ساقتني رحلة الحج للعام 2001م من لندن إلى جدة عبر دمشق للإلتحاق
بإحدى الحملات القادمة من الدنمارك، وفيها خليط من الحجاج من جنسيات
مختلفة، ولما كان إمام الحملة والمرشد الديني على معرفة شخصية بي، فوّض
إليَّ أمر عدد من الحجاج لتعليمهم القراءة السليمة لسورتي الفاتحة
والإخلاص، باعتبار أنَّ القراءة السليمة لازمة في الصلاة اليومية، وهي
لازمة في أداء مناسك الحج فعلاً وقولاً، وكان من بينهم أحد الشباب
الذين ساقهم النضال السياسي الى الهجرة الى أستراليا، وفي بعض الخلوات
كان يحدثني عن أيام النضال السلبي، وكشف لي في إحداها أنه ساهم أثناء
إحدى الإنتفاضات المسلحة في بلده في إجراء المحاكمات لعدد من رجال
النظام الذين تم القبض عليهم بعد سقوط مدينته بيد المنتفضين لأسابيع
عدة، استمعت إليه مشفقاً عليه ومتأسفاً لما كان قد آل إليه الوضع في
ذلك البلد العزيز على قلوبنا بخاصة بعد قمع الحركة الشعبية بفعل سياسة
الجيران، ولكن ما أسفت عليه أكثر أن يعمد البعض إلى إجراء محاكمات
لرجال النظام بدلاً من استمالتهم والإستفادة من خبراتهم كما هي سيرة
النبي محمد(ص) الذي دعانا القرآن إلى اتخاذه أسوة حسنة في سنته قولاً
وفعلاً وتقريراً، والأسوأ من ذلك أن يتقدم الى سدة القضاء من ليس بأهل
له، فمن لا يحسن قراءة سورتي الفاتحة والإخلاص في صلاته كيف يحسن
التمييز بين الحق والباطل، وكيف يضع نفسه في مكان يتحاشاه الفقيه
تعففاً ورهبة، فكيف بمن لا يفقه من الإسلام ألف بائه؟
إنها طامّة كبرى، أليس كذلك.. حصلت في أكثر من بلد مسلم، والحبل على
الجرار!
زاغت هذه القصة من عيبة ذاكرتي وأنا أقلِّب كتيب "شريعة الأحكام"
للفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي، الصادر حديثا (1433هـ -
2012م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 64 صفحة، وفيه يحدد شروط
القاضي الصالح لسدة القضاء، وما ينبغي أن يفعله في القضية الواحدة بما
يتوافق مع الشرع والقانون ومحل رضا الله، بخاصة وأن قاضي الشرع أو
القاضي المدني أو الحاكم في المحاكم الشرعية والمدنية على السواء تبوأ
من القضاء مبوءاً خطيراً، فأي خطأ أو انحراف أو ميلان إلى جانب دون آخر،
يكون عندها قد أغضب الله ومال عن الصواب وضيع الحقوق، ولذلك فليس من
السهل أن يجلس على دكة القضاء كل مدعٍ، وفي هذا يقول النبي محمد(ص): (أجرأكم
على الفتيا أجرأكم على الله عزَّ وجل، أوَ لا يعلم المفتي أنه هو الذي
يدخل بين الله تعالى وبين عباده؟ وهو الحائر بين الجنة والنار)، وذات
مرّة سأل الإمام علي(ع) أحد القضاة: (هل تعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال:
لا قال(ع): إذاً هلكت وأهلكت)، أما القاضي العادل فإنه لا يخلو من
صرامة الموقف وشدته يوم الورود على الله، فعن الرسول الأكرم: (يؤتى
بالقاضي العدل يوم القيامة فمن شدة ما يلقاه من الحساب يود أنه لم يكن
قضى بين اثنين في عمره)!
أنصاف القضاة!
كنا ولازلنا نقرأ عن تاريخ القضاء المفارقات الكثيرة التي لا حصر
لها للأحكام التي يصدرها القضاة وأصحاب الفتيا، ونتعوذ من تلك الأيام
السود التي رأتها البشرية وبخاصة العالم الإسلامي الذي مرّ عليه حكام
ركبوا الدين واستقلوا ظهر الفقهاء والقضاة لمآربهم، وندعو الله أن يبعد
عنّا سحبها الداكنة، فما نقرأ من قصص تقشعر لها الأبدان ونسمع، يكاد
المرء يموت كمداً من أحكام نسبها أصحابها الى الدين وهي منه براء حتى
صرنا محل استهزاء العالم الآخر، بالطبع لا يعنى أن الآخر سلم قضاؤه
وبرئت أحكامه من المفارقات المفجعة والصور المؤلمة، لكن الذي حصل أن
الآخر عمد منذ فترة طويلة إلى تشذيب أحكامه وقضائه، في حين أن عالمنا
العربي والإسلامي راح يستعيد تلك الأحكام الشاذة تحت مسميات مختلفة،
والأنكى من ذلك أن صار الكثير من قطاع الدين أمراء إفتاء حتى وإن لم
يتخرجوا من المعاهد الفقهية ولم ينالوا الإجازة الخاصة في الإفتاء
والقضاء، فضاعت الحقوق والموازين واختلطت الأنساب وسفكت الدماء وهتكت
الأعراض! ولا سيما في العقدين الماضين، حيث كثر المفتون، فصار لكل
منطقة في بلدان (الربيع العربي) حسب التسمية الغربية، أو (الفسيخ
العربي) حسب تسمية المغرب العربي أو (الخريف العربي) حسب تسمية المشرق
العربي، أميرها يُفتي ويقضي ويجري الأحكام والحدود حسبما يراه ناسباً
فعله الى الدين، وفي الكثير من الحالات لازم التمثيل بالمتهم(!) تنفيذ
الحكم حياً وميتاً، ولا يرى في ذلك من ضير لأن البعض في حكومات ما قبل
العهد الديمقراطي كان يمارس ما حلا له باسم الدين، فلا يأتي الخلف إلا
بما أتى به السلف، والفتيا جاهزة أكثر جهوزية من مطاعم الأكلات السريعة
(Take away)، والمُفتون على الأبواب ينتظرون عطايا السلطان حالهم حال
معظم شعراء المديح والهجاء، ينظمون لمن يدفع أكثر.
وإذا صحَّ وصف القضاة والمفتين في عهود الإستبداد بأنصاف القضاة
وأنصاف المتعلمين لشبه شمّة فقهية توفرت فيهم، فمن الحماقة بمكان أن
يوصف أمراء اليوم بأنصاف القضاة، فهم كصاحبنا لا يجيدون نطق البسملة
يرفعون نون الرحمان ولا يكسرونها، فكيف لهم أن يكسروا نصول نفوسهم
المريضة ويترفعوا عن الحكم بما لم ينزل الله به من سلطان، ويتركوا
القضاء لأهله، بل ومن سيئات عالم الإتصالات أن صار القضاء والحكم
والفتيا في عهد القنوات التلفزيونية والفضائية مشاعاً لكل من وفرت له
الشاشة الفضية مساحة من الظهور يقضي ويحكم ويفتي ولا من حرج!
وإذا كان صاحبنا الذي التقيناه في الحج ومن أمثاله الكثير في يومنا
هذا، قد استعظم الناس تدينه ووضعوه في سدة القضاء واستأنس هو أريكته،
فإن الحق والحق يُقال، لا يصل في انحداره الى ما وصل إليه أمراء الجهاد
المعلَّب الذين يفتون بوضع السيارات المفخخة في الأسواق والمطاعم
والمحلات والجوامع والمساجد والكنائس والبيع والمعابد، وكل نقطة تجمع
بشري، من أجل حصد أكبر عدد من النفوس البريئة، والذين يفتون بحشر
المفخخات والناسفات وسط الأحياء السكنية لهدِّ أكبر عدد من البيوت
والمنازل والمجمعات السكنية على أهلها، فما أجهل من وضع نفسه في غير
موضعها وأظلمه، وما أصعب موقف العابثين بأمن الناس والمجتمع يوم لا
ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، ولعلَّ أسوأ من
أمراء الفتيا لفيف الناس الذين اتبعوهم دون هدى ونفذوا مراميهم، وما
أكثرهم في عالم الجهل بالحدود والإعتداء على المقدسات تحت مسميات الدين!
غراب الخراب
ولا يخفى أنَّ كتيب "شريعة الأحكام" الذي يمثل حلقة من سلسلة
الشرائع في ألف حلقة، للفقيه الكرباسي، يُعدُّ مرآة للحاكم والقاضي
والمفتي يضعه على الطريق السليم في كيفية إدارة الدعوى والحكم فيها،
وفك النزاعات بما يؤمن سلامة الأفراد والمجتمع وتحقيق العدالة
الإجتماعية، وقد اختار الفقيه الكرباسي كما في جملة الشرائع الأخرى
التي طبع منها 22 شريعة، منهجاً يجمع بين الفقه الإسلامي المتوزع في
بطون كتب الحديث والشريعة وبين مستجدات الزمان وبأسلوب حديث يدركه
الفقيه ويفهمه عامَّة الناس، متسلحاً بحديث الإمام الصادق(ع): (العالم
بزمانه لا تهجم عليه اللوابس).
من جانبه الفقيه والقاضي آية الله الشيخ حسن رضا بن حسين مزمل
الغديري تفحص الأربع عشرة بعد المائة من المسائل الفقهية التي أوردها
الفقيه الكرباسي في هذا الكتيب، فقدّم وعلَّق عليها بأربعة وستين هامشاً،
إذ وجد أن الأسلوب الذي اختاره المؤلف في "شريعة الأحكام" وفي غيره من
الشرائع كشريعة الجنين وشريعة الإرهاب وشريعة الإتصالات وشريعة
الإنتخابات، تميَّز بأمور أهمها: (1) إختيار العبارات السهلة الفهم
والواضحة المعنى، (2) إتخاذ الأسلوب التعليمي العام، (3) الإقتصار
بإتيان المواضع المهمة التي هي مورد إبتلاء عامّة الناس، (4) الإجتناب
والإحتراز عن المسائل الخارجة عن الحاجة العامة، (5) ذكر ما ينبغي أن
يُذكر في مجال البحث العلمي، (6) الإشارة السريعة إلى ما ورد في الأدلة
القطعية من الآيات والروايات حول الموضوع.
وفي الواقع أن تقديم الشيخ الغديري وتعليقه في هذا الكتيب والكتيبات
التي سبقت، نقطة أخرى تضاف الى منهج الشيخ الكرباسي وأسلوبه في تناول
المسائل الفقهية في عناوين الفقه المختلفة وتميزه به، فهو يود أن يشرك
فقيهاً آخر في المسائل التي يعرضها وبخاصة وأن اجتهاده واستنباطه ظاهر
في بعضها لاسيما في المسائل المستجدة عملاً بقول المعصوم الإمام المهدي
المنتظر(عج): (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة أحاديثنا
فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم)، ويترك تعليقات المقدم وهوامشه
كما هي حتى وإن اختلف معه في بعض أجزاء المسألة أو كلها.
والمفيد ذكره أن المسائل التي يعرضها الفقيه الكرباسي في "شريعة
الأحكام"، هي بمثابة معالم وخطوط عريضة للحاكم والقاضي وكل من يتصدى
للإفتاء في المسائل الواضحة والمبهمة، كما هي مقاييس للحاكم الشرعي
والوالي والإمام والرئيس، وذلك للمشتركات الكثيرة القائمة بين القاضي
والوالي في التعامل مع الدعاوى والتصدي للمشاكل، وبالذات في الحكومات
الإسلامية في العهد الأول قبل حصول التشعبات الكبيرة في الشؤون
الإدارية والحياة اليومية ونشوء التخصصات والفصل في أمور شؤون الولاية،
وهذه المشتركات وعلى وجه الخصوص جانب السيرة والسلوك يلخصها الإمام علي
بن أبي طالب(ع) في كتابه الى رفاعة بن شداد البجلي (ت 66هـ) لمّا
استقضاه على الأهواز، حيث يقول: (ذر المطامع، وخالف الهوى، وزيِّن
العلم بسمت صالح، نِعْمَ عون الدين الصبر، لو كان الصبر رجلاً كان
رجلاً صالحاً، إياك والملالة فإنها من السخف والنذالة، لا تُحضر مجلسك
من لا يشبهك، تخيَّر لوردك واقض بالظاهر، وفوِّض إلى العالم الباطن،
ودع عنك أظن وأحسب وأرى، ليس في الدين إشكال، لا تمار سفيهاً ولا
فقيهاً، أما الفقيه فيحرمك خيره وأما السفيه فيحزنك شرّه، ولا تجادل
أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن بالكتاب والسنة ولا تعوِّد نفسك الضحك
فإنه يذهب البهاء، ويجرئ الخصوم على الإعتداء، إيّاك وقبول التحف من
الخصوم وحاذر الدُّخلة- باطن الشخص وخواصه-، وو...).
ترى مَن يقدر على تحمل مسؤولية القضاء والحكم والإفتاء وبهذه الصفات
التي يحددها الإسلام؟
أوَ ليس من المهازل أن يتصدى لدفة القضاء وسدة الإفتاء من لا يحسن
الغسل والإستنجاء، ولا يسلم لسانه من الزلل والخطأ في قراءة آية من
القرآن الكريم!
ولكن.. لو تحلى أمراء الإفتاء وشيوخه، وما أكثرهم في هذا الزمن
الرمادي، ببعض الصفات المحمودة الواردة في كتاب علي(ع)، لما حلّ غراب
البوم في بلداننا ولما عشش الخراب في مدننا، كلما تقدم الآخر في عالم
الحضارة خطوة تأخرنا في عالم المدنية خطوات.
* الرأي الآخر للدراسات- لندن |