في مقالات سابقة تحدثت عن الحياة الحزبية في العراق من زوايا
مختلفة، ففي مقال بعنوان (الصورة النمطية للأحزاب في العقل السياسي
العراقي)، وضحت أن العقل السياسي العراقي الجمعي يحمل صورة سيئة عن
الأحزاب السياسية، نتيجة لخمسة أسباب هي:
- الولادة الخاطئة للأحزاب في تاريخ العراق
- عجزها عن قيادة التغيير الاجتماعي
- طابعها الشخصي
- تصارعها على السلطة بهدف الاستحواذ عليها
- ضعف امتدادها الوطني
وظننت حينها أني فرغت من الموضوع ولن أعود إليه مرة أخرى، لكن توالي
المشاكل والأزمات السياسية في العراق من جهة، وتراكم الخيبات
والاحباطات الشعبية من الأداء الحكومي والحزبي من جهة ثانية، والإعلان
عن موعد انتخابات مجالس المحافظات غير المنتظمة بإقليم في العشرين من
شهر نيسان / 2013 وما يرتبط بها من استعدادات انتخابية محمومة للكتل
السياسية المتنفذة من جهة ثالثة، كل ذلك دفع إلى ضرورة إعادة طرح
الموضوع من زاوية جديدة.
وقبل الشروع في ذلك، أود الإشارة إلى كتاب العلامة المرحوم عبد
الرزاق الحسني (تاريخ العراق السياسي الحديث، الجزء الثالث، ط 7،
2008)، الذي كتبه في نهاية عقد الخمسينات من القرن الماضي، إذ تطرق
مؤلفه في الصفحات 246- 248 إلى فقرة تخص الأحزاب العراقية – آنذاك-
تحمل عنوان (أسباب فشل الحياة الحزبية)، وحدد هذه الأسباب بما يلي:
1- عدم قناعة زعماء الأحزاب بضرورة العمل على أساس التنظيم الشعبي..
بل كان هم الزعماء التحرر من القيود التي تقتضيها الالتزامات الحزبية.
2- عدم توفر قابلية التنظيم.. ولئن وجد بين الزعماء من توفرت فيه
شروط الزعامة.. فان ذلك الشخص يعوزه روح التنظيم حتى في الأحوال التي
اضطر فيها إلى العمل الحزبي.. ونرى هؤلاء الزعماء يركنون إلى مناورات
وحركات مرتجلة، تمليها الظروف الطارئة على الوضع القائم، دون تفكير
فيما تجره هذه التصرفات من مساوئ، وما تؤديه من أرزاء تصيب حياة الدولة
في صميمها، معتمدين على قابلياتهم الشخصية في إجراء هذه المناورات.
3- إن عددا كبيرا من محترفي السياسة قد اتخذوا من هذه الحرفة وسيلة
للعيش، وسبيلا للارتزاق، وهم لهذا لم يضعوا خطة لسيرهم، ولم يرسموا
هدفا لإعمالهم، فهم بالطبع بعيدون عن النظم الحزبية، التي توجب تركيز
فعاليتهم في حدود مبادئ الحزب، وإلزام أنفسهم بمقرراته. ولئن رأيتهم
منخرطين في حزب من الأحزاب، فهم سرعان ما ينقلبون على حزبهم، إذا ما
لاح لهم في غيره نفع أعم، أو مغنم أوسع، كما أنهم على أتم استعداد
للتبرئ من الحياة الحزبية حين تعود عليهم بأقل الضرر.
4- ضعف ثقة الشعب في التنظيمات الحزبية..
5- إن الأحزاب السياسية في العراق كثيرا ما تتوقف عن أعمالها، أو
تحل نهائيا متى حققت أوطارها، وقضت لبناتها، أي أن الأحزاب لم تعش إلا
مدة يسيرة..
6-.. مساعي اليد الأجنبية، وعملها بكل قوة على إحباط كل مسعى توجيهي
في البلاد، لأنها ترى فيه شبح المقاومة المنظمة التي تتعبها وتحول دون
تحقيق كثير من أهدافها.
وعند تأمل هذه الأسباب، تجد أن الزمن لم يتغير كثيرا بين عقد
الخمسينات من القرن العشرين، وعقد العشرينات من القرن الحادي والعشرين،
فلا زالت الأحزاب العراقية، على الرغم من تغير مسمياتها وبرامجها
ورجالها تعاني من اغلب هذه السلبيات، وأحيانا بصورة حادة تنذر بالخطر،
تضاف لها السلبيات التي أوجدتها ظروف الصراع الإقليمي والدولي،
والتخندقات الطائفية والعرقية والدينية، وترهل وسوء النظام الإداري في
العراق منذ نشوء دولته الحديثة والى الوقت الحاضر، وضعف الإرادة
الشعبية في التغيير، وسطحــية الوعي الجماهيري. ولكن إذا كانت العملية
السياسية الجارية اليوم تهدف حقا إلى بناء الدولة في العراق من جديد،
فأن هذا الهدف المهم والحيوي يقتضي من الأحزاب – قياداتها وقواعدها –
الانتباه إلى ما يلي:
أولا: إعادة الاعتبار للأحزاب أمام الرأي العام العراقي
لا يخفى أن الأحزاب السياسية العاملة في الساحة السياسية العراقية
اليوم – علمانية ودينية – فشلت فشلا ذريعا أمام الرأي العام العراقي،
الذي لم يفاجئ بفشلها، بل كان يتوقع لها ذلك مسبقا، لكون الصورة
النمطية المنطبعة لديه عن الأحزاب سلبية، حتى صار التندر على فشلها
وفسادها عادة لدى العراقيين يتناولونها في مجالسهم ومنتدياتهم، وخطورة
هذا الموقف الشعبي من الأحزاب تكمن فيما قاله العالم الفرنسي غوستاف
لوبون في كتابه (الحضارات الأولى): ".. إن الضرورات توجد الرأي العام،
وهو يوجد العادات، والعادات هي الأصل في الدستور الأخلاقي والقوانين،
وإذا ما بقي الرأي العام في موضع واحد لا يتغير عدة أجيال أثبتته
الوراثة في النفوس إثباتا لا يمحى " (توفيق الفكيكي، الراعي والرعية، ط
1، 2007، ص 246- 247).
نعم إن التصورات التي تحملها الشعوب كعادات وتتناقلها من جيل إلى
آخر تصبح صعبة التغيير، ومن العادات التي يحملها الرأي العام العراقي
تجاه السلطة ورجالها وأحزابها السياسية أنها لا تمثل إلا مصالحها
الضيقة، ولا تعنيها مصلحة الشعب، وأنها المسؤولة عن كل المشاكل
والتحديات التي تعصف بالدولة، لذا رأينا تشابه التقييم للأحزاب
السياسية العراقية قبل أكثر من ستين سنة مع تقييمها في الوقت الحاضر.
إن بقاء هذه العادة لا يصلح لبناء دولة حديثة أساسها الثقة
المتبادلة بين الشعب ورجال السياسة والحكم، كما أن تغيير هذه العادة لا
يكون بشعارات رنانة وخطط تنموية مستعجلة، وإنما يحتاج إلى وقت، وجهد
مخلص، ورجال أكفاء صادقين، وبرامج تأهيلية وتطويرية صحيحة. فالأحزاب
السياسية القائمة أو التي ستقوم في المستقبل مطالبة بإقناع الرأي العام
العراقي بدورها الايجابي في بناء الوطن، وخدمة المواطن، وتمهيد الطريق
لبناء دولة حقيقية لا دولة كارتونية تتمجد بالماضي التليد وبشخصيات
سياسية لا رصيد لها في صناعة التاريخ وبناء الحضارة.
ثانيا: دولة قوة لا دولة مدى
يميز فرنسيس فوكاياما في كتابه القيم (بناء الدولة) بين قوة الدولة
ومداها، فيقول: إن مدى الدولة ".. يشير إلى الوظائف والأهداف المختلفة
التي تضطلع بها الحكومات، (أما قوة الدولة فهي).. قدرة الدول على تخطيط
وتنفيذ سياساتها وفرض القوانين بإنصاف وشفافية، وهو ما يشار إليه حاليا
باسم قدرة الدولة أو القدرة المؤسساتية " (فوكاياما، بناء الدولة، ط1،
2007، ص 50). وقد بين فوكاياما في كتابه الآنف الذكر مظاهر الدولة
القوية فعلا، التي تتمثل بقدرتها المؤسساتية على " صياغة وتنفيذ
السياسات، وسن القوانين المختلفة، وعلى الإدارة الكفوءة بحد أدنى من
البيروقراطية، وعلى محاربة الفساد والابتزاز والرشوة، وعلى الحفاظ على
مستوى عال من الشفافية والمحاسبة في المؤسسات الحكومية، وقبل كل شيء
آخر فرض وتنفيذ القوانين " (فوكاياما، ص 52)، وما يميز الدول الضعيفة
والفاشلة هو أن مداها اكبر من قدرتها، فهي تعجز عن تنفيذ المهام
والوظائف التي تضطلع بها لكونها دول أحزاب وأفراد لا دول مؤسسات، فيضرب
فوكاياما مثلا على ذلك دولة مصر التي " تمتلك جهاز أمن داخلي بالغ
الفعالية، لكن الدولة مع ذلك لا تستطيع القيام بمهام بسيطة، كالترخيص
للمحال التجارية الصغيرة أو التعامل مع طلبات الحصول على سمات الدخول
بشكل كفوء وفعال " (فوكاياما، ص 52). فجهاز الأمن المصري على فعاليته
لم يعزز قدرة الدولة الأمنية على التعامل مع قضايا التراخيص وسمات
الدخول وغيرها بشكل كفوء يقلل الصعوبات والعراقيل على المواطن أو
الوافد.
إن إسقاط هذه الحقائق على نظام الحكم في العراق سيجعل المواطن
العراقي البسيط يشعر بمزيد من الحنق والغضب لكونه سيكتشف أنه على الرغم
من كل مظاهر التقييد والتعقيد والبيروقراطية التي يواجهها في حياته
اليومية، فانه يعيش في دولة ضعيفة محدودة القدرة، وفاشلة في القيام
بمهامها ووظائفها. كما سيشعر السياسي والمسؤول بالخجل - وقد لا يشعر -
من مواجهة شعبه بهذه الحقيقة وهو الذي يطلع عليه كل يوم بخطاباته
المعهودة التي تعد ببناء دولة قوية مقتدرة. لكن هذا الأمر لم يكن وليد
الأحداث بعد 9/4/2003، بل هواء مرض عضال عانت منه الدولة العراقية منذ
تأسيسها إلى الوقت الحاضر.
في ضوء ما تقدم، ماذا يجب أن تعمل الأحزاب السياسية لبناء الدولة في
العراق ؟.
الإجابة هي أن عليها تجاوز عيوبها وسقطاتها التي تقدم ذكرها، وتركيز
جهدها الفكري والتنظيمي على بناء دولة قوة مقتدرة بمؤسساتها الفاعلة،
لا يكون مداها متخلفا عن قوتها، دولة يمكن أن يعترف العالم بنجاحها،
ويتعامل معها على هذا الأساس، ويشعر مواطنوها بهذه القدرة بقلة التقييد
والتعقيد والبيروقراطية في مؤسساتها، علما أن بناء هكذا دولة سيقلل
مشاكلها الداخلية والدولية بشكل كبير ابتداءاً من مشاكل الفقر والمرض
وصولا إلى مشاكل الإرهاب والأمن.
إن نجاح الأحزاب العراقية في إعادة اعتبارها لدى الرأي العام
العراقي، وبناء دولة عراقية ديمقراطية قوية بقدرتها المؤسساتية، لن
يعود بالخير والفائدة على هذه الأحزاب فحسب، بل ستعم فائدته كافة طبقات
الشعب، وستنعكس هذه الفائدة على المنظومة القيمية للمجتمع المرتبطة
بالهوية والفضائل المدنية والنظرة الايجابية لنظام الحكم، والنجاح في
ذلك فقط سيعني أن قطار العملية السياسية في العراق ركب السكة الصحيحة
نحو بناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة.
* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات
الإستراتيجية
www.fcdrs.com
khalidchyad@yahoo.com |