بعد صراع مرير دام قرابة العشر سنوات مع مرض (الفساد) فقدت البطاقة
التموينية حياتها بعد ان بقت في موت سريري لسنواتها الأخيرة، فشلت
خلالها كل محاولات أعادة الروح فيها، إعلان خبر الوفاة جاء بعد قرار
الحكومة العراقية إلغاء البطاقة التموينية واستبدالها بمبالغ مالية
واعتبارا من بداية العام المقبل حيث يمنح كل عراقي مشمول بهذه البطاقة
مبلغ 15 ألف دينار عراقي شهرياً (نحو 12 دولار أميركي) عوضاً عن
البطاقة، وقال معاون مدير عام دائرة التخطيط والمتابعة في الوزارة حيدر
نوري جبر، في تصريح صحافي أن (آخر إحصائية تشير الى أن عدد المسجلين
ضمن نظام البطاقة التموينية تجاوز الـ34 مليون فرد في أنحاء العراق) اي
اغلب المواطنين العراقيين.
القرار الذي يتوقع انه سيسبب إرباكا كبيرا لدى شرائح واسعة في
المجتمع العراقي وصعودا متوقعا في أسواقه المحلية حيث أكد المحلل
الاقتصادي (نزار السلطاني) إن مقترح إلغاء البطاقة التموينية وتعويضها
بمبالغ مالية سيؤدي الى رفع أسعار المواد الغذائية الأساسية، وقال
السلطاني في تصريح لوكالة {الفرات نيوز} (هناك غياب للإستراتيجية
الاقتصادية المرسومة من قبل الحكومة وقرار إلغاء البطاقة التموينية
وتعويض المواطن عن مفرداتها بمبالغ مالية يؤدي الى ارتفاع أسعار المواد
الغذائية الأساسية).
من جانبها بررت الحكومة العراقية هذا القرار نتيجة لاستشراء الفساد
في عقود التجهيز الى حد لا يمكن التخلص منه، فيما قالت مصادر في اللجنة
الاقتصادية التابعة لمجلس الوزراء طلبت عدم ذكر اسمها لـجريدة الزمان
ان قرار إلغاء البطاقة التموينية جاء بناء على توصية صندوق النقد
الدولي من اجل دمج الاقتصاد العراقي بالاقتصاد العالمي وتسهيل حصوله
على قروض بفوائد ميسرة من الصندوق.
أما السلطة التشريعية فقد تفاجأت هي الأخرى بالقرار على حد قول رئيس
اللجنة الاقتصادية البرلمانية (احمد العلواني) حيث قال (..ان إلغاء
البطاقة التموينية في مثل هكذا ظروف متمثلة بعدم وجود قوانين تحد من
استغلال التجار للسوق العراقية واضطراب اغلب دول المنطقة سياسيا
واقتصاديا سيجعل المواطن ضحية لجشع بعض التجار وسيربك السوق العراقية).
وبعيدا عن أسباب القرار فانه يمثل من الجانب (الاستشرافي) مؤشرا
خطيرا على معركة من معارك الفساد أدت بالنتيجة الى هزيمة واضحة لمؤسسات
الدولة بمختلف مسمياتها سواء الرقابية او التنفيذية وحتى القضائية منها،
ويبدو إنها ستكون معركة ذات أبعاد أخرى، فالجميع يؤمن بان البطاقة
التموينية التي أصبحت(رشيقة جدا) منذ سنوات عديدة لن تعود الى شبابها،
ولكن اغلب التصور بأن حضورها كان سيبقى (تشريفيا) الى حين تنفس السوق
العراقي الصعداء او حتى حالة استقرار نسبي او عودة سيطرة الحكومة على
نوعية وأسعار السوق المحلية، خصوصا وان البنك المركزي العراقي هو الآخر
يدخل في مطب مخيف من قضايا فساد وكلام كثير عن احتمالية التدخلات
السياسية بهذا الملف، حيث يعتبر الرصيد الأمين للعملة العراقي والساند
الأساسي للتعاملات التجارية العراقية بمحافظته على قيمة الدينار
العراقي مقابل الدولار الأمريكي واستقرار السوق المحلي.
قد يكون لأهل الاختصاص رأي مغاير في إن البلد يتحول الى عالم السوق
الحرة وهذا بدوره يحتاج الى تغييرات جوهرية في طبيعة التعاملات
الاقتصادية وإعادة هيكلة قوانين واليات الأسواق والمصارف الحكومية وحتى
الأهلية للتماشي مع السوق العالمية ولجذب الاستثمارات ورؤوس الأموال او
الحصول على شهادة الشفافية المالية للتعاملات النقدية في مصارفنا عموما.
ويبقى جميع ما يذكر خاضع لتقيم أهل الاختصاص من باب صحته أو عدمها،
إلا إن الأمر بعموميته يدل على مؤشرين مهمين:
أولهما: فشل الحكومة في محاربة ملفات الفساد التي فتحت بشكل كبير في
هذا الجانب وبقيت شخصيات المتهمين مجهولة او هاربة من القضاء لحد هذه
اللحظة حيث كنا نسمع يوميا تقريبا عن تورط مدراء عامين او بمناصبهم
بملفات الشاي الفاسد او غيرها وبقيت القضية دون حساب ولا عقاب، وإلغاء
البطاقة يعني غلق الملف بشكل رسمي وتمييع قضايا المفسدين وجعلها (تذهب
مع الريح) مع مليارات الدنانير التي صرفت وتحولت الى سماسرة وشركات
وهمية، وهذا بدوره يرسل إشارة الى باقي الملفات بأنها ستجد طريقها
للإغلاق في حال كشفها.
ثانيا: زعزعة ثقة المواطن بمدى جدية مكافحة الفساد من قبل الحكومة
والكتل السياسية ومؤسسات الدولة عموما وظهور تخوف كبير لدى عموم
المواطنين من احتمالية انسحاب الحكومة من مواجهة الفساد في ملفات أخرى
تعتبر أساسية في حياتهم اليومية، وخصوصا ملف الكهرباء الذي بات يشكل
معضلة كبيرة أمام استثمارات البلد ونموه الاقتصادي والصناعي والتجاري.
إذن فإلغاء البطاقة التموينية لا يعني ان الحكومة قد حرمت المواطنين
من سلة غذائية ممتلئة بتجهيزات مختلفة فالكل يعلم بان البطاقة في
سنواتها الأخيرة أصبحت (هيكل عظمي)، بلا لحم ولا دم، ولكنها كانت تمثل
مؤشرا على تواجد الحكومة في هذا المجال ومحاولة لتأمين غذاء المواطن
ولو بالحد الأدنى جدا، وتركها لهذا الجانب يعني ترك المواطن في مواجهة
سوق لا يعرف حدودا لأسعاره ولا ضوابط لنوعيته وهو ما يكون بمثابة حرب
مفتوحة الأبواب على أصحاب الدخل المحدود خصوصا.
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com |