في الحروب والصراعات الدولية لا تكشف الدول والكيانات السياسية عن
كامل أهدافها واستراتيجياتها فهناك أهداف معلنة وأهداف خفية، والحرب
العدوانية الإسرائيلية على قطاع غزة لا تخرج عن هذا السياق، فالخفي من
هذه الحرب قد يكون أكثر خطورة على القضية الوطنية من الأهداف المعلنة
من الحرب، وضجيج الصواريخ ودماء الشهداء وحالة الدمار قد تكون غطاء
لتمرير مخططات كبيرة عجزت السياسة والمواجهات الصغيرة عن تمريرها،
فالحرب سياسة ولكن بوسائل عنيفة أو أداة لفتح مغاليق السياسة.
أيضا حسابات النصر والهزيمة في الحروب لا يتم احتسابها وسط ضجيج
المعارك بل في المحصلة النهائية للحرب وما تتمخض عنه من تفاهمات
واتفاقات، أيضا مفاهيم النصر والهزيمة يتم احتسابها وطنيا وليس حزبيا،
فانتصار حزب لا يعني بالضرورة انتصار الوطن والقضية الوطنية إلا إذا
كان في إطار إستراتيجية وطنية.
تختلف الحرب الحالية بين ( قطاع غزة ) والإسرائيليين عن كل الحروب
والمواجهات السابقة حتى عن الحرب الأخيرة على القطاع نهاية 2008 سواء
من حيث نطاق ومدى الحرب أو من حيث الأهداف المعلنة أو من حيث ردود
الفعل والبيئة العربية والدولية أو من حيث مآلاتها النهائية، وعلينا أن
نتذكر أن أكثر من ثلاثة آلاف صاروخ أطلقها حزب الله على تل أبيب وحيفا
ومدن إسرائيلية متعددة، وكلنا نعرف النتيجة ليس لنقص في الشجاعة
والوطنية عند حزب الله بل لأن الحالة العربية والدولية لم تقف لجانبه
وبقيت مواجهة محصورة بين الحزب ودولة إسرائيل التي وظفت كل قوتها
العسكرية ليس فقط لمواجهة مقاتلي حزب الله بل لتدمير لبنان.
أولا: الحرب من حيث نطاقها ومداها
فلأول مرة وبعد مرور خمس أيام على الحرب، تأخذ الحرب شكل القصف
الصاروخي المتبادل بين فصائل المقاومة في قطاع غزة وإسرائيل حتى يجوز
تسميتها بحرب الصواريخ، فقد وصلت الصواريخ الفلسطينية لأول مرة في
تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي إلى تل أبيب والقدس ومدن أخرى. صحيح أن
الخسائر التي يوقعها القصف الصهيوني بالفلسطينيين أكبر ماديا وبشريا من
خسائر العدو، إلا أن خسائر العدو المعنوية والنفسية كبيرة جدا، فكيف
لدولة تهدد كل العالم العربي وتهدد بحرب على إيران أن ترتعب من صواريخ
فلسطينية تنطلق من غزة الصغيرة والمحاصرة؟ وكيف سيصدق الإسرائيليون أن
دولتهم ستحميهم من الخطر الإيراني وهي غير قادرة على حمايتهم من صواريخ
غزة؟.
إن كان المدى الميداني يقتصر على غزة وإسرائيل إلا أن المدى السياسي
والمعنوي أكبر بكثير من المدى الميداني حيث تفاعل كل الشعب الفلسطيني
مع الحدث وارتفعت معنويات الفلسطينيين حتى داخل إسرائيل وهم يشاهدون
ويسمعون عن صواريخ فلسطينية تضرب تل أبيب والقدس، ومع أن التأثير
المعنوي لحظي وعاطفي ويؤسَس على الحدث الراهن دون حسابات عقلانية
وإستراتيجية عن المآلات، إلا أنه يبقى مهما بالنسبة لشعب خاضع للاحتلال
والحصار.
ولنا أن نتصور ونحلم لو أن مدى المواجهة توسع وأن الصواريخ تنطلق
على إسرائيل من الضفة ومن جنوب لبنان ومن سيناء والأردن وسوريا!،
بالتأكيد ستكون الحرب والمعادلة مختلفة تماما، الأمر ممكن عمليا، ولكن
حسابات الدول ليست حسابات الأحزاب.
ثانيا: بالنسبة للأهداف
وسط ضجيج الصواريخ والقذائف والتهديد الإسرائيلي بالتصعيد إلى درجة
الاجتياح البري للقطاع، إلا أن ما يميز هذه الحرب عن غيرها أن الطرفين
ملتزمين بأهداف معلنة محددة ومطالبهم لوقف الحرب محددة بأمور واضحة.
بالنسبة لإسرائيل وقف صواريخ المقاومة من قطاع غزة، فكل قادة إسرائيل
كانوا متفقين على هذا الهدف ولم نسمع أحدا منهم يتحدث عن احتلال قطاع
غزة أو إسقاط سلطة حماس – في الوقت الراهن على الأقل-، وبالنسبة لحركة
حماس وكما ورد على لسان رئيس وزراء حكومة غزة إسماعيل هنية في اليوم
الثاني للحرب وبعد ذلك على لسان كل قادة حماس، أن ما تريده حماس هو فتح
معبر رفح البري بشكل نهائي ووقف العدوان ووصول المساعدات مباشرة لحركة
حماس، ولم يطلبوا لا مددا عسكريا ولا سلاحا ولم يطلبوا من إسرائيل غير
وقف العدوان ووقف استهداف المقاتلين ورفع الحصار عن قطاع غزة هذه
الأهداف المعلنة والمباشرة وحتى لو وصل الأمر لاجتياح مناطق من القطاع
كمحور فيلادلفيا أو توسيع الحزام الأمني على الحدود، فإن ذلك يدخل في
إطار تحسين الوضع العسكري لتحسين شروط التهدئة فقط.
ثالثا: من حيث أطرافها
مع كامل التقدير للمقاومة وبطولات وتضحيات أهلنا في غزة، وللتعاطف
والتأييد الكبير لأهلنا في الضفة مع أهل غزة إلا أن الحرب الفعلية تدور
بين ( قطاع غزة ) وإسرائيل، وحركة حماس هي من يقود المعركة ويحدد
مساراتها وسبل وشروط وقفها بمعزل عن أي مرجعية وطنية أخرى، فحماس هي
التي تحارب وهي المرجعية النهائية، حتى الدول العربية والأجنبية
وإسرائيل باتوا يتعاملون مع حركة حماس في كل صغيرة وكبيرة فيما يخص
الحرب والتهدئة، أما منظمة التحرير والسلطة والرئيس أبو مازن فلا يختلف
وضعهما عن وضع أية جهة خارجية بالنسبة لمسار الحرب وشروط التهدئة،
بالرغم من الدعم المالي والاقتصادي الكبير الذي تقدمه المنظمة والسلطة
في الضفة لأهل غزة.
إذن هي حرب لفرض تهدئة إستراتيجية وترسيم حدود نهاية بين غزة
وإسرائيل، أو هي حرب من أجل توقيع صفقة شاملة ما بين حركة حماس
وإسرائيل برعاية وضمانات عربية وتركية وأوروبية وربما أمريكية. صفقة
تتضمن التزام من حماس بوقف إطلاق الصواريخ من القطاع سواء من جهتها أو
من أي طرف فلسطيني آخر وعدم إطلاق النار على القوات الإسرائيلية
المرابطة على حدود القطاع، دون هذا الالتزام الواضح لن تستطيع الحكومة
الإسرائيلية تمرير إهانة قصف تل أبيب والقدس بصواريخ فلسطينية، ونعتقد
أن حماس لا تمانع في ذلك مقابل فتح معبر رفح البري بشكل كامل لتصبح
الحدود المصرية مع غزة حدود دولة بدولة وتعهد إسرائيلي بعد استهداف
قيادات حماس والمقاومين أو قصف غزة، وإن تمت الأمور بهذا الشكل لن يكون
هناك مبرر لاستمرار عمل الأنفاق حيث يتم ردمها أو وقف العمل بها بتوافق
مع كل الأطراف.
إن صفقة بهذا الشكل إن كانت ستُخرج الطرفين – حماس وإسرائيل -
بمعادلة لا منتصر ولا منهزم – إلا أنها ستعنى على المستوى الوطني تكريس
الانقسام وتثبيت سلطة حماس في غزة وخصوصا أن حركة حماس إن تمت الصفقة
بدون اجتياح بري إسرائيلي ستخرج من الحرب منتشية بما أنجزت صواريخها
التي ستغطي على أية اتفاقات يتم توقيعها، مما سيجعلها أقل رغبة في
المصالحة الوطنية. المصالحة الممكنة في ظل هذه الحالة هي مصالحة إدارة
الانقسام، ونعتقد أنه من الممكن ومن المطلوب التعامل مع هذه المصالحة
مرحليا إلى حين نضوج شروط المصالحة الإستراتيجية أو إعادة بناء المشروع
الوطني في إطار منظمة التحرير. نعم يمكن التعامل مرحليا مع مصالحة تعزز
رفع الحصار ودعم حالة الصمود وإعادة البناء في القطاع، مقابل دعم
مبادرة الرئيس بالذهاب إلى الأمم المتحدة لانتزاع اعتراف بدولة
فلسطينية غير عضو على كامل الضفة وغزة دون إسقاط حق العودة.
كل ذلك مرتبط بنجاح مفاوضات التهدئة التي تجري في القاهرة، وإن لم
تنجح هذه المفاوضات فقد تلجأ إسرائيل إلى توغلات برية وربما تعيد تموضع
قواتها في محور فيلادلفيا لتهدم الأنفاق مصدر القوة الصاروخية كما
تعتقد، ثم تتفاوض مع مصر وحماس من مصدر قوة، ولكن لتحقيق نفس الأهداف.
هذا التخوف من مآل الأمور نبنيه على اقتصار المواجهة بين قطاع غزة
وإسرائيل وصمت الجبهات الأخرى، وعلى الحالة العربية التي عبر عنها
مؤتمر وزراء الخارجية حيث أعلن المؤتمر ومن خلال وزير خارجية قطر أن
العرب لن يحاربوا إسرائيل وأن كل ما سيقدمونه هو المال والمساعدات
الإنسانية. والمؤسف أنه في الوقت التي تبدي الجامعة العربية حالة ضعف
واستكانة في مواجهة ما يجري من عدوان على غزة وتستبعد الحرب نهائيا بل
لم تتخذ أي إجراءات عقابية ضد إسرائيل، كان لها أنياب شرسة عندما
تعاملت مع قضيتي ليبيا وسوريا، فأرسلت المال بسرعة ثم السلاح
والمقاتلين وحرضت مجلس الأمن على اتخاذ قرارات ملزمة ضد نظامي القذافي
والأسد، ويبدو أن الربيع العربي له خطوط وضعتها له واشنطن لا يستطيع
تجاوزها وهي المس بأمن إسرائيل.
Ibrahemibrach1@gmail.com |