اصدارات جديدة: بين مطر حزيران وصباح الغضب

 

 

 

الكتاب: مطر حزيران

الكاتب: جبور الدويهي

عرض: أندرياس بفليتش

 

 

 

 

 

 

 

شبكة النبأ: في روايته "مطر حزيران" يعرض الكاتب جبور الدويهي (وهو من مواليد 1949) أمام الأعين كيف يمكن لهذه الأحداث المكبوتة أن تبقى حية عبر زمن طويل، وبأي زخم يمكن للصدمات فرض نفسها بعد مرور عقود من الزمان. وتتمحور الرواية حول مجزرة لم يتم أبداً الكشف عن ملابساتها، حدثت في نهاية الخمسينيات في إحدى القرى الواقعة في جبال لبنان الشمالية، وأودت بحياة نحو عشرين قتيلاً، كما خلّفت عديداً من الجرحى.

غير أن ثمة تحفظات حول الحكاية المرْوِّية. وبشكل مشابه لروايات إلياس خوري عن الحرب الأهلية - التي أضحت روايات كلاسيكية حالياً – لا يقدّم جبور الدويهي لقُرّائِه رصيداً من الأحداث الحقيقية الموثوق بها، بل مقاربات تاريخية، قد ينافس بعضها بعضاً، أو يُكَمِّل بعضها بعضاً، أو حتى قد تتناقض في حالات ليست بالقليلة. بحسب موقع قتطرة.

إيليا، بطل الرواية، يعود إلى لبنان لأول مرة، بعد سنوات طويلة من اللجوء في نيويورك بسبب الحرب الأهلية. يبحث إيليا عن الحقيقة المختبئة وراء موت أبيه، الذي لقي حتفه في المجزرة؛ حينها كان عمر الأب تماماً كعُمر إيليا نفسه وقت عودة الأخير إلى لبنان. يسأل إيليا الجيران وشهود العيان عن الأحداث. لكن، لا أحد منهم يتذكّر تماماً ما حدث– أو لا أحد يريد التذكر. لكن الجميع نصحوه النصيحة نفسها، وهي: "على أية حال ... لا تصدقْ كل ما تسمعه".

تاريخ غير موثَّق

يقدم الدويهي تنويعات متعددة لموضوع التذكُّر على مستويات مختلفة. الذاكراتان المتعارضتان تتصادمان في أول طعام إفطار يضم إيليا وأمه: ما زالت الأم تتذكر من زمن ما قبل رحيله أنه يحب مربى الإجاص، أما هو فقد نسي أنه يحب أكل مربى الإجاص.

ما الذي يمكن تذكّره إذاً من الماضي بشكل غير قابل للشك، إذا كان تذكُّر الأمور العادية اليومية – مثل الأشياء التي يفضلها المرء – لا يحدث على نحو أكيد؟ السنوات الطويلة في أمريكا أدت إلى شعور إيليا بالغربة عن وطنه. لقد تغير زيّه، مثلما تغيرت حركات يديه ومشيته. أَما زال هو الشخص ذاته الذي كانَ قبل أن يرحل؟ وما هو الدور الذي يلعبه الماضي بالنسبة لهوية الإنسان؟

صدرت الترجمة الألمانية لرواية جبور الدويهي "مطر حزيران" تحت عنوان "صباح الغضب" عن دار هانزر، ميونيخ 2012، وعدد صفحاتها 350 صفحة.

ومثل مُخبري الشرطة السريّين، يحاول إيليا أن يعيد تكوين حكاية أبيه، مضيفاً التفصيل تلو التفصيل في دفتره. أحد الأسئلة كان مُلِحّاً وموجِعاً - لأنه سؤال يتعلق بمسؤولية أبيه - وهو: هل كان يحمل الأب سلاحاً؟ وتتوالى الأسئلة: هل كان للأحداث علاقة بالانتخابات الوشيكة حينها؟ ما هي أسباب الثأر العائلي، ومتى بدأ؟ وما هي التقاليد والطبائع والمشاعر التي أدت إلى هذه الجريمة الدمويّة؟

لكن إيليا ليس مؤرّخاً، رغم الجهد البالغ الذي بذله ليصل بدقة إلى الحقيقة. إن ما يجمعه في دفترة – وما يتنامى إلى معرفتنا كقرّاء للرواية – تحوم حوله شبهة التزوير الذاتي. ما يستشفه القارئ عند قراءته للرواية هو أن إيليا كان يخترع في أمريكا قصة حياته مِراراً وتكراراً، لأسباب عدة، منها: "الإيقاع بالفتيات"؛ حينها كان إيليا لا يعرف هويته تماماً، بل كان يبرهن على موهبته الفريدة في إضفاء ملامح استشراقية على سيرته، ثم يستغل وضعه الغرائبي، مصوراً نفسه مرة ابناً لرئيس قبيلة يمنية، ومرة أخرى يحاول أن يثير تعاطف السامعين عبر أمراض مخترعة. من الطبيعي إذاً ألاّ يبني المرء جسور الثقة مع مؤرخ مثل هذا.

لا حياة صحيحة في عالم زائف

الرواية تتناول أحداث مجزرة حقيقية جرت عام 1957 في شمال لبنان، شاركت فيها عائلة الكاتب. لكن الدويهي لا تعنيه إعادة تركيب الأحداث التاريخية. ما يهمه هو رواية الإمكانيات المختلفة، وخاصة حدود تلك الإمكانيات. فَكَأديب، يتساءل الدويهي عن وظيفة الحكايات وسطوتها، ويظهر كيف تتشكل؛ في حين أن المؤرخ يكوِّن من الأحداث المتفرقة حكاية يدَّعي أنها "حقيقية" ويقدم لنا مغزاها.

تدور الرواية عن سُلطة الذاكرة، عن أثر التاريخ وأثر الحكايات، كما تحكي عن ماضي الإنسان وكيف أن عليه دائماً وأبداً التحقُّق من أحداث الماضي. وبمشقة بالغة يبحث البطل يائساً عن الحقيقة، أي عن هوّيته الذاتية؛ وبصعوبة بالغة أيضاً يشُقّ القارئ طريقه بين صفحات الرواية، إذ أن النص – وبسبب ثرائه بالتفاصيل وطريقته النثرية الدائرية، يكاد المحور العام للراوية يتشتت   في مواضع ليست بالقليلة فيه.

وهكذا تبدو رواية جبور الدويهي في بعض مقاطعها عسيرة، محملة بأكثر مما تحتمل، وطموحة أكثر من اللازم؛ كما تظل موضوعات عديدة تتطرق إليها الرواية بمجرد شذرات غير مكتملة، مثل العلاقة بين التركيبة القبلية-القروية التقليدية والأيديولوجيات السياسية التي أثّرت على لبنان، خلال حقبة الخمسينيات والستينيات تأثيراً باقياً؛ أو دور المهاجرين اللبنانيين.

ويقول أحد شهود العيان الذين يسألهم إيليا شاكياً: "لن نصل أبداً إلى نهاية هذه الحكاية". فالشعور بالقلق الناتج عن نقص الوضوح يخيِّم على كامل رواية الدويهي؛ وهو إحساس بالدُّوار في حلقة مفرغة ليس لها قرار أو نهاية. أما تشخيص الكاتب فهو واضح ومُربك في الوقت نفسه: فليس هناك أحد لم تصبه الأحداث بضرر، ولم تؤثر بعمق في تطوره اللاحق. وهكذا نجد في إيليا التجسيد اللبناني لمقولة أدورنو: "لا حياة صحيحة في عالم زائف".

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 13/كانون الأول/2012 - 28/محرم الحرام/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م