مَنْ يريد تشّخيص علّة الوضع السّياسي المتردي في العراق، عليه أنْ
يبدأ بتحليل مواد الدّستور، الذي يعتبر الأصل الذي تقوم عليه مهمّة
بناء الدّولة. لقد وصف السيّد رئيس الوزراء نوري المالكي، الدّستور،
وهو أحد أعضاء لجنة كتابة الدّستور، بأنّه دستور ملغّم. (... الدّستور
قد تضمّن " ألغاماً بدأت تتفجر وليس حقوقاً ". ودعا إلى تعديله، بما
يحقق دوّلة المواطنة، واعتماد الأساس الوطني والانتماء للوطن، بعيداً
عن بقية الانتماءآت.)(في حديث مع الصحفيين بتاريخ 23/8/2011 / موقع
البوابة).
ومِنْ هذه الألغام القابلة للإنفجار في أيّ وقت، عدم إدراك المفهوم
الصحيح للفدراليّة، سواءً على مستوى المركز، أو على مستوى الإقليم. فهل
المقصود من الفدراليّة التوسع في الصلاحيّات، أم الاستقلال عن المركز؟.
قبل أسابيع وصل الاحتدام بيّن المركز والإقليم إلى مداه الخطر. كان
ذلك على خلفيّة تشكيل قيادة قوّات دجلة، وكادت الحرب أنْ تُشن بيّن
الجانبيّن.
وتمّ معالجة الموضوع بالطريقة السّائدة، التي تحلّ بها أزمات
العراق السّياسيّة. فالأزمة السّياسيّة، تبلغ مداها الأقصى في التوتّر،
وقبل نقطة الانفجار، تتدخّل جهة مّا، لحلّ الموضوع وتسويّة الأمور بيّن
الأطراف المتنازعة، (على طريقة الأواني المستطرقة، تنازل مناسيب
المصالح وتصاعدها)، لتعود المياه إلى مجاريها الطبيعيّة. ودائماً
التسويّة تكون ليّس على أساس دستوريّ أو قانونيّ، وإنّما على أساس
توافقيّ. حتى وإنْ كان ذلك فيه خرق للدّستور، (كما حصل في اتّفاق أربيل،
حوّل تشكيل مجلس السّياسات العليا، وتبيّن أنّه إتّفاق مخالف للدستور).
وإنّي لأعجب من موقف إخوتنا الكورد، وهُمْ شركاؤنا بالوطن، كيّف
يتحسّسون بهذا الشكل من قوّات دجلة، وهي ماضية لحماية الحدود العراقيّة
السوريّة، لمنع تسرّب الإرهابييّن من سوريا إلى العراق؟.
ولا يتحسّسون من استباحة القوّات التركيّة، لأراضي الإقليم وبعمق
عدّة كيلومترات. إضافة لقصّف الأتراك لبعض مناطق الإقليم، بالمدفعية
الثقيلة والطائرات. ومن المضحكات المبكيات، أنْ تقوم يوم الثلاثاء
18/12/2012، الدفاعات الجويّة في إقليم كردستان العراق، بإطلاق النّار
على طائرة سمتيّة عراقيّة، تقوم بواجب مراقبة الحدود، مما أدى إلى
إجبارها للخروج من أجواء الإقليم.
إضافة لما تقدّم، فقدّ عكست أحداث اعتقال مجموعة من حماية، السيّد
وزير الماليّة رافع العيساوي يوم 19/12/2012، الوضع العراقي الهشّ،
الذي تحرّكه بكلّ بساطة إرادات السّياسيّين المتخاصمين، بتوظيف أبعاد
الشّحن الطائفي والمناطقي والقومي. ففي صباح يوم 26/12/2012 وصل السيّد
رافع العيساوي، مع عدد من أعضاء مجلس النواب من القائمة العراقيّة، إلى
محافظة الأنبار لينضمّوا (في أوّل ظهور لهم)، إلى المعتصمين المتواجدين
على الطريق الدّولي السريع، في محافظة الأنبار. وألقى السيّد العيساوي
خطاباً أدان فيه، اعتقال عدد من أفراد حمايته من قبل القوات الأمنيّة،
على خلفية اتهامهم بقضايا إرهابيّة. كما سرد قائمة مِنَ المَظالم التي
ادعى فيها، أنّ حكومة السيّد المالكي، تستهدف المكوّن السنّي. منها
(الظلم والتّهميش والتّمييز وازدواجية المعايير، فضلاً عن تسييس
النّظام القضائي، وعدم احترام القانون والشراكة والدّستور). وقد كان من
بيّن المتكلمين في هذا التجمع، رجال دين وأبناء عشائر، اتهموا جهات
حكوميّة بالاعتداء الجنسي على المعتقلات العراقيات، وطالبوا بالافراج
عن المعتقلين.
إنّ الصراعات السّياسيّة قائمة على أساس، (شعارات) تحقيق المنافع
والمصالح الخاصّة بالقوميّة والطائفة والفئة. وفي بعض الأحيان النّزول
إلى مستوى تحقيق مصالح كتلة سياسيّة معيّنة. وكانت هذه الأزمات تنتهي
دائماً، بطريقة التّراضي. في حين نلاحظ بالدّول المتقدّمة، تكون
الاختلافات السّياسيّة، مبنيّة على خلفيّة وجود مصلحة للشّعب كلاً أو
جزءاً. في هذه الدّول، عندما يُسنْ تشريع أو تصدر تعليمات إدارية، تضرّ
بمصالح الشّعب أو قطاعات معيّنة منه، أو عدم تحقيق العدالة في المنافع،
لكلّ قطاعات الشّعب، ينقسم السّياسيون إلى فئتيّن. فئة ترى بأنّ ما
يُسنْ ويُشرّع، يصبّ في صالح جماهير معينة، بيّنما ترى الفئة السّياسية
المعارضة عكس ذلك. إذنْ جوّهر الخلاف بيّن أولئك السياسييّن، هو تأمين
مَنفعة ودفع مَفسدة، عن أبناء الشّعب، أو قطّاع من جماهير الشّعب. ولا
نلاحظ إطلاقاً، بأنّ هناك جهة ثالثة، تدخل بين الفرقاء السياسييّن
المختلفين، لتسوية الخلافات بيّنهم، كما يحصل عندنا في العراق الجديد،
لأنّ القضيّة هي قضيّة مبدأ فحسّب.
الخلافات السّياسيّة في العراق، تعقّدت بيّن العاملين بالسّياسة،
وتحتاج دائماً لـ(مُنَجِّم) يقرأ طالع الطرفيّن المتنازعيّن، ويتدخّل
لفتح فأل جديد، يُبَصّرُ به أطراف النّزاع، ويوعدهم بمستقبل زاهر
ينتظرهم، إذا ما تجاوزوا حدود هذه الأزمة. وهذا (المُنَجِّم) لا يهم
أكان مِنَ السّياسييّن، أو مِنْ رجال الدّين أو مِنْ الأمريكان
والإنكليز، أو من القطرييّن أو السعودييّن، أو حتى من الايرانييّن
(الذين يصفهم البعضّ بأنهم مجوس!!!).
وفي مرّات عديدة، كان لتدخل السيّد رئيس الجمهوريّة، أمرٌ حاسمٌ (في
نزع فتيل الأزمة). فينجح سيادته بتفّكيك طلاسم الخلاف بيّن المتنازعين،
فيُبعد النَّحسْ بحكمته عن فرقاء الخلاف. وكأنّ عنده (خاتم سليّمان، أو
خرزة محبّة)، أو تعويذة تطرد الشرّ، عن نفوس الأصحاب. وصيّغة منتهى
الجّموع، أنْ تتمخض الأزمة في نهاية أمرها، عن توقيع ورقة تعهّد، يكفل
كلّ طرف فيها مصالح الطّرف الآخر، بعيداً عن سلطة الدّستور وقوّة
القانون.
ومن سوء حظّ العراقيين، أنّ السيّد الرئيّس رجل طاعن في السّنْ،
ومصاب بعدة أمراض مزمنة، وإذا ما قضى نحبه (لا سمح الله)، فإنّه سيترك
فراغاً مُوحِشاً، يخلع قلوبَ العاملين معه بالسّياسة. ومن أجل الحفاظ
على سلامة السيّد الرئيس، وديمومة إبقائه معافى، ليظلَ مستمراً في
مبادرات التسويّة بيّن السّياسيّين. تحرص الحكومة العراقيّة على علاجه
وتأهيله صحيّاً، في أرقى المصحّات العالميّة. بالرغم مِنْ أنّ ذلك
يكلّف ميزانيّة الشّعب العراقيّ، ملايين الدولارات.
ومِنْ سوء حظّنا، أنْ يصاب السيّد الرئيس يوم الخميس 20/12/2012
بجلطة دماغيّة، وهو يخوض غمار تصفية أجواء أزمة سياسيّة معقدة، (في نظر
العاملين بالسّياسة). فرئيسُنا يعرف تماماً، مفاتيح عقول فريق العمل
السّياسي، ويُتقنُ ضَبْط إيقاع النّغمات، التي تُرضي أذواقَهم. ولهذا
يُوصَف سيادتُه، مِنْ قِبَلِ جميع أصدقائه العاملين في السّياسة بأنّه:
(شخصية تقف بمسافة واحدة من الجّميع... وإنّه شخص يحبّ الجميع والجميع
يحبّه أيضاً...الخ).
وأنا شخصياً لي رأي في هذه الأوصاف، التي يُوصَف بها السيّد رئيس
جمهوريّتنا الموقّر، فأقول: لا يمكن أنْ يَقبَل العَقّل، أنّ شخصاً
مّا، يُرضِي صاحِبَ حَقٍّ، وبالوقت نفسه، يُرضِي صاحِبَ باطلٍ. فمواقف
الإنسان هي أساساً، أمّا متطابقة مع مبدأ الحقّ والعدل، أو متطابقة مع
مبدأ الباطل والظُلم. وعلى هذا الأساس لا يمكن تصوّر شخصيّة، تقف
بمسافة واحدة من الجميع، فتُرضِي الجميع، ويَرضَى عنها الجميع. فأمّا
الجميع على حقّ في مواقفهم، فيرضون به إذا كان يحكم بيّنهم بالحقّ. أو
الجميع على باطل في مواقفهم، فيرضون به إذا كام يحكم بيّنهم بالباطل.
وإذا كانت الأطراف المتنازعة فيها أصحاب حقّ، وفيها أصحاب باطل، فلا
أحد يستطيع إرضاء الجميع. يبقى احتمالٌ آخر، هو أنّ الجميع ينافقون
ويمارون بعضهم لبعضّ. وعندما يصدق الاحتمال الأخير، فإنّ الوضع
العراقيّ، لا يحتاج هكذا رجال يديرون دفّة السُلطة بطريقة التراضي،
خصوصاً أنّ العراق يمرّ بظرف حسّاس وحرِج، محلياً وإقليمياً ودولياً.
فالعراق بوضعه الحاليّ، يحتاج إلى رجال حازمين، لا تأخذهم في الحقّ
لومة لائم. ومن الواضح للعيان، أنّ العراق بمنظومته الدّستوريّة
والقانونيّة الحاليّة، وبمنظومته السّياسيّة المتصارعة بعضها مع بعضّ.
وبمنظومته الإدارية، التي يشيّع فيها الفساد، وهدّر المال العامّ، إنّه
سَيبقى عاجزاً عن رسم معالم الدّولة المستقرّة، التي يَصبو إليها أبناء
العراق. وإنّي لا أرى في صورة العراق بوضعه السياسي الحاليّ، إلاّ أنّه
يغُذّ السَيّر نحو التّقسيم والتّفتتّ. وهذا مطلب الإدارة الأمريكيّة،
التي لوّحت بمشروع بايدن لتقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم. وتعزّز هذا
المشرع، بإصدار الكونكرس الأمريكي، قراراً غيّر ملزم بتطبيق مشروع
(بايدن – غيلب) في مايس 2007. فإذا عَاشَ الرَئِيسُ، أو مَاتَ
الرَئيسُ، فالعراقُ تَعِيس.
* كاتب و باحث عراقي
mjsunbah1@gmail.com |