من المؤكد أن تحولات الربيع العربي، فتحت المجال واسعاً لكل القوى
والتيارات الإسلامية، للبروز في المشهد السياسي، والمشاركة الفعالة في
مختلف شؤون الحياة العامة.. ولكن هذه التيارات والجماعات، ستتفاوت مع
بعضها البعض، على مستوى قراءتها السياسية للتحولات الراهنة، وأولويات
العمل، وطبيعة مواجهة التحديات الجديدة سواء الداخلية أو الخارجية..
وفي تقديرنا أن المستقبل السياسي المنظور لدول الربيع العربي، هو
مرهون إلى حدّ بعيد بطبيعة الأداء والممارسة السياسية للإسلاميين بكل
تلاوينهم وأطيافهم.. فإذا كانت هذه الجماعات، متشبثة بآليات العمل
الديمقراطي والسياسي، وتسعى نحو نسج علاقات حقيقية وحيوية مع بقية
القوى السياسية لبناء كتلة وطنية تعمل من أجل تصفية الإرث الاستبدادي
وتفكيك حواضنه وحوامله، وبناء حقائق ديمقراطية جديدة في المجال العام..
فإن هذه الجماعات ستتمكن من الظفر على مستوى المنافسات السياسية،
وستكون إضافة نوعية في مسار التحول الديمقراطي..
أما إذا أساءت التقدير السياسي هذه الجماعات، ودخلت في صراعات
مفتوحة مع بعض القوى السياسية والاجتماعية، واختل لديها نظام الأولويات،
وأدارت اللحظة بعقلية الاستحواذ على كل المواقع والمناصب، فإن هذه
الجماعات ستؤخر من عملية التحول الديمقراطي، وستضيف عقدا جديدة
وإرباكات إضافية في مشروع التحول والتغيير..
من هنا فإن دراسة واقع الجماعات الإسلامية في دول الربيع العربي،
وطبيعة الخيارات السياسية والأولويات الجماعية، تحظى بأهمية قصوى، لأن
هذه الجماعات وطبيعة خياراتها وأدائها في الحقبة الراهنة، ستحدد طبيعة
المستقبل المنظور لدول الربيع العربي وانعكاساته على عموم المنطقة ودول
الشرق الأوسط..
ولكي نتمكن من قراءة هذه التحولات بشكل دقيق، فنحن بحاجة إلى معرفة
التحديات والتطورات، وإبراز ميكانيزمات عملها والتعريف بالخيارات
السياسية، التي تعزز من فرص إنجاز التحول الديمقراطي المنشود في دول
الربيع العربي خصوصا والمنطقة العربية عموما.
وتؤكد تطورات الأحداث في دول الربيع العربي، أن قوى الإسلام السياسي
أمام فرصة تاريخية للمساهمة في مشروع التحول الديمقراطي في المنطقة..
وهذا يتطلب من قوى الإسلام السياسي الالتزام بمسألتين أساسيتين وهما :
1-الالتزام بالديمقراطية بكل آلياتها وميكانيزمات عملها، بوصفها
الخيار الوحيد لإدارة المجال العام على أسس جديدة في المنطقة العربية..
فالديمقراطية ليست تكتيكا للتمكن السياسي، وإنما هي خيار نهائي..
إذا تمكنت قوى الإسلام السياسي من الالتزام بالديمقراطية ومقتضياتها،
فإن هذه القوى وبزخمها الشعبي، ستساهم بإيجابية في عملية التحول
الديمقراطي في المنطقة..
2-عدم إسقاط المنطقة في الفتن الطائفية والمذهبية، وهذا يتطلب من
قوى الإسلام السياسي، خلق مقاربة فكرية وسياسية جديدة لحقيقة التعدد
الديني والمذهبي في المنطقة.. ولا ريب أن انزلاق قوى الإسلام السياسي
نحو الفتن الطائفية والمذهبية، سيضيع فرصة مشاركتها الفعالة في مشروع
التحول الديمقراطي..
ويبدو من مجموع المعطيات السياسية والإستراتيجية والأمنية المتوفرة،
عن بلدان الربيع العربي، أن الأمور تتجه إلى تسويات كبرى تحول دون
تحقيق انتصار كاسح لأي طرف سياسي، وإنما إلى تسوية تشترك جميع القوى
بتفاوت في صنعها وإدارتها. وعلى ضوء هذه القراءة فإن الأوضاع السياسية
فيها تتجه إلى توزيع مصادر القوة في الاجتماع الوطني بين العسكر
والحركات الإسلامية بكل تشكيلاتها وأطيافها وألوانها.. بحيث تكون
الدولة والخيارات الإستراتيجية بيد المؤسسة العسكرية، أما السلطة كفضاء
للتنافس والتداول، فستكون في أغلب هذه الدول بيد الحركات الإسلامية..
وطبيعة المستقبل السياسي المنظور لدول الربيع العربي، ستكون مرهونة
إلى حد بعيد بطبيعة العلاقة التي ستتشكل بين العسكر والإسلاميين.. فإذا
كانت العلاقة قائمة على أساس التناغم التام، فإن الأمور تتجه إلى أن
تكون دول الربيع العربي كأوضاعها السابقة على المستوى الاستراتيجي مع
تغير نخبها السياسية... أما إذا كان الإسلاميون ينشدون بناء دولة مدنية
- ديمقراطية، ويبادرون باتجاه بناء كتلة سياسية - ديمقراطية واسعة تتجه
صوب هذا الهدف، وتحول دون هيمنة العسكر، فإن النتيجة حتى ولو كانت هناك
صعوبات حقيقية آنية من جراء التنافس والتدافع والصراع، هي اقتراب دول
الربيع العربي من النموذج الديمقراطي الذي أرسى قواعد العملية السياسية
الصحيحة والمتجهة صوب التداول والمشاركة..
وتعيش المنطقة العربية بأسرها مرحلة حاسمة من تاريخها، وتنطوي على
تحولات عميقة في الأفكار والخيارات والاجتماع السياسي.. وفي تقديرنا أن
قوى الإسلام السياسي بما تمتلك من ثقل اجتماعي وحضور سياسي وثقافي،
تتحمل مسؤولية خاصة في هذه المرحلة.. بحيث إن هذه القوى بإمكانها أن
تحدد طبيعة المستقبل السياسي المنظور للمنطقة.. فإذا انحازت هذه القوى
إلى الديمقراطية شكلا ومضمونا وإلى الخيارات المدنية في إدارة الاجتماع
السياسي والوطني، بعيدا عن النزعات الديماغوجية، فإن هذه القوى ستشكل
إضافة نوعية في مشروع بناء الاستقرار السياسي في المنطقة العربية على
أسس وقواعد جديدة..
أما إذا انحازت هذه القوى إلى قراءتها الأيدلوجية المغلقة للواقع
ودورها، فإنها ستتحول إلى قوة كابحة تزيد من المشكلات العربية المزمنة،
وتفضي إلى المزيد من الإرباك وزيادة الهواجس بين مختلف الأطياف
والأطراف..
من هنا نشعر بأهمية مراقبة أداء وممارسات هذه الجماعات والقوى، لأن
طبيعة الأداء والممارسات، هي التي ستحدد إلى حد بعيد طبيعة الخيارات
القادمة في المنطقة العربية..
وعلى كل حال ما نود أن نقوله هو أنه كلما اقتربت هذه الجماعات من
الطاقة التوحيدية والمدنية للإسلام، فإنها ستتبنى خيارات سياسية
ومجتمعية تساهم في تطوير الواقع العربي وزيادة فرص تقدمه..
أما إذا كانت تملك هذه الجماعات نزعات الاستحواذ والأدلجة والإقصاء،
فإن المنطقة مقبلة جراء ذلك على إخفاقات سياسية جديدة على مستوى الحكم
السياسي وطبيعة إدارة العلاقة بين القوى السياسية والاجتماعية.. (ولا
يفترض بهذه الحالة الإسلامية أن تقدم نفسها على أنها الحل الأوحد
والحاكم الوحيد، وأنها لا تستطيع أن تحكم إلا بمفردها، لأن عليها أن
تتقبل التعايش مع قوى سياسية أخرى موجودة وفاعلة على الساحة العربية،
والقرار النهائي هو بيد الشعب الذي عليه أن يختار في صندوق الاقتراع،
وعليها أن تمارس دورها على هذا الأساس وأن تقدم أفضل ما عندها) على حد
تعبير (عبدالله تركماني) في بحثه الموسوم ب (الدولة والمواطنة في فكر
وتجربة الإسلام السياسي المعاصر)..
وإذا لم تتمكن قوى الإسلام السياسي من إدارة المرحلة السياسية
القائمة بوصفها قوى وجماعات سياسية واجتماعية تؤثر وتتأثر، تأخذ وتعطي،
فإن المنطقة مقبلة على موجة جديدة من التطرف والتعصب الديني والمذهبي.. |