دولة العدالة وحرية الاختيار

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

 

شبكة النبأ: هناك ركن أساسي لابد من توافره في دولة العدالة، لأن غيابه يسهم في تقويض الدولة واسقاطها في براثن الطغيان والتجبّر الفردي والفكر الايدلوجي الشمولي، هذا الركن الاساسي هو (الحرية)، فمن دون وجود الحرية وترسيخها في منظومتي العمل والتفكير الفردي والجماعي للمجتمع، فإن دولة العدالة تبقى غائبة، ناهيك عن صعود دولة بديله لها يمكن تسميتها بدولة الحرمان والطغيان، حيث يسود القمع والاستبداد، ويفقد الانسان في دولة كهذه حرية الاختيار، وهو ما يتنافى مع دولة العدالة، التي ركّز عليها الاسلام في تعاليمه وكما ورد في القرآن الكريم (لا اكراه في الدين)، كمؤشر ودليل قاطع على حرية الانسان في الاختيار والرأي.

تجربة الرسالة المحمدية

ان تجربة تأسيس وقيام الدولة الاسلامية بقيادة الرسول الاكرم محمد صلى الله عليه وآله، يمكن ان تتخذ معيارا مصيبا ودقيقا في بناء الدولة العادلة في الواقع الاسلامي والعربي الراهن، والسبب ان هذه التجربة من الغنى بحيث يمكنها تقديم الدروس المهمة لقادة اليوم وكيفية ادارتهم لشؤون الناس، ولعل اهم ما ينبغي ان يعيشه المجتمع هو حرية الاختيار والرأي، لهذا كانت دولة الاسلام في اول نشوئها دولة العدالة والتحرر من القيم والاعراف الظلامية التي كانت سائدة آنذاك.

يقول سماحة المرجع الديني، آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في كتابه الموسوم بـ (الحرية)، في هذا الجانب: (إنّ الإسلام وحده هو دين الحرّية. فحتّى المدارس والمبادئ الأخرى التي ظهرت منذ قرون وما زالت ترفع شعار الحرّية لا واقع للحرية فيها سوى الاسم. أمّا الإسلام فهو دين الحريات مبدأً وشعاراً، وقولاً وعملاً. وهذا موضوع طويل يتطلّب من الباحث أن يطالع الفقه الإسلامي بتعمّق ـ من أوّله إلى آخره ـ لكي يعرف كيف أنّ الإسلام التزم بمبدأ -لا إكراه في الدين- في مختلف مجالات الحياة).

لقد ألغى قائد الدولة الاسلامية الاعلى مبدأ القسر والاجبار، فكان الجميع أحرارا في ظل دولة الاسلام، على الرغم من المعاداة المتواصلة لهذه الدولة، بمعنى حتى اعداء الاسلام والدولة لم يتعرضوا للقسر والاجبار، بل كان لهم كامل حرية الاختيار، وهو المبدأ الذي يساعد على قوة الدولة.

يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال بكتابه نفسه: (رغم كلّ ما فعله المشركون من أهل مكّة مع رسول الله صلى الله عليه وآله إلاّ أنّ التاريخ لم يحدّثنا أنّه صلى الله عليه وآله أجبر ولو شخصاً واحداً على الإسلام، ولو أنّه صلى الله عليه وآله أراد أن يجبر أهل مكّة على الإسلام لأسلموا كلّهم تحت وطأة السيف، لكنّه صلى الله عليه وآله لم يفعل ذلك ولم يجبر أحداً على الإسلام).

الناس احرار في دولة العدل

يروي لنا التاريخ بوضوح تام، احداثا وقضايا مهمة وكثيرة تؤكد عدالة الدولة الاسلامية وانتشار الحرية في ربوعها، وانتفاء القسر والاجبار كليا، لهذا ترسخت قوة الدولة وبدأت تتوسع وتكفل للجميع الحرية والحياة المرفهة، يقول سماحة المرجع الشيرازي: (هكذا روى التاريخ عن سلوك نبينا صلى الله عليه وآله: يحاربه قومه مع ما يعرفونه من صدقه وأمانته ونبله وكرم أخلاقه، بمختلف أنواع الحروب القاسية ويطردونه من موطنه ومسقط رأسه، ثم يتركهم أحراراً وما يختارون من دين وطريقة حياة؟! لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يهديهم وينصحهم ويوضّح لهم طريق الرشد ويميّزه عن طريق الغيّ ثم يترك الاختيار).

ولم يقتصر الامر على المواطنين المسلمين في الدولة الاسلامية، بل جميع المواطنين حتى النصارى واليهود مكفولة حريتهم، ويتم التعامل معهم بعدالة تامة، ولا يتم تفضيل المسلم عليهم، لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي بكتابه في هذا الخصوص: (وهكذا الحال في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله مع اليهود والنصارى. فلقد ردّ صلى الله عليه وآله عشرات الحروب والاعتداءات التي شنّها أهل الكتاب دون أن يجبر أحداً منهم على الإسلام. لم يسجّل التاريخ ولو حالة واحدة يكون فيها رسول الله صلى الله عليه وآله قد أجبر ذمياً على اعتناق الإسلام، والتاريخ حافل بسيرة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله، وسجّل وحفظ الدقائق عن حياته).

وثمة تجربة نظيرة وهي تجربة حكم الامام علي بين ابي طالب وقيادته للدولة الاسلامية، حيث ابدى مرونة كبيرة حتى مع الاعداء، من اجل ترسيخ دولة العدالة واشاعة مبدا الحرية بين الجميع، يقول سماحة المرجع الشيرازي: (لقد أُقصي الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه خمساً وعشرين سنة ثم توجّهت إليه الأمّة وتزاحمت على بابه للبيعة حتى لقد وطئ الحسنان. ومع ذلك ذكر المؤرخون ـ سنّة وشيعة ـ أنّ الإمام بعدما بويع، ارتقى المنبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وكان المسجد مكتظّاً بالناس الذين حضروا لاستماع أوّل خطبة لابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله ووصيّه وخليفته الحقيقي الذي أُبعد عن قيادة المسلمين خمساً وعشرين سنة، بعد أن آل إليه الحكم الظاهري، ثم أمر جماعة من أصحابه على رأسهم ابنه الإمام الحسن سلام الله عليه أن يذهبوا إلى الكوفة وينظروا هل فيها مَن لا يرضى بخلافته).

وهكذا لابد لدولة العدالة من عنصر الحرية لكي يصبح عاملا مساعدا للدولة ولقادتها، ولهذا ركز الاسلام على الحرية وألزم ذلك بعدم الحاق الضرر بالآخرين، بمعنى ان الحرية التي تتجاوز على حرية الآخر تقوض دولة العدالة ولا تساعد في استقرارها وتطورها، لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي في كتابة نفسه: (يقول الإسلام: اعمل ما تشاء، فلك حرية العمل شريطة أن لا تضرّ غيرك).

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 29/تشرين الثاني/2012 - 14/محرم الحرام/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م