بين القائلين بأن الديمقراطية كفر بواح أو منكر صراح، والقائلين
بأنها التوبة ذاتها؛ بين القابلين لها بشكل مطلق، والرافضين لها بشكل
مطلق، والمؤمنين ببعضها والكافرين ببعض، يدور الخطاب الإسلامي المعاصر،
وتدور المعارك الطاحنة ذات الأدوات الداحس غبرائية، إذا صح التعبير.
ويعود هذا الاختلاف الذي يصل إلى حد التباين أحيانا لعدة أمور، منها
اختلاف الإسلاميين في تفسير كل من الديمقراطية والدين، مما يجعل البعض
يراهما متناقضين، بينما يراهما الآخر متفقين، ويراهما الثالث متوافقين
في الجوهر، قابلين للتوفيق مع بعض التعديلات؛ ومنها انتماء الديمقراطية
لفضاء ثقافي خارج الدائرة الإسلامية، مما يجعل البعض في شك منها مريب.
ولكي نضع النقاط على الحروف، رغم أنه لا خيار لنا في ذلك في زمن
الكيبورد «لوحة المفاتيح»، ولكننا سنبقى مصرين على هذا المصطلح حتى
إشعار آخر، ربما حتى يأتي جيل يضحك عليه وعلينا لأنه لا يفقه التفكيك
بين الحروف والنقاط، لأنه ببساطة لن يكتب بالقلم.
على العموم، لكي نضع النقاط على الحروف، نلخص إشكالات الرافضين
للديمقراطية في العناوين التالية:
1 - الديمقراطية منتج بشري، والإسلام دين إلهي. فكيف نأخذ ما ينتجه
البشر، ونذر ما جاءنا من الله ورسوله.
2 - الديمقراطية هي حكم الشعب بالشعب، والدين هو حكم الله.
3 - الديمقراطية تعني حكم الأكثرية، والأكثرية ليست دائما على صواب،
بل ورد ذمها في القرآن الكريم.
4 - مصدر التشريع في الديمقراطية راجع إلى الأكثرية، وهذا يتناقض مع
الدين.
5 - الديمقراطية أمر محدث، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة،
وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
6 - الديمقراطية تقوم على المساواة في الحقوق والواجبات بين
المواطنين كافة بغض النظر عن انتمائهم الديني، وهذا أمر لا يقره الشرع
كما يقولون.
7 - الديمقراطية تقوم على مبدأ الحرية، ومن ذلك حرية المعتقد وحرية
التعبير، وهذا - حسب رأيهم - لا يتفق مع رأي الدين.
قد تبدو هذه الأسباب وجيهة للوهلة الأولى، وقد يبدو الخوف من
الديمقراطية مبررا بسبب العلاقة الملتبسة بيننا وبين الآخر الغربي الذي
أصبحنا نتوجس خيفة من نتاجه الثقافي والفكري، بينما نحن غارقون في
نتاجه المادي الذي لا يمكن تفكيكه بحال عن الثقافة.
قد يبدو الأمر كذلك، غير أنه ليس بهذه البساطة، فالتفاعل بين
الثقافات لم يعد أمرا ترفيا، بل هو ضرورة حياتية، والمهم أن نتقن كيف
نتفاعل، وإلا أصبحنا خارج الزمن، نعيش مع الأحياء في المقطع الزمني
الراهن، ولكننا في الواقع أموات أكل علينا الدهر وشرب.
الديمقراطية كحل للاستبداد
"جبل كثيرون على الدندنة حول عيوب الديموقراطية، وهو نظر حسن لمن
عرفها وعاشها وخبر فلسفتها، وليس لمن يسمع عنها وينشغل بتفكيك اسمها،
والأجدر أن يدندنوا حول عيوب الاستبداد والسلطة المطلقة، التي هي شر
وفساد.
لا بأس أن نلاحظ أن الحكم الاستبدادي يمكن أن يحل محله أيضاً حكم
استبدادي، كما يقول أرسطو.
ولذا لابد من التواضع والاتفاق على صيغة تضمن العدالة والانتقال إلى
وضع أفضل.
لن يكون هذا الوضع مرضياً تماماً لأي طرف بالنظر إلى أنه لن يحقق
مجموع الصورة النظرية الموجودة لدى كل فصيل، ولكنه يمكن أن يكون مرضياً
للجميع باعتبار أنه الحل الأمثل أو كما يقول “تشرشل” عن الديموقراطية:
النظام الأقل سوءاً. " «د. سلمان العودة/أسئلة الثورة»
بعد ما سمي بثورة الربيع العربي، أصبح السؤال عن الديمقراطية
وعلاقتها بالدين أكثر إلحاحا، خصوصا مع تولي الإسلاميين في تونس ومصر
مقاليد السلطة؛ إذ إن مسألة التنظير خارج السلطة تختلف عنها من الداخل،
بل إن التنظير من خارج السياسة يكون أقل واقعية من التنظير حين
الاشتغال بها.
وقد حاول الكثير من الإسلاميين قبل الربيع العربي وبعده إيجاد
مصالحة بين الديمقراطية والدين، ومحاولة لتنسيج الديمقراطية فيه «أي
إدخالها ضمن النسيج الديني». وانطلقت هذه المحاولات من النظر لجوهر
الديمقراطية كحل للاستبداد، وأنه ليس النظام الأمثل، لكنه الأقل سوءا.
فحتى في مسقط رأس الديمقراطية لا أحد يدعي كمالها، ولكنها - مع كل
عيوبها - المنتج الأجود في عصرنا الراهن.
كان من ضمن المحاولات التنسيجية ما سماه الشيخ محفوظ نحناح «الشورقراطية
Shuracracy»، فإذا كانت الديمقراطية منتج بشري لحل مشكلة إنسانية، فإن
هذا لا يمنع المشتغلين بالفقه الإسلامي من الاستفادة من هذا المنتج لحل
ذات المشكلة، مع الأخذ بعين الاعتبار عدم التعارض مع مقاصد الإسلام
وثوابته. « فإذا حققت لنا الديمقراطية مبدأ الحرية والأمن والمشاركة
السياسية والتداول على الكرسي فإن ذلك من صميم الاسلام».
وفي سؤال للشيخ محمد مهدي شمس الدين عن الموقف من الديمقراطية أجاب
إجابة تنسيجية، قائلا: للديمقراطية بالمعنى الغربي وظيفتان، الوظيفة
الأولى، أداة للتشريع، الوظيفة الثانية، أداة لتداول السلطة.
والتشريع على قسمين، تشريع للأحكام، والتشريع التنظيمي «التدابير»
الذي يتعلق بالتنظيمات على مستوى التشريع، بمعنى سن الأحكام. نحن لا
نرى لأية سلطة بشرية الحق في التشريع، السيادة في المجتمع والدولة عند
المسلمين هي للشريعة الإسلامية، أما الجهة المختصة فهي الفقهاء. أما ما
يتعلق بالجوانب التنظيمية «التجارة، الزراعة، توزيع المؤن. إلى آخره»
هذه ليست أحكاما شرعية، بل هي تدابير ملزمة، فالحكومة الشرعية تدابيرها
ملزمة وهي متروكة للشورى يعني للديمقراطية، يعني عن طريق ممثلين
منتخبين بطريقة حرة واختيارية.
ثانيا: إنها وسيلة لتداول السلطة، إذ هناك آماد لكل سلطة من السلطات
من رئاسة لدولة إلى أدنى السلطات، وهي في أمور التدابير وتداول السلطة
لا تختلف عن الشورى، سمها ديمقراطية أم شورى.
ويقول في موضع آخر: فإذا شئنا أن نستخدم الديمقراطية بهذا المضمون
بعد تجريده من خلفيته الفلسفية الغربية وإدماجه في المفهوم الإسلامي «ولاية
الشريعة، ولاية الأمة على نفسها» فلا مانع.
في نفس السياق تقريبا حاول آخرون التوفيق بين الديمقراطية والدين،
وأجابوا على الإشكالات المتعلقة بالأكثرية والمساواة والحرية، كما
ناقشوا باستفاضة مسألة ولاية الأمة على نفسها، وبالتالي حريتها في
اختيار النظام الذي تريد.
الدين والدمقراطية بين الأكثرية والاقلية
من بين أبرز الإشكالات التي يطرحها معارضو الديمقراطية أن الإسلام
في النصوص القرآنية الشريفة قد ذم الأكثرية ومدح الأقلية، بينما
الديمقراطية هي حكم الأكثرية، مما يجعلها متناقضة مع النظرة الإسلامية
لمفهوم الأكثرية والأقلية.
ويستشهدون لذلك بجملة من الآيات التي تؤكد أن أكثر الناس لا يعلمون/لا
يشكرون/لا يؤمنون، والآيات التي تؤكد أن القليل من عباد الله الشكور
المؤمن.
لحل هذا الإشكال نوقشت هذه المسألة نقاشا مستفيضا، وتم الرد عليها
بالأدلة النقلية والعقلية. ففي كتابه «أسئلة الثورة» يقول الدكتور
سلمان العودة: " كتب الدكتور أحمد رحماني كتابا سماه: «الحقيقة
الجوهرية في مشكلة الأقلية والأكثرية» وخلص في بحثه الطويل إلى أن
الأكثرية على مدار التاريخ البشري تقف في الجانب السلبي، وأن الأقلية
الواعية هي التي تقف في الطرف الإيجابي.
بيد أن هذا التعميم يصطدم بأن القرآن الكريم ذم «الملأ» في الكثير
من الآيات، والملأ تعني: الكثرة وتعني السلطة. وفي السنة النبوية عوَّل
الرسول - صلى الله عليه وسلم - على شهادة الناس للإنسان بالخير أو الشر:
«أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِى الأَرْضِ». والإجماع هو أحد أدلة
الفقه الإسلامي، وقد يكون الإجماع تقريبيَّاً بمعنى أنه رأي الغالبية
ودون الإجماع رأي الجمهور أو الجماهير من العلماء، وهو غالباً أولى
بالصواب وقد يعبر عنه بـ «السواد الأعظم» كما في بعض الآثار".
ويقول السيد محمد الشيرازي في كتابه «الحكم في الإسلام»: إن الله لم
يذم الأكثرية مطلقا، بل ذمهم في زمان كون الأكثرية منحرفة عن سبيل الله،
ولذا لم يكن الأمر كذلك فيما إذا كانت أكثرية نسبية كما في سبيل
المؤمنين إذا ذهبوا إلى شيء، أو كانت أكثرية مطلقة إذا كان أهل الأرض
مؤمنين.
ويذهب الفقهاء إلى" أن الأكثرية ميزان للترجيح وليس معيارا للصواب
كما ذهبت الديمقراطية.
يقول الآمدي: «الكثرة يحصل بها الترجيح». ويقول النائيني:
«والأكثرية عند دوران التعارض، هي أقوى المرجحات» ".
ويعلق النائيني أيضا على موقف رسول الله في الخروج إلى أحد، قائلا:
« في غزوة أحد، مع أن رأي رسول الله المبارك وجماعة من أصحابه كان عدم
الخروج من المدينة المشرفة مرجحا التحصن فيها، وتبين بعد الحرب أن
المصلحة والصواب كان في البقاء في المدينة ولكن رغم ذلك خرج الرسول من
المدينة لكون الأكثرية أيدت ذلك.. فتحمل تلك المصائب الجليلة».
إن العقل البشري لم يستطع حتى الآن أن يبتكر وسيلة يصل بها إلى
اتفاق حول الشؤون المشتركة للمجتمع خير من مبدأ الأخذ برأي الأغلبية،
كما يقول الأستاذ محمد أسد في كتابه «منهاج الحكم في الإسلام».
إذن - وإلى أن يخترع المجتمع نظاما أفضل - سيبقى الأخذ برأي
الأكثرية هو الأنسب، أو الأقل سوءا. ومن هنا فإن مبدأ الأكثرية لا
يتناقض مع الدين في شيء.
الحرية بين الديمقراطية والدين
مبدأ الحرية من المبادئ الأساسية في الديمقراطية الليبرالية. وقد
اتخذه بعض الإسلاميين ذريعة لإعلان الطلاق البائن بين الديمقراطية
والدين، ولم يكلف نفسه عناء بعث حكمين من أهل الديمقراطية وأهل الدين
ليرى إمكانية التصالح والتوفيق بينهما. قال الدكتور عبد العزيز بن ريس
الريس: «مبدأ الديمقراطية يصادم الدين الإسلامي في أمور منها: حرية
الدين، وحرية التعبير بالرأي وهكذا... ». فالدكتور الريس لا يرى في
الإسلام حرية المعتقد أو حرية الرأي، وهذا مما يجعله رافضا للديمقراطية.
لا أدري كيف يفسر الدكتور الريس الآيات التي هي في صلب موضوع الحرية،
ومنها:
﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ﴾.
﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ
شاءَ فَلْيَكْفُر﴾.
في المقابل تعرض الإسلام للكثير من النقد من قبل الآخرين بسبب ما
يرونه من موقفه من الحرية الذي يقرؤونه في كتابات بعض الإسلاميين. وهذا
ما جعل هذا المبدأ أو المفهوم حاضرا بقوة في كتابات ونقاشات وسجالات
الإسلاميين في عصرنا الراهن، مثل كتاب «الحريات العامة في الدولة
الإسلامية» للشيخ راشد الغنوشي، وكتاب «حق الحرية في العالم» للأستاذ
الدكتور وهبة الزحيلي، حيث نقرأ فيهما دفاعا عن حق الحرية من خلال تصور
إسلامي. غير إنه - أي مفهوم الحرية - لا يزال بحاجة للمزيد من التحرير
والتأصيل، وتلك في الواقع مسؤولية فقهاء الأمة الذين يُنتظَر منهم
المزيد من الأبحاث الفقهية الموسعة في باب الحرية من وجهة نظر الإسلام
ومجالاتها وحدودها، ليس من باب الرد على الآخرين فقط، بل من باب بيان
الموقف في هذه المسألة الشائكة التي أصبحت مالئة الدنيا وشاغلة الناس -
وحق لها أن تكون كذلك - فلماذا لا تكون مالئة بعض الفقه وشاغلة بعضه؟
فإذا كان هدف الخلقة بحسب القرآن الكريم هو عبادة الله وحده التي
تعني التحرر من عبادة كل ما سواه، كما قال تعالى ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾، وإذا كانت البعثة النبوية لتحرير
الناس من إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فلماذا تغيب مفردة الحرية في
الفقه، وهي الحاضرة بقوة في القرآن الكريم؟
إن حضور الفقيه في الساحة واشتغاله بمسائلها الحديثة سيثري دون أدنى
شك الفقه الإسلامي نفسه، وسيسد الباب على الكثير من الطعون التي تُوجه
للدين وعلاقته بالحرية وغيرها من المفاهيم المتداولة حاليا.
لقد كان لحضور الشيخ النائيني مثلا وتفاعله مع حركة المشروطة ضد
الاستبداد أثره القوي في إنتاج رسالته المشهورة «تنبيه الأمة وتنزيه
الملة»، والتي دافع فيها عن الحرية، ورد على المغالطات المثارة حول
علاقة الدين بها. يقول متحدثا عن الحرية: «إن أصالة الحرية وارتباطها
بالإنسانية، وكونها من ضرورات الدين، هو مما يعرفه كل عاقل بغض النظر
عن دينه أو مذهبه، وهو مورد إجماع كافة الأمم والمجتمعات، على ما بينها
من شدة الاختلاف في سائر الأمور، كما هو حال المسيحيين، بل حتى
المجتمعات التي لا تدين بشريعة سماوية محددة. فمع اختلافهم الشديد في
مجال الأفكار، إلا أنهم نهضوا جميعا لاستنقاذ حريتهم فصارعوا الغاصبين،
وابتلي بعضهم بأشد مما ابتلينا به من المصائب، وبذلوا من نفوسهم أضعاف
ما بذلنا، حتى أقاموا أساس الحرية الوطيد». ويرى أن تحقق معنى
العبودية، لا ينحصر في القيام بأداء فروض العبادة المتعارفة في العرف
الديني الخاص، مثل التوجه للمعبود وإقامة الصلاة له على سبيل المثال،
بل تشمل أي خضوع تام من جانب واحد لآخر، خضوعا ينطوي على الاستسلام
النفسي، المصحوب بالتنازل عن الحق الأصلي الذي وهبه الخالق للإنسان في
الإرادة والاختيار الحر".
إن الحاجة لا تزال ماسة لمزيد من البحوث المعمقة حول الحرية في
المنظور الديني، خصوصا ما يتعلق بحرية الاعتقاد وحرية التعبير، خصوصا
في زمن الانبعاث الجديد التائق للحرية والرافض للاستبداد بكافة أشكاله.
http://www.facebook.com/profile.php?id=692249194 |