المجال
الديني، رغم ان هذه الدولنة "سيطرة الدولة على الدين" قد ترتد ضد
الحركة.
الشعبية المفقودة
ان الصعوبات التي واجهها الاسلاميون في كلا الدولتين ادت الى تدنّي
واضح في شعبيتهم بما يجعلهم عرضة للهزيمة في الانتخابات القادمة. ولكن
السؤال الاكثر الحاحاً هو المتعلق بالبديل السياسي للاسلاميين. ان قادة
الاحزاب السياسية الجديدة يعانون من مشكلة المصداقية: هم يرتبطون مع
المحتجين في الشارع فقط بخيط رفيع، هم عادة مرتبطون بالانظمة القديمة
ويحملون انطباع النخبة عن الحياة السياسية. المعارضة، باختصار، هي
بعيدة جداً عن امكانية بناء تحالف موثوق به. المعارضة التونسية بالذات
تعاني من تميزها كنخبة علمانية في العاصمة عارضت بقوة اي اسلمة للمجتمع.
انها تعاني ايضا من عجز ديمقراطي، كونها دائما دعمت سياسة القمع ضد
النشطاء الدينيين. اخيراً، انها تجد من السهل التجمهر في باريس وليس في
شوارع تونس. اذا كانت هناك معارضة موحدة وذات مصداقية فانها ربما تهزم
النهضة في الانتخابات القادمة. وبالنتيجة، فان فرص بقاء الديمقراطية في
تونس هي افضل من مصر.
في كلا البلدين، غيّر الربيع العربي الاشياء بما لا رجعة فيه. (ثقافة
سياسية جديدة ارتبطت بظهور جيل جديد، تنوع الطبقة الدينية، تغيير في
السياق الجيوستراتيجي قاد الاسلاميين ليجدوا انفسهم ليسوا في المعسكر
المضاد للغرب "برجزة" الاسلاميين، كذلك تغيير اتجاه الحركات الثورية
نحو الاحزاب المحافظة)، وهناك عامل جديد ساهم في تطبيع الاسلاميين-
ممارستهم للسلطة. لم ينجح الاسلاميون لا في المجالات الاقتصادية
والاجتماعية ولا في اعطاء الانطباع بانهم مهندسون لمشروع اجتماعي حقيقي
يتجاوز اضفاء الطابع الاسلامي على مجتمع يفقدون السيطرة عليه باستمرار.
يمكن للاسلاميين استخدام الاساليب القديمة (اتهام خصومهم بالخيانة،
فرض الرقابة على المطبوعات، قانون الاحكام العرفية وحالة الطوارئ)، لكن
هذا سوف لن يمنع الناس من استدعائهم للحساب. لكي يتجاوزوا الصعوبات
الاقتصادية وحالة التقشف عليهم اتخاذ المزيد من الاجراءات لعقد تسوية
تاريخية مع الليبراليين. البديل لهذا التحالف هو ليس "ثورة اسلامية".
ما يحصل هو تحالف محافظ في السياسة والاخلاق لكنه ليبرالية جديدة في
الاقتصاد وانفتاح على الغرب. النموذج في هذا هو حزب العدالة والتنمية
في تركيا الذي خبر العمل مع المؤسسات القائمة والمجتمع المدني. هذا سمح
له التوفيق بين الدولة القوية والاقتصاد الليبرالي وبين الحزب الاسلامي
المحافظ والمجتمع المنفتح.
بالمقابل، اذا رغب الاخوان المسلمون في تسخير اجهزة الدولة
لمصلحتهم، فهم سوف يخسرون في جميع المجالات. سيخسرون دعم الفئات
المؤيدة للسلفيين الذين هم اقل استعداداً للمساومةً، وفي مجال الاعمال
سيخسرون لليبراليين بالاضافة الى الجيش (الذي جرى فيه تهميش الحرس
القديم من الجنرالات والمرشالات). ان حماس ومعنويات المحتجين لا يبدوان
على وشك النفاد.
.....................................
ترجمهُ عن الفرنسية Jonathan Derbyshire. ونُشر في
The New Statesman عدد 13 ديسمبر 2012.
Olivier Roy رئيس برنامج المتوسط في معهد الجامعة
الاوربية في فلورنسا. هو مؤلف كتاب "الجهل المقدس" الصادر عن (C Hurst&
Co). |