فرنسا والجزائر... استعمار قديم جديد متعدد الأوجه والمقاصد

كمال عبيد

 

شبكة النبأ: تعد فرنسا واحدة من أهم القوى الدولية التي كان حضورها - ولا يزال - قوياً وفاعلاً على المسرح الاستعماري، غير أن المستجدات والأحداث والتطورات في فرنسا والنظام العالمي الجديد على حد سواء، اي انفراد الولايات المتحدة بوضعية القوة العظمى والقطب الأوحد في العالم على المستويات كافة، دفع القوى العالمية الأخرى ولاسيما فرنسا انتهاج سياسية جديدة تتوافق مع التطورات الجديدة على الأصعدة كافة، وذلك باعتماد إستراتيجية جديدة لضمان تحقيق مصالحها الاقتصادية والإستراتيجية والسياسية في البلدان الأخرى وأهمها المستعمرة سابقا.

إذ تحاول فرنسا اليوم رسم إستراتيجية جديدة في تلك البلدان تتواءم مع المعطيات الجديدة، وهو ما اتضح جليا من خلال إعادة بناء النهج الاستعماري بصورة ناعمة ان صح التعبير، وذلك من خلال اعترف فرنسا مؤخرا ب"المعاناة" التي تسبب فيها الاستعمار الفرنسي للجزائريين الذي دام اكثر من قرن، ودعت الى ضرورة نسيان الماضي وتفكير ببناء المستقبل، بعدما شوهت روح الاستعمار العلاقات بين البلدين لفترة طويلة، ويعتقد محللون سياسيون ان اعادة تحسين العلاقات الفرنسية مع الجزائر الان لها أجندة ودوافع عديدة تتمثل بالمصالح الاقتصادية الفرنسية في الجزائر، اي البحث عن أسواق لتصريف السلع الفرنسية المصنَّعة، وكذلك من اجل المصالح الإستراتيجية والتي تتمثل بالوصول إلى الموارد الطبيعية الإستراتيجية التي تملكها الجزائر الغنية

بالموارد الطبيعية، وهناك أيضاً مصالح سياسية والمتمثلة في الحفاظ على استقرار النظام الجزائري، الذي نأى عن رياح الربيع والعربي من اجل ضمان المساندة السياسية والاحتفاظ بعلاقة اقتصادية قوية، وعليه مهما تتعدد واختلفت الأجندة الاستعمارية لفرنسا، لا يبدو انها ستحصل على مرادها بسهلة، نظرا لما تركت صدمة حرب الجزائر التي دارت بين عامي 1954 و 1962 -والتي قتل فيها مئات الآلاف قبل انسحاب فرنسا- آثارا عميقة في كلا البلدين ما زالت تقيد قيام شراكة بينهما ترى فرنسا انها يمكن ان تساهم في إنعاش منطقة حوض البحر المتوسط.

صراع الماضي والمستقبل

فقد صرح وزير الخارجية الجزائري مراد مدلسي ان خطاب الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند امام اعضاء البرلمان الجزائري "لم يهمل لا الماضي ولا المستقبل" بينما وصفه وزير المجاهدين بانه "قريب" مما نتمناه، وقال مدلسي في اول رد فعل رسمي على خطاب هولان الذي اعترف فيه ب "المعاناة الكبيرة التي تسبب فيها الاستعمار الفرنسي للجزائريين"، ان "الخطاب لم يهمل لا الماضي ولا المستقبل"، معتبرا ان هولاند "ركز في خطابه على جور النطام الاستعماري والمعاناة الكبيرة للشعب الجزائري".

واوضح مدلسي ان "هولاند ابرز في خطابه ثقافة السلم واحترام الاخر، وهما مبدأين اساسيين لبلادنا ودبلوماسيتها ولا يمكن الا ان نجد انفسنا في في هذه المبادئ وتطبيقها في الميدان"، كما اشار الرئيس الفرنسي ايضا الى "اي تعاون لا يمكن ان يكون صادقا الا اذا كان متوازنا"، من جهته رأى وزير المجاهدين (المحاربون القدامى) محمد شريف عباس ان الخطاب الذي القاه فرانسوا هولاند "قريب مما نتمناه بنسبة محترمة" بخصوص الاعتراف ب"جرائم الاستعمار الفرنسي" في حق الشعب الجزائري. بحسب فرانس برس.

واكد محمد شريف عباس احد اهم المطالبين باعتذار فرنسا في تصريح لوكالة الانباء الجزائرية ان هذا الخطاب "سيكون محل دراسة و تحليل معمق وآنذاك ممكن ان نوضح الرؤية أكثر فأكثر. لكن على العموم فهو خطاب متفائل (...) و"تصريح جيد"، وكان اعضاء من غرفتي البرلمان الجزائري حيوا "التقدم" في خطاب الرئيس الفرنسي، وقالت نائب رئيس مجلس الامة والمناضلة خلال حرب التحرير زهرة ظريف بيطاط ان خطاب هولاند "يظهر نية في العمل المشترك ويقضي نهائيا على روح الاستعمار الجديد التي شوهت العلاقات بين البلدين".

نهج استعماري ناعم

فيما اعترف الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند امام البرلمانيين الجزائريين ب"المعاناة" التي تسبب فيها الاستعمار الفرنسي للجزائريين الذي دام اكثر من قرن، ودعا في ثاني يوم من زيارته لهذا البلد الى ضرورة قول الحقيقة حول الماضي "مهما كانت مؤلمة"، وبدأ فرنسوا هولاند زيارة دولة الى الجزائر يرافقه مئتا شخصية سياسية وثقافية وفنية منهم تسعة وزراء، واكد الرئيس الفرنسي في خطاب امام اعضاء مجلسي البرلمان الجزائري انه يعترف ب"المعاناة" التي تسبب فيها الاستعمار الفرنسي للشعب الجزائري.

وقال "اعترف هنا بالمعاناة التي تسبب فيها الاستعمار للشعب الجزائري"، وذكر احداث "سطيف وقالمة وخراطة (التي) تبقى راسخة في ذاكرة الجزائريين ووجدانهم"، واوضح هولاند انه "خلال 132 سنة (1830-1962) خضعت الجزائر لنظام ظالم ووحشي (...) وهذا النظام يحمل اسما هو الاستعمار"، ووسط تصفيق البرلمانيين الجزائريين المجتمعين، قال هولاند انه "في الثامن من ايار/مايو 1945 بسطيف (300 كلم شرق الجزائر) عندما كان العالم ينتصر على البربرية تخلت فرنسا عن مبادئها العالمية"، واضاف "يجب ان نقول هذه الحقيقة لكل من يريد وخاصة الشباب" الذين يشكلون نصف عدد السكان الجزائريين "لتعيش الصداقة بين البلدين"، وقال الرئيس الفرنسي انه "مهما كانت الاحداث مؤلمة لا بد ان نفصح عنها" ولا يجب ان نبني علاقاتنا "على نسيان ما حدث"، واكد الرئيس الفرنسي انه "يجب قول الحقيقة ايضا حول الظروف التي تخلصت فيها الجزائر من النظام الاستعماري، حول هذه الحرب التي لم تسم باسمها في فرنسا، اي حرب الجزائر"، وتابع "نحن نحترم الذاكرة كل الذاكرة (...) ومن واجبنا ان نقول الحقيقة حول العنف والظلم والمجازر والتعذيب".

ويدرس الثامن من ايار/مايو 1945 في المدارس الجزائرية على انه مناسبة وطنية قتل فيها الجيش الفرنسي "45 الف جزائري" واحد اسباب قيام حرب التحرير في 1954 التي ادت الى استقلال الجزائر عن فرنسا في 1962، ويتحدث المؤرخون الفرنسيون عن سقوط ما بين 15 الى عشرين الف قتيل منهم 103 اوروبيين، وكان هولاند اعلن في اليوم الاول من زيارته انه لم يأت الى الجزائر "للاعتذار او التعبير عن الندم" ولكن لفتح صفحة جديدة في العلاقت بين البلدين، وصرح رئيس فرنسا الدولة المستعمرة السابقة للجزائر "لم آت الى هنا للتعبير عن الندم او الاعتذار، جئت لاقول ما هو حقيقة وما هو تاريخ".

وقال هولاند في مؤتمر صحافي "هناك حقيقة يجب قولها حول الماضي وهناك خاصة ارادة للنطر للمستقبل، وزيارتي هي للمستقبل وهي من اجل تعبئة مجتمعينا"، كما وعد هولاند بتحسين "ظروف الاستقبال" وتسهيل اجراءات الحصول على التأشيرة الفرنسية بالنسبة للجزائريين لتفادي "اهانة" طالبي التاشيرة، وقال ان مصلحة البلدين تنظيم مسألة الهجرة لكن ايضا السماح للجزائريين بالتحرك. وكشف ان فرنسا تصدر حوالى مئتي الف تأشيرة للجزائريين سنويا.

من جهة اخرى طالب هولاند بان "تفتح الجزائر ابوابها اكثر للفرنسيين الذين يريدون زيارتها"، وابرز ما سيميز المستقبل بين البلدين التوقيع على ستة اتفاقات تخص الدفاع والاقتصاد والتعليم، بالاضافة الى توقيع على اعلان "الصداقة والتعاون" بعد التخلي عن "معاهدة الصداقة" بسبب فشل المفاوضات حولها منذ 2003.

ومن ابرز الاتفاقات الاقتصادية التي تم توقيعها بحضور الرئيسين الجزائري والفرنسي، عقد انشاء مصنع لسيارات رينو في وهران (غرب) يعطي للشركة الفرنسية "الامتياز الحصري في السوق الجزائرية لمدة ثلاث سنوات" لا يمكن خلالها عقد اي اتفاق مشابه مع مصنع آخر للسيارات، بحسب وزير الصناعة الجزائري شريف رحماني، وأوضح رحماني ان مصنع رينو الذي سيدخل مرحلة التشغيل في غضون "18 شهرا" سيبدأ في انتاج 25 الف وحدة سنويا للوصول "بسرعة" إلى 75 الف وحدة يتم تصدير حصة منها نحو بلدان "خارج الاتحاد الأوروبي"، وكان رئيس مجلس الامة (الغرفة الثانية في البرلمان) عبد القادر بن صالح رحب بالرئيس الفرنسي بوصفه "صديق الجزائر الذي وقف الى جانبها في الاوقات الصعبة"، وقال "نستقبلكم كصديق للجزائر التي تعرفونها وتعرفكم"، واضاف "ندرك ارادتكم الى جانب ارادة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لاعطاء دفع جديد للتقارب بين البلدين واننا نشارككم هذا المسعى"، وتابع بن صالح "اننا نعلم انكم تقاسموننا القناعة بضرورة اعتماد سياسة متجددة في العلاقات".

واعتبر هولاند زيارته للجزائر التي وصفها ب"الضرورية"انها ستفتح "عهدا جديدا" بين البلدين بعد خمسين عاما على استقلال الجزائر، ووضع الرئيس فرنسوا هولاند اكليلا من الزهور ووقف دقيقة صمت امام "مقام الشهيد" وهو النصب التذكاري المخلد ل"شهداء" حرب استقلال الجزائر بعد 132 سنة من الاستعمار الفرنسي، وقبلها ترحم هولاند على روح المناضل الفرنسي من اجل استقلال الجزائر موريس اودان الذي قتل بعد توقيفه من طرف الجيش الفرنسي في 1957، وتحمل اهم ساحة في وسط العاصمة الجزائرية اسم موريس اودان، الذي تقول ارملته انه توفي تحت التعذيب.

وخطى الرئيس الفرنسي بعض الخطوات برفقة رئيس الوزراء الجزائري عبد المالك سلال لتحية الجزائريين الذين اصطفوا على جانبي شارع ديدوش مراد الذي يعبر ساحة موريس اودان، وسيكون لفرنسوا هولاند فرصة اخرى للتعبير عن ارادته بفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين خلال الزيارة التي تقوده الى ولاية تلمسان التي ينحدر منها الرئيس بوتفليقة والتي تزينت لاستقباله، ويلقى هولاند خطابا امام طلاب جامعة ابو بكر بلقايد كما ستقدم له دكتوراه شرفية، ومن تلمسان سيعود الرئيس الفرنسي والوفد المرافق له الى باريس منهيا زيارة "كانت منتظرة لانها الاولى التي اقوم بها باعتباري رئيسا للجمهورية ولانها الاولى الى هذه المنطقة ولانها زيارة تاتي في 2012 وهو تاريخ رمزي، بعد خمسين سنة على استقلال الجزائر"، على حد تعبيره.

اعتراف صريح بجرائم الاستعمار

من جهته اكد وزير جزائري الثلاثاء ان مواطنيه يريدون من فرنسا "اعترافا صريحا" بجرائم الاستعمار، معتبرا اعتراف الرئيس الفرنسي ب"قمع" المتظاهرين في 1961 "اعترافا سياسيا"، ونقلت وكالة الانباء الجزائرية عن وزير المجاهدين (قدامى المحاربين) محمد شريف عباس "انه بالنظر لما اقترفه هذا المستعمر من جرائم في حق شعب اعزل وبالنظر لمخلفاته والاثار العميقة التي تركها (...) من تنكيل وتعذيب وبطش ودمار فالجزائريون يريدون اعترافا صريحا لما ارتكب في حقهم"، واوضح الوزير عشية احتفال الجزائر بمرور 58 سنة على "اندلاع الثورة" (حرب التحرير 1954-19662) بخصوص اعتراف فرنسا ب "قمع" تظاهرات 17 تشرين الاول/اكتوبر المؤيدة للجزائريين في باريس ان هذا "اعتراف سياسي بالدرجة الاولى وهذا بالنظر للطريقة التي صيغ بها"، وكان الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند اعترف رسميا بان فرنسا مارست "قمعا دمويا" بحق المتظاهرين الجزائريين الذين خرجوا الى شوارع باريس في 17 تشرين الاول/اكتوبر 1961، واضعا بذلك حدا لصمت رسمي دام 51 سنة حول تلك الاحداث. وقال هولاند ان "الجمهورية تعترف بوعي بتلك الوقائع"، ورحب رئيس الوزراء الجزائري عبد المالك سلال بما وصفه "النوايا الحسنة" من جانب فرنسا لطي الصفحة الدامية لتظاهرة 17 تشرين الاول/اكتوبر 1961 التي قتل خلالها مواطنون جزائريون، لكن من دون نسيان هذه الوقائع، واضاف سلال بحسب وكالة الانباء الجزائرية ان زيارة الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند المرتقبة في بداية كانون الاول/ديسمبر للجزائر تمثل دليلا على الارادة في طي هذه الصفحة من التاريخ من دون ان يعني ذلك نسيانها، واعتبر محمد شريف عباس ان رسالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الى نظيره الفرنسي بمناسبة عيد فرنسا الوطني "سامية في المعنى ودقيقة وعميقة في الطرح".

وقال ان "الجروح التي أحدثتها لدى الجزائريين هي جروح عميقة لكننا نريد مثلكم أن نيمم شطر المقبل من الأيام وأن نحاول أن نصوغ منها مستقبلا يسوده السلم والرخاء لصالح شباب بلدينا"، وتابع " لقد آن الأوان في سبيل ذلك للتخلص من أدران الماضي بان نخضعه سويا ضمن المناسب من الأطر لفحص حصيف وشجاع سيساهم في تعزيز أواصر الإعتبار والصداقة بيننا"، وقال عباس "لا يمكننا ان نخرج عن نطاقها (الرسالة) وما نرغبه نحن من الطرف الاخر هو يدركه وما يرغبه الطرف الاخر منا نحن ايضا ندركه".

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 24/كانون الأول/2012 - 10/صفر/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م